متى بدأت «قصيدة النثر» في الآداب الغربية، وكيف؟ أول ما نلاحظه ونحن نمهد السبيل لإجابة شافية، أن هذا الموضوع من المسائل الخلافية. وعند الفرنسيين مثلا يعود الدارسون إلى بعض روايات روسو وشاتوبريان، حيث تستوقفهم مقاطع تعلو فيها الشعرية أو الانفعال، وقد سموها شعرا منثورا. ولكن قصيدة النثر لم تظهر مع بودلير، كما نجد في جل الدراسات عندنا نحن خاصة، وإنما ظهرت أول مرة مع ألوسيوس برتراند (1807ـ 1841) في نصه «غاسبار الليل» الذي يمكن عده أول قصيدة نثر في الشعر الفرنسي.
هو شاعر ومسرحي وصحافي فرنسي أمه إيطالية، قضى حياته بين ديجون وباريس، وامتهن مهنا شتى، وعاش في باريس حياة بوهيمية منساقا لشهواته، غير متردد ولا متهيب في الإعراب عن خلجات نفسه؛ ما حدثته بريبة، أو ألمت به نزوة؛ أو هو يأخذ الدنيا كما هي. وهو أول من كتب «قصيدة النثر» وليس بودلير. وكتابه الشعري «غاسبار الليل» لم يستكمله بسبب المرض وتردده على مستشفى نيكر في باريس؛ ظهر بعد موته. وكان قد شرع فيه عام 1835، ووصفه هو نفسه بأنه «فانتازيا متحررة من القيود التقليدية على طريقة رمبراندت ودو غالو». والكتاب أقرب ما يكون إلى قصيدة القناع، إذ هو استدعاء عجيب ذو طابع حلمي، للعصر الوسيط، مكتوب بلغة غنية بالصور والإيقاعات والأجراس، موضوعه رومانسي. وهو يتميز بما يسميه مالارميه «الشكل المكثف المُحكم». هو شاعر «ملعون»، في منزلة نرفال؛ ألهم بودلير، وقد اعترف بفضله عليه؛ وذكر أن «سأم باريس» هو من مؤثرات «غاسبار الليل»، بل هو ألهم مالارميه والشعراء السرياليين؛ خاصة بروتون الذي أشاد به. أما لفظ «غاسبار» فقد رأيت أن أحتفظ به كما هو في الأصل الفرنسي، لأنه اسم علم (اسم قديس)، على أن أضع بين معقوفين ما يوضحه للقارئ. والبعض يرجح أنه من أصل فارسي قد يكون معناه «حارس الكنز»، والبعض يراه من أصل هندي أو سنسكريتي معناه «العراف» أو «المستبصر» أو «الرائي». وعليه لم أرَ مانعا في أن يكون عنوانه «راصد كنوز الليل»، خاصة أن نصه «المجنون»، وأثبته كله في ما يأتي يعزز من وجاهة هذه الترجمة: كان القمر يمشط شعره، بمشط الأبنوس وهو يفضضُ بوابل من الحباحب، الهضابَ والحقولَ والغاباتِ./ كان سكاربو راصد الكنوز الفائضة، يذري فوق سطح بيتي، وهو يزعق مثل دوارة الهواء؛ دُوكا البندقية الذهبي، وفلورين هولندة الفضي التي كانت تتقافز منتظمة، والقطعَ المزيفةَ التي كانت تغطي الشارع.
ضحك المجنون هازئا وهو يذرع بلا هدف، شأنه كل ليلة/ المدينة المقفرة/ عينٌ إلى القمر، والأخرى مفقوءة/ دمدم: «حشيشُ القمر، وهو يلتقطُ بدائل الشيطان؛ سأقتني عمود التشهير (يربط به المحكوم لعرضه على الناس)، لأتدفأ به في الشمس. لكنه كان دائما القمر، القمر الذي كان يأفل/ وكان سكاربو يسك في كهفي أنا، دوكا البندقية، وفلورين هولندة، بدقات الرقاص المترجح/ فيما كان حلزون ضيعه الليل، يشق، وقرناه إلى الأمام؛ طريقه في زجاجياتي الساطعة».
أما النصوص الأخرى فأقتصر منها على هذه الشذرات:
ـ الانسان رقاص يسك النقود المعدنية [والشارات]، بسكته/ أما الأضعاف الأربعة فتحمل خاتم الامبراطور، وأيقونة البابا، وبديلة المجنون (قطعة مسطحة أو مربعة أو مدورة، تستعمل في ألعاب القمار بدلا من النقود)/ أراقب بديلتي في لعبة الحياة هذه حيث نخسر بلا انقطاع، وحيث الشيطان ينشل؛ لكي يتخلص منا جميعا، اللاعبينَ والنردَ والطاولةَ الخضراءَ. أما الامبراطور فيملي أوامره على قادة العساكر، وأما البابا فيرسل براءته إلى المسيحيين/ وأما المجنون فيكتب كتابا/ هو ذا كتابي كما عملته، وكما ينبغي أن يُقرأ؛ قبل أن يجعله المفسرون ليلا بهيما، بإضاءاتهم.
ـ كانوا دزينة يحتسون حساءهم، في تابوت، وملعقة كل منهم ساعد ميت.
ـ ربيع آخر، قطرة ندى أخرى ستترجح لحظة في كأسي المرة، وستتسرب مثل دمعة.
ـ صغار المقاطعة، في طريق العودة، وصياحهم يستنطق صدى الحي الرنان؛ ومثلما يتبع السنونو الربيع، هو يسبق الشتاء/ أكتوبر ساعي بريد الشتاء يدق على أبواب منازلنا/ مطر متقطع يغرق زجاج النافذة الباهر، والريح تنثر أوراق شجرة الدلب، الميتة، على مدخل الدرج المنزوي.
٭ ٭ ٭
غير أن المصطلح ظهر مع بودلير في «سبلين (سأم) باريس» فلوتريمان في «أناشيد مالدورور» ورامبو في إشراقاته أو تخيلاته، وهي ـ وهذا رأي لي ـ أشبه بمنمنمات، فمع هنري ميشو وروني شار، وفرانسيس بونج الذي احتفى بالأشياء العادية مثل «الخبز» الذي يصوره قشرة أرض بديعة، والشمعة، وسلة القصب والعظاية، وما يتميز به شعره من التلاعب بالحروف والأسماء.
ذاع صيت قصيدة النثر، وراجت سوقه في أنحاء شتى من العالم، وإن لم يستوِ على سُوقِه عندنا إلا في تجارب محدودة جدا؛ وينبغي ألا تخدعنا سطوة بعض الأسماء، وأكثر النصوص من الهباء الذي لا يدوم ولا يعمر. والحق أن الموضع طُرح عند العرب، أول ما طرح مع القرآن في سوره المكية، إذ قال بعضهم وهم شعراء إنه شعر؛ وواضح أنهم كانوا يقصدون مطلق الشعر أو «الشعرية» بمصطلحات اليوم. وخلص علماء الإعجاز إلى أنه ليس شعرا بمعنى القصيدة وإنما بمعنى الصنعة اللطيفة في نظم الكلام، بعبارة الباقلاني. والقرآن يستمد قوة تأثيره، كما يبين هاماتون جيب في مقالة له ممتعة؛ من سياقه اللفظي «إذ يتكلم كأسفار النبوءات، بلغة الشعر؛ وإن لم يخضع لقيود الشعر من وزن وقافية»، فيكون له صدى في العقل والبصيرة والحدس. والكنيسة المسيحية نفسها استعانت بالموسيقى في الصلوات، على نحو ما تعهد المسلمون فن الترتيل والتجويد، بما يشحذ الخيال والشعور. على أن الموسيقى شيء، والشعر والإيقاع شيء آخر مختلف؛ ليس بالإمكان إدغام سلم الأصوات في اللغة، في سلم الأصوات الموسيقية. والكتابة العروضية نفسها لا تزال كتابة صوتية. وإذا كانت الموسيقية أو «الترقيم الموسيقي» تحد بنسبة أو بأخرى المجال الصوتي، وتمكن من أداء القطعة الموسيقية أو تسجيلها وتحيينها، فإن الكتابة المقطعية أو الهجائية تقتصر على إعادة إنتاج اللغة المحكية. فيما لا تنهض الكتابة العروضية بأي وظيفة من هذه الوظائف. فهي مجرد كتابة «وزنية» تحد التفعيلة أو تفصل التفعيلات بعضها عن بعض، وتيسر للمبتدئ معرفة البحر الذي يدور عليه البيت. وإذا كان لها من وظيفة فهي لا تعدو الوظيفة التعليمية. إن الترقيم الموسيقي موضوع للمؤدي أو العازف الذي ينبغي أن يتقن قراءته لا شك، حتى يتمكن من أدائه أو عزفه، فإلحاقه بكيانه الموسيقي. فالعازف أشبه ما يكون بقارئ القصيدة أي منشدها. والمنشد إنما يؤدي القصيدة على مقتضى قواعد الإنشاد، ليلحقها، بكيانها الشعري.
٭ ٭ ٭
ما يعنيني في هذه الفسحة، أن الشعر العربي يعيدنا إلى هذا السؤال القائم أو المطروح: ما هي قصيدة النثر؟ وهل ما كتبه ويكتبه العرب قصيدة نثر حقا؟
نميز اليوم نمطين في قصيدة النثر، أولهما «قصيدة شكلية» تنتظمها بنى متواترة، وثانيهما «إشراقة»، أو استضاءة عقلية «ذات قادح لغوي خاطف» من شأنها أن تحدث هزة فورية في القارئ؛ على نحو ما نجد عند الماغوط أو صلاح فائق أو أمجد ناصر أو عند ليانة بدر في «أقمار» أو سنية الفرجاني في «امرأة بني باندو».
ويمكن أن تستوقفنا أيضا الموسيقية المجانسة الصوتية أو الجناس الاستهلالي مثل تكرير حرف أو أكثر في مستهل لفظتين متجاورتين، أو تقفية عند البعض، وهو مستغرب، لأن هذا النوع سعى منذ بداياته إلى التحرر من غل القافية التي تكبل المعنى. ومن خصائص هذا النوع أيضا، التكرار أي ابتداء عدة عبارات متتابعة بلفظ واحد لغرض بلاغي، أو إدارة سلسلة من الصور والأفكار والأحاسيس المتداعية، بدلا من موضوع بعينه، أو اختلاق قصة، أو تمثل حالة أو مشهد؛ على الرغم من أن بعض النصوص تنحو منحى سرديا، أو اعتماد معجم وتراكيب نادرة أو مصطنعة أو قليلة الدوران. وهو على ذلك نص محكم البناء عند البعض، حتى وإن نهض على حشد من الصور. ولكن ينبغي أن يكتب مثل النثر، وأن ينظم في فقرات ومقاطع، لها بداية وقفلة؛ أي أن يشغل فضاء السطر كله، وليس بعضه كما هو الشأن في قصيدة التفعيلة أو في الشعر الحر. وأما من حيث الموضوع فهو المتخيل والحلمي والعجيب والمدينة العصرية والحياة اليومية بتفاصيلها وشواردها.
ويمكن إجمالا أن نقرر بكثير من الاطمئنان أن إيجاز النص، وإيقاعه المنسجم المتناسق السلس، في دفء وقوة روح، هما من أظهر سمات هذا النوع. غير أن أكثره اليوم زخرف لغوي أو «كيتش».
٭ كاتب تونسي
منصف الوهايبي
اضع بعض الحروف في وجه هد ا التقرير الفني الآدبي التحليلي بين قوسين تحية للكاتب المحترم الشعر لامفر لنا منه كون شاعرا او لاتكون فهويعيش معنا ويكفيه فخرا واعتزازا دكر في الكتاب السماوي بين قوسين كدالك وما علمناه الشعر -والشعراء يتبعهم الغاوون -وان له يدا طويلة في القدم لم تكن ساعتها الرواية ولا المسرح ويكفيه فخرا كدالك كثرة اسماءه وسعة بحوره الثي تتجاوز العشرة ندكرفقط بعضا منها بحر الطويل بحر المديد البحر البسيط البحر الوافر البحر الكامل البحر الهزج البحر الرجز البحر الرمل البحر السريع لااريد ترجمتها بااللغة الفرنسية او الآنجلزية فااللغة العربية لغة النغمات الموسيقية عن جدارة واسثحقاق فاالشعر نفسه نغمات موسيقية والا ما الفائدة في القصيدة الخالية من النغمة الموسيقية وعلى اي شيء كانت تتحدث عنه الشعراء منازل بعضهم فوق بعض منهم من رسم لوحاته وتفنن فيها بلغة الشعر وحده اللوحة بعطر الشعر ومنهم من رسم لوحاته بلغة النثر المنافس لشعر لآن النثر حر لاقيود ولاشروط وهو بدوره يرمز فقط وعالمه عرف مخضرمين وهد ا الدي رسم له الكاتب المحترم الكلمات واحد ا منهم فاالحياة تختلف .
إA
واضح أنّه شاعر متمكّن. أرجو أن تنقل الكتاب كلّه إلى العربيّة. شكرا لك أستاذ منصف وشكرا للقدس العربي