تأصيل «الثبيتية»

في ملتقى جائزة الشاعر محمد الثبيتي للإبداع الذي أقيم في الفترة ما بين 1-2 سبتمبر/أيلول 2015 ضمن الدورة الثانية للجائزة برعاية النادي الأدبي الثقافي بالطائف، أُستعيد الشاعر ومنجزه الشعري بطرائق مختلفة، سواء عبر إنشاد قصائده، أو من خلال الدراسات والبحوث المتعلقة بمنحزه، أو عبر المشهد المسرحي التجسدي لنصوصه، وحتى من خلال الحوارات الجانبية الكثيفة، وهو استحقاق تشكر عليه إدارة النادي، التي استطاعت بالفعل أن تجعل من الثبيتي كنص وكإنسان وكمثقف طقساً موسمياً يمتلئ بالبهجة والوفاء والمعرفة، وهذا هو بعض مرادات الجائزة، أي توطين الثبيتي في الوجدان الشعبي، بموجب رصيده الإنساني والشعري، من خلال إعادة ترتيل قصائده وموضعة منجزه في حقل الدراسة، فهو مشروع قراءة دائمة باختلاف المناسبات والأدوات والوسائل وتعاقب الأجيال، الأمر الذي سيؤدي في نهاية المطاف إلى تأصيل (الثبيتية) كمدرسة شعرية قابلة للتوطين في المشهد الثقافي والحياتي، من خلال الاختلاف بها وعليها حول ماهية الحداثة الشعرية وممكنات المقايسة الأدبية.
دراسات هذه الدورة تقدمت بعض الشيء عما كانت عليه في السابق، حيث استطاعت هذه المرة الدخول إلى غرفة الثبيتي وتقليب صفحاته الشخصية وحميمياته، والتماس مع بؤر وأسباب القصيدة عنده، كما اتسعت رؤية بعض الباحثين ضمن مقترح بمقاربة منجزه كقصيدة واحدة لا كنصوص مجزأة، للوقوف على رؤيته الجمالية للوجود، كذلك تمكنت بعض القراءت من جس المكوّن الأسطوري في نصوصه ككتلة معرفية قابلة للفحص البنيوي، كما توغلت مطالعات أخرى في خصوصية البنى الإيقاعية في شعره، واستكناه رصيده التراثي، سواء على مستوى الصوغ أو المادة المستدعاة إلى سياق النص، وهي مساحات قد تكون مأهولة من قبل في ما يتعلق بمنجز الثبيتي، إلا أنها ضمن الملتقى الثاني اكتسبت أبعاداً أكثر جدية واقتراباً من عوالمه.
وبالمقابل هنالك من الباحثين من لم يتقدم خطوة واحدة إزاء شعرية الثبيتي، حيث تكررت القراءت الإرتكاسية حول أشكال التنكيل النفسي والاجتماعي والوظيفي، الذي طال الثبيتي من التيار المحافظ، في مدار ما عُرف بصراع القدامة والحداثة، كما تم اجترار مواقف حياتية مستهلكة، حيث تمددت الذكريات الشخصية في مساحة كبيرة من الجدل حول شخصيته، وكأن المقام ليس معرفياً وأدبياً، بقدر ما بدا عند بعض الدارسين فرصة للمرافعة عنه من الوجهة الأخلاقية والثقافية والأدبية، لدرجة الإيحاء بأن محمد الثبيتي يمتلك سيرة بيضاء، خالية من أي هفوات، وهذا المنحى التنقيحي للذات الثبيتية لا يضيف أي شيء لشعريتها، ولا يقدمها بكيميائها البشرية التي أنتجت ذلك الشعر المدهش.
إن الإبقاء على الثبيتي كشاعر في دائرة الصراع ما بين الأطياف الاجتماعية يحدّ من أثره الشعري، كما أن الإصرار على موضعته في القاطرة الأولى للحداثة الاجتماعية بدون قرائن وشواهد جمالية معرفية يعطل حداثته الأدبية، بالقدر ذاته الذي يعيد توتير الأجواء الصراعية التي يذهب ضحيتها كل ما هو أدبي، بالإضافة إلى ضياع فرصة ذهبية لاكتشاف سر شاعرية الثبيتي الأخاذة، ومكامن تأثيرها على النخبة وتسلُّطها على الجمهور.
ذلك يعني أن الدارسين المغرمين بالاستنقاع في السجالات الهامشية، الذين يحومون حول نصه ولا يستطيعون النفاذ إليه، إنما يؤسسون لفعل غير ثقافي تحت عنوان الثقافة، وذلك بتلفيظ حضور الثبيتي والامتناع أو العجز بمعنى أدق عن تفسير سحرانية حضوره، وهو أداء مخالف لاستراتيجية القائمين على الجائزة، الذين يأملون تعميم الحالة الثبيتية وتأكيد استحقاقها للدراسة الممتدة في الزمان والمكان.
للشاعر محمد الثبيتي بصمة شعرية برزت ملامحها حتى قبل وفاته في 15 يناير/كانون الثاني 2011، وقد صارت تلك البصمة تتوضح وتفرض سطوتها مع تراكم القراءات والدراسات المهتمة بشعره، بمعنى أن الثبيتية أصبحت مدرسة لها أركانها في المشهد الثقافي، وربما لهذا السبب اختارت الأمانة العامة للدورة الثالثة عنواناً بحثياً يتعلق بأثر الثبيتي الشعري في معاصريه من الشعراء، وهو اختيار موفق وعلى درجة من الفطنة والأهمية، فهناك من وقع تحت سلطة معانية، ومن استعار قاموسه، ومن جاراه في إيقاعاته، ومن اقتبس أجواءه وموضوعاته وهكذا، إذ لا يمكن التغافل عما أحدثه على مستوى كتابة القصيدة الحديثة في السعودية، وإن كان هو أيضاً سليل أُبوات شعرية ومجرات تأثير أدبية كبرى.
هذا العنوان الذي يختزن في طياته اعترافاً صريحاً بالمظلة التأثيرية للثبيتية يعني ويحتّم قراءات أخرى متجدّدة لشعره، كما يُلزم القائمين على الجائزة والدارسين برفع مستوى وأفق القراءة للتجربة الثبيتية، أي تحرير الدراسات والأوراق البحثية من اللغة الاحتفائية وإعادة تقييد الثبيتي بمرحلة الصراع المفتعلة ما بين الأصالة والمعاصرة وما يتداعى عنها من خصومات مجانية، لأن موضعة الثبيتي في هذا المدار ينفي عنه شاعريته ويدخله في مطحنة الصراعات الاجتماعية.
إن العودة بمنجزه إلى المربع الأول من مهاترات المحافظين والمجددين يفوت فرصة توطين شاعر كبير بقامة محمد الثبيتي في قلب المشهد الثقافي والحياتي، فهو ليس شاعر قبيلة ولا يتحرك بشعره في حيز جغرافيا ضيقة، كما أنه لا يمثل حائط صد لجماعة مستهدفة ليقيم الدليل على صحة هذا التوجه أو ذاك، وبالتالي فإن أي قراءة تضغطه في الإطار المحلي لدغدغة مشاعر فئة محدودة من القراء هي بمثابة جناية ضد شعريته، لأنها تمنع الإنسان العربي من التعرّف على طاقة شعرية هائلة.
أما الملتقى الذي يحفّ بأجواء الجائزة فهو جزء عضوي منها، لأن محمد الثبيتي ليس شاعراً لنخبة من الباحثين والدارسين، بل هو شاعر الناس، وهو الأمر الذي يحتّم رفع منسوب كفاءة الأوراق التي تبحث في شعريته، لأن هؤلاء الذين يحبونه غير معنيين بخصومات مرحلة منقضية وما زالت تعشش في أدمغة بعض المأزومين، حيث استطاع الزمن، بما هو أكبر ناقد، أن يقطّر شعر الثبيتي، ويقدمه كخلاصة فنية أدبية لتجربة إنسانية أخلاقية، هؤلاء الذين يحبون الثبيتي يهمهم معرفة ماهية الثبيتية الشعرية، ليتعرفوا على سر إعجابهم الغامض به بعيداً عن المهاترات وبدون جرعات الاحتفائية المجانية.

ناقد سعودي

محمد العباس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية