تدجين اللباس

اللباس لغةٌ من اللغات، وهذا ما تقرر من خمسينيات القرن الماضي علميا على يد السيميولوجي الفرنسي رولان بارت. كونُ اللغة لباسا لا تحتاج إذنا من عالم في العلامات، فهي شيء يَحدس به الإنسان البسيط لحظة يلبس، وفي نيته أنْ يقول للناس شيئا ما بلباسه. لكن أن يقول السيميائيون إن اللباس لغة، فذلك يعني أنهم سيوفرون له الأدوات النظرية والمبادئ العلمية التي تجعله موضوعا للدرس.
وفرت اللسانيات لهذه اللغة رصيدا مفاهيميا ووسائل منهجية بها تصدت لدراسة اللباس، من تلكم المفاهيم الدال والمدلول والقيمة والنظام؛ وهي مفاهيم لسانية سوسيرية معروفة. وصار اللباس بهذا الاقتضاء دالا من النسيج له تصميم مُعين ولونٌ وشكلٌ لا يتم إلا وهو ملبوس؛ وصار لهذا الدال مدلولٌ، إذ قد يدل على أصل اللابس وعلى أيديولوجيته وعلى عمله وعلى حزنه وفرحه، وغيرها من المدلولات المتواضع عليها في ثقافة وفي وضعية معينتين. غير أن الإشكال هو أن المدلولات تظل خفية لأن المواضعة عليها، إما أن تكون مبهمة أو مشكلة أو غير معلومة؛ لذلك يكون سوء التفاهم باللباس أكثر من التفاهم، ويظهر ذلك في الخلافات على اللباس، سواء أكانت بين الأجيال أم بين الأيديولوجيات.
ومن المفاهيم اللسانية المستخدمة في دراسة لغة اللباس، مفهوم النظام الذي يرتكز على متصور القيمة؛ فأي صوت أو أي علامة لغوية ليس لها وجود خارج تقابلها مع بقية الأصوات والعلامات، وهذا يعني إن نقلناه إلى اللباس أن أي قطعة مما نلبس لا قيمة لها إلا في تقابلها مع غيرها من القطع. يظهر ذلك في القطع المزدوجة من اللباس أو الثلاثية أو الرباعية، وفي أكثر الأفكار تداولا في الأناقة: وهي التناسق بين أجزاء ما يلبس في ذاتها، وفي تناسبها مع معطيات الجسد. وأن يكون اللباس نظاما علاميا، وبالتالي لغة يعني أن نعترف به مثلما نعترف بنظام إشارات المرور، وأن تضبطنا قواعده كما تضبطنا قواعد المرور.
إلا أن لغة اللباس تشكو من المواضعة الكافية التي تتمتع بها اللغات الطبيعية، فلأمر ما اكتفى البشر بالمواضعات الأساسية حول اللباس، وتنازلوا أو تغافلوا عن أن يتواضعوا على ما يكفي منها ؛ فكثير من سوء التفاهم بيننا حادثٌ لأننا نرسل إلى من نلبس لهم ما نلبس رسائل بلباسنا ذاك فلا يفهموننا. نحن نتواضع باللباس على تحديد الهويات الجغرافية والدينية والمهنية. فيمكن داخل رقعة جغرافية صغرى أو كبرى أن يتميز الناس بألبستهم. وما تزال الهويات الدينية أو ما شابهها تستخدم اللباس للغرض نفسه، حتى إن هناك من اللباس ما سمي بالطائفي، تسمية قد تنقلب إلى اتهام بالانغلاق والخروج عن طراز في اللباس جماعي. وما يزال اللباس دالا على الأحوال الشعورية فللأعراس لباسها وللمآتم أخرى غير أن اللباس هو في هاتين المناسبتين – وكأي لغة رسمية – قد لا يقول ما ننفعل به، بل ما علينا أن نظهره للآخرين على أنه انفعال.
وللباس هوية طبقية: فللأشراف والنبلاء لباس وللفقراء آخر، لباس أولئك مُنَقى مُصَفى مُطرز؛ ولباس هؤلاء مُهمَل مخلوط ومُهَلْهَل؛ لباس هؤلاء ميت على أجساد حية، ولباس أولئك قابل بعد تركه لأن يباع من جديد ويلبس. وتزدهر اليوم تجارة كاملة لبيع لباس «اليد الثانية»، فتقبل عليه في البلدان الفقيرة الطبقة الوسطى والفقيرة سواء بسواء. ولقد خلقت صناعة اللباس للطبقة العامة والعاملة (وبينهما تجاور وجناس حتى خارج اللفظ) لباسها الأشهر الذي لم يخلق نظير له في طبقة اجتماعية أخرى: إنه «الجينز» وسوف يصول هذا اللباس ويجول ويغزو كل الطبقات وسيُميل إليه كل الأعناق.
إن أكبر ما يكدر صفو المواضعة الواضحة في اللباس هو تدجينه. نعني بتدجين اللباس أن يخرج لباس ما من دائرة جماعة أو طبقة تختص به ليرتديه غيرهم لسبب ما. ولنأخذ على سبيل المثال لباس «الجينز» الذي بدأ شعبيا ذكوريا، وصار يغزو الطبقات العليا ويكسوا أجساد النساء. «الجينز» الذي يقال عنه في بلادنا «دجين» لباسٌ دُجنَ، ولنقل للتبسيط وقياسا على اللغة إنه كان في أصله لغة عامية تستعمل بين السواد، فصار يُتكلم بها في مجالس الصفوة ويستعملها النسوة في مجالسهن اللطيفة والحميمية؛ وبالطبع حين ينقل الصفوة لغة العامة سيتكلمونها بتحريف هو عند عامة الشعب تلطيف، وسوف يوشونها بأساليبهم؛ وحين يسمع العامي مَنْ كان أعلى من طبقته يتكلم لغته اليومية بلكنة غريبة، سيراها أجمل وسيشعر بها ألطف وسيحاول رغم فظاظة أدائه وعجرفة نطقه أن يتلطف فيها كما تلطفوا؛ وحين تسمع نسوة العامة لغتهن وقد نطقتها نسوة الأشراف بلطافة، فإنهن سيلطفنها كما لطفنها: هذا عينه ما حدث مع «الجينز».
لغة «الجينز» فيها كثير من الثورة والتدجين: فكثير من السلط في كثير من البلدان تمنع الجينز. ولقد شكا إليّ سائق سيارة أجرة مرة من التضييق على أهل المهنة في هذا اللباس، وهم لا يرون غيره أنسب لهم ثمنا وطواعية. ودعاني طالبي في دار المعلمين العليا الذي يجتاز تدريب التدريس في المعاهد الثانوية إلى أن أطلب من مفتش المادة أن يسمح له ولزملائه بأن يرتدوا الجينز الممنوع، فأيدت – بحكم وجودي في صف السلطة المحافظة على النظام – رأي المفتش ووصفته بالقانوني والسديد ،غير أن طالبي سألني: أستاذ، إن كنا لا نلبس الجينز فماذا سنلبس؟ أطرقت قليلا بعد أن هزني السؤال وقلت لم أكن بقولي مقتنعا: إلبسوا على الأقل واحدا منها محترماǃ
كنت أعلم وأنا أجيبه أن «الجينز» يزعج السلط: ما يزال سوء التفاهم بين الأب السلطة والمُدرس السلطة والإداري السلطة من ناحية؛ والابن المتعلم والموظف والعامل من لابسي الجينز المكسرين به هذه السلطة من ناحية أخرى. واللباس تمرد على هذه السلط ولذلك تشعر بالاستفزاز حين تراه ملبوسا.
دخل الجينز إلى البلاط وخرج منه لباسا رفيعا يمكن أن نراه عند وزير في العطل يرتديه ليقرب منه قلوب ناخبيه. ودخل الجينز السجن فنزعوا عنه حزامه وتدحرج اضطرارا وخرج منه متدحرجا اختيارا: كان الحزام يصل الطبْيَيْن فيعلو مضطرا، لكنه استفل اختيارا فقرأته السلطة قراءة مغرضة على أنه علامة اسْتِفَالٍ. ودخل «الجينز» ذات مرة خدر النساء، فلبسته إحداهن فكشف بما فيه من طواعية، فتنتهن. وفر جينز فقير ذات يوم إلى أحد أحياء الأشراف فلبسه ابنٌ لهم أو ابنةٌ ، فصارَت للمُزَقِ جمالية لأنها كشفت عن مواضع الفتنة قصدا لا جبرا. صارت علامات الفقر اختيارا لا قدرا، وصار الترقيع والرتق جمالا وبهاء؛ وانقلبت أحوال اللغة بعد تدجين هذا اللباس، وصرنا به في أكبر لُبْس: هل هذا فقر مقدر أم عرض للجمال؟ لتتأكدَ تَمَل في الوجوه؛ إنْ فعلْتَ وقعْت في شراك اللباس، صرت ترى الجمال وكنت تنوي أن تتحقق من الانتماء؛ عندها ستكون النظرة الأولى لك والثانية ليست بالضرورة عليك هي أيضا لك: هي الأولى التي لك، لكنها تأخرت عن نظرة البحث عن الانتماء.

أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية.

 تدجين اللباس

توفيق قريرة

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد:

    أحسنت القول أستاذ توفيق

  2. يقول تونسي ابن الثّورة:

    مقال طريف في لغة اللّباس التي تفتقد إلى مواضعات صارمة كما هو الحال في اللّغات الطبيعيّة ، ولكنّ هذه اللّغة لا تعبّر دائما عن اختيارات وإعادة تشكيل للمفاهيم والجماليّات مثل “الدجينز الفقير” الذي دخل دور الأغنياء بل تعبّر عن التزامات تجعلها لغة مفروضة بمنطق القانون أو بمنطق القوّة والتّسلّط كلباس العقوبة السّجنيّة والإعدام .

  3. يقول د. سامي عبد الستار الشيخلي سويسرا:

    مقالك جميل الطرح: اللباس أضحى علامة ثاقبة للعين ومؤثرة في التقنين الافتراضي إجتماعيا لمن في داخله!؟ تفرض الاحترام أو غيره بمنظار!؟ لعله كذا..بل أضحى سوقا تجاريا بلا منازع. أنَّه غطاء لعلامات الجسد.فأضحى علامة تخفى أبعاد لابسه نفسيا وتُظهره بتفوق إجتماعي حسب وجهة نظره.قيل إلبس ما تشاء لكن جوهرك يُظِهرك بلسانك وسلوكك.ولباس التقوى خيره مِن كُلِّه. فمستواه يرقى على جسد لابسه مهما يكن طبقيا أو رسميِّا.

إشترك في قائمتنا البريدية