■ هل ثمة إمكانية للحديث عن خصوصية قول، يستقل باستثنائيته ضمن ما تتميز به خرائط الكلام من تفريعات وتشعبات، مكتظة بتشابكاتها وتقاطعاتها المسترسلة؟ فثمة دائما استئناس مسبق بإيقاعات ودلالات قول، يوحي بسابق سماعِه، قولِه، أو محاورتِه، حيث سيكون من النادر العثور على خطاب جديد لم يُتلفَّظ بعد به، مهما تعددت أراضيه، ومهما تعددت لغاتُه، فدائما ثمة شيءٌ كانت لنا من قبل معرفة به في هذا الخطاب، وهو ما ينطبق على ما تمت رؤيته، ومعايشته، بفعل جدلية الثوابت المنفتحة بسخاء على ديمومة تنويعاتها، انسجاما مع خصوصية المجال الصوتي والبصري، اللذين تتفاعل فيهما الذوات، وأيضا انسجاما مع طبيعة المكونات الثقافية، الحاضرة في المشهد العام .
على هذا الأساس، لن تكون ثمة رغبة في الإنصات إلى ما لم يسبق لنا أن تمثلْنا الحدَّ الأدنى من عناصره، حيث تظل المؤشرات المُحِيلةُ على مخزونِ الذاكرة السمعية والبصرية، ضروريةً من أجل إضاءة ما لم يسبق لنا رؤيته على الإطلاق. فنحن دائما نحتاج إلى مؤشرات تُبدِّد غموض المجهول، وتستحثُّنا على التفاعل معه، مهما كان عصيا وشائكا. موضوعيا، يتخذ القول شكل حق عام، ليس لأحد منازعة غيره عليه، وبالتالي فإن البعد الموضوعي لهذا الحق، هو المصدر الطبيعي للوجود البابلي، أو بالأحرى، لِلبلْبلَةِ اللغوية والقولية، المنفتحة أبديا على مدارات لانهائية من مدارات الكلام، والمعبأة باستمرار بأجهزة توليده، كي يتحول في نهاية المطاف إلى طاقة كيميائية، يستمد منها الكون حقه في الوجود، وهو حق يستقيم على أساس الدلالة، إذ لا دلالة للوجود بدون حضور الكلمة، عاقلةً كانت أو خرقاءَ، لأن عِلَّة الوجود، تكمن أساسا في قدرته على دفْع القول كي يتشعب ويتعدد، ما دام هذا التعدد هو المِرآة التي يتعرف فيها الوجود على ذاته.
وبما أن هذه الذات تتمظهر عبر الصيرورة المتفرعة والمتنوعة، فإن الحاجة إلى قول واصف ومؤول لها، يظل ضروريا، بل إن الوجود، يستمتع بهذه البلبلة القولية، التي تضاعف من اختلاف المنظورات ومن تصادمها وتنافرها، وهو الشيء الذي يضعه خارج خانة مقولاتية نهائية وأخيرة، وهذه الخلاصة تدعونا للإقرار بأن دلالة الوجود، سوف تكون عرضة للبدد، في حالة توقف عمليات إنتاج القول، بما يعنيه هذا التوقف من عبورٍ لأزمنة ما بعد القول، التي هي أيضا أزمنةُ ما بعد الصمت، كما أن الْمَا بعدَ هنا، يحيلنا مبدئيا على ذلك الحد الآخر المستقل بمنازله ولغاته وأسراره، علما بأنه، وبما يمتلكه من غموض، هو أحد المصادر الأساسية لتفجير القول وتنسيله، كي تتكفل الرياح المرئية واللامرئية بتذريته، حيث توجد ثمة ذات بشرية منكبة على نسج نصوص شروقها أو أفولها،. والإشارة إلى البعد البشري، هي إشارة ضمنية إلى ذلك النسيج المعقد، الذي يضم ما لانهاية لأعداده وألوانه وأنواعه من خيوط، التي على الرغم من تواجدها ضمن النسيج ذاتِه، إلا أنها في الوقت نفسه، تظل محتفظة بخصوصيتها وهويتها، حيث ينفصل القول عن القول، كما ينفصل الحرف عن الحرف، وحيث تنحفر الحدود عميقا، وبصورة معلنة بين الخيط والخيط، وبين الصوت وصداه، وداخل النسيج العام أيضا، تحتمي الخيوط الهجينة بضوء الخيوط الأصيلة، كما تضيع خصوصية الخيوط الأساسية في قلب الخيوط الهجينة، إنه النسيج العام الذي يلزم الخيوط بالتعايش المشترك، حيث ليس لهذا تميز أو فضل على ذاك إلا من جهة التفاعل.
وبموجب رؤية تمحيصية وتفحصية، موجهة بإوالياتها التي تروم تأطير حركية هذه الخيوط، والتأكد من خصوصيتها، وأدوارها في صياغة النسيج العام، سنفاجأ بتفاقم تلك التعارضات الفادحة، القائمة في البنيات وفي الوظائف التي تهيئ الأجساد للإقامة في شواظ محارقها، أو تحت وارف ظل هارب من أوهام فردوس عالق بالجرف.
وهذه التعارضات التي يتنافر فيها القصد مع الأداة، تشمل الأفراد، كما تشمل الجماعات التي قد تحيل على الشعب، أو الأمة. بمعنى أنها تأخذ شكل بنية قابلة لأن تكون إطارا عاما تندرج فيه سِمات ذهنية في لحظة تاريخية من حياتها التاريخية أو الاجتماعية، وهي بنية عادة أو غالبا ما تكون مفرغة من أي استراتيجية مؤهلة لتشغيل اللغة، أو توظيف آلياتها في إضاءة مجرى القول.
إن المتحدث مطالب بامتلاك تصور واضح وعقلاني للدينامية التي تمتلكها اللغة، وللغاية من توظيفها في سياق محدد، لأن جهل الذات بالأدوار المنوطة بها، سيؤدي إلى بؤس الممارسة السلوكية اجتماعيا وثقافيا، وهو ما يمكن ملاحظته في الحياة العامة أو الخاصة. ولأن الذهنية المتخلفة، تعمى عن رؤية حركية الأنساق وجدليتها، فإن علاقتها المعطوبة بالقول، تكون بمثابة تتويج حقيقي لهذا العمى، أي بؤسٌ في التلقي، كما هو بؤسٌ في البث، وتتويج للثانوي، على حساب تحييد الأساسي. إن الوعي بأولوية القول، امتياز ثقافي وحضاري، حيث يقتضي الأمر حضور حالة من الهيام والعشق لإيقاعات الكلام، مع نسبة مفرطة من الحساسية الفكرية، وهو الشيء الذي لا يتحقق بدون القدرة على مد تلك المسافة التأملية بين الحديث، وجماليته وتقنية توصيله، لأن مد المسافة هو الصيغة التي تتحقق بها معرفة الفرق بين استراتيجية الباث والمتلقي. استيعاب الاستراتيجية يعني استيعاب القصد من الإنصات ومن الحديث. وأهم من ذلك، يعني حضور هاجس السؤال، والأولويات التي تضع الإشكال ضمن نسقه الحضاري، وهو ما يعني، حضور الوعي بمسؤولية القول، بأهدافه وتداعياته. علما بأن حضور أو غياب هذا الوعي، هو المؤشر الموضوعي على حضور أو غياب العقل. ومن هذا السياق تحديدا، ينهض إشكال على درجة كبيرة من الملحاحية، ويتعلق بمستويات وعي الذات المجتمعية بالقوة التعبيرية التي يمتلكها، أو يفتقر إليها القول، وهي قوة غالبا ما تكون مغيبة، حينما تكون عادية، وخالية من أي شكل من أشكال الإثارة، حيث يقتصر دور الآخر على الإنصات، أي على تمثل مضمون ما هو بصدد تلقيه. إنه لا يهتم بالطريقة التي ينبني بها القول، إلا في تلك الحالة التي ينزاح فيها التعبير عن أطواره جهة جمالية جد متقدمة، أو جهة إسفاف مُخِلٍّ بالأعراف وبالمواضعات. فقط في تلك اللحظة، ينتبه الإنصات إلى صيغة القول، حيث يصاب بتلك الصدمة التعبيرية، التي توقظ لديه حاسة الانبهار الجمالي أو حالة الاستنكار، وهما معا لا يصدران بفعل ما يتضمنه الخطاب من رسائل، بل بفعل قوة الإبهار، أو بتأثير من دونية اللغة وسوقيتها، وهما معا حالتان استثنائيتان، يتم تحققهما في التظاهرات الإبداعية، قراءات شعرية قصصية، أو عروض مسرحية ذات أفق معرفي خاص ومتقدم. ومقابل ذلك، حالات الملاسنات العدوانية، التي تشمل الأسواق الشعبية، والتجمعات التحتية. وكثيرا من المواقع التواصلية، دون إغفال قبة البرلمان.
إن ما يعنينا في هذا السياق، هو جَسُّ، ورصد نبض القدرات التعبيرية لدى الأشخاص، ولدى المجتمعات، فحيث يكون هذا الاعتبار غير وارد تماما في المجتمعات المتخلفة، فإنه وعلى العكس من ذلك، يمتلك سلطته الرمزية في المجتمعات المتقدمة. إن الأمر يتعلق هنا بالتدقيق في الدلالة الحضارية والثقافية، التي تحيل عليها الكفاية التعبيرية، أو انعدامها باعتبارها بديهة، ومسلمة لا يمكن تجاوزها، لأنها مؤشر حقيقي للمرجعيات الثقافية والأخلاقية الفكرية التي تتشكل على أساسها خصوصية الذات الفردية والجماعية، حيث يتكامل التواصل بين أطراف الحوار، كما يتكامل التفاعل بين قوة القول وبين قوة الإنصات. وهما معا يمارسان دورهما الملموس في تنشيط تفاعل مضاعف، يساهم في البناء المشترك لقول ما، لدلالة ما، لتصورٍ، لفكرةٍ. إن الإنصات السلبي الذي لا يكون معززا بإمكانية التواصل والبناء، يكون مجردَ مساحةٍ سيكولوجية مهداة بأريحية إلى المتحدث، كي يمارس فيها نوعا من التطهير والتنفيس، لا أكثر ولا أقل.
٭ شاعر وكاتب من المغرب
رشيد المومني