«أصبحت حرب الأيام الستة بالنسبة لنا مئة وخمسة وثلاثين يوما، لأنها المدة (التي قضيناها مشردين) قبل العودة إلى رام الله بمساعدة من الأمم المتحدة والصليب الأحمر الدولي. وفي نهاية الحرب احتل الإسرائيليون رام الله وبدأنا نعيش كلاجئين في بيتنا وعلى أرضنا، بلا حق في السفر إلى الدول والخروج بضمانات أننا لو خرجنا سنعود مرة أخرى. ولا حق لزراعة معظم الأرض التي نملكها. ولا حق ببناء بيوت جديدة أو إنشاء أعمال جديدة بدون إذن من الحاكم العسكري. ولكن عندما عدنا للعيش في البيت المبني من الحجر مرة أخرى، ساعدني هذا لأن أتذكر كيف شعرت قبل الحرب: سعيدة وآمنة». مضت خمسون سنة على الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية والأماكن التي تستحضرها ابتسام بركات في مذكراتها «شرفة على القمر» ربما غابت عن الوجود وأصبحت أسيرة التمدد الإستيطاني أو قضى عليها التوسع العمراني لرام الله والمدن الفلسطينية الأخرى التي زاد عدد سكانها وانتشرت فيها المشاريع والإعمار، خاصة منذ وصول السلطة الوطنية التي جعلت من رام الله عاصمة لها. وعليه فشهادة بركات عن أيام الاحتلال ونشأتها وتفتحها على العالم في الضفة الغربية وما شاهدته ووعته في تطورها الفكري والوطني وبحثها عن طرق لتحقيق طموحها ككاتبة، تظل مهمة في تأكيد الفلسطيني ذاكرته أمام تقلبات الزمن وعسف الاحتلال.
سيلفانا
ومن بين المذكرات الكثيرة التي كتبها الفلسطينيون عن الذاكرة الضائعة والوطن المباد والأشياء القريبة لأنفسهم، التين والزيتون والبيوت والرموز والأزهار الجميلة وتغير الفصول، وجدت في هذه المذكرات رابطة روحية خاصة أن أبناء جيل «النكسة» والذين عاشوا بالضفة الغربية في سنوات الاحتلال الأولى شعروا بثقله وإن لم ترتبط تجربتهم بذاكرة السجن أو الاحتجاج، فكل فلسطيني كما تشير مذكرات بركات طور أسلوبه الخاص في المقاومة سواء من خلال التساؤل عن التناقض بين هويته وواقع إسرائيل التي قامت على أرض الفلسطينيين أو بين الكفاح اليومي للبقاء ومواجهة متطلبات الحياة، ففي تلك الفترة كانت العائلة الفلسطينية كبيرة. عائلة ابتسام مكونة من خمسة أفراد وفي ترحالها بين البيوت والقرى والمدينة ظلت الأم تنجب أطفالا. وفي تلك المرحلة المهمة من تكون الوعي بالذات والمكان فإن الشعور بثقل الفقر والحاجة لمساعدة العائلة في أيام العطل المدرسية أمرعادي بين الأحداث الذين لم يكن أمامهم إلا بيع البوظة أو الكلينكس أو علب البسكويت. ومن لم يجد فيذهب للكسارات وأماكن البناء القليلة والمصانع. ومن هنا ففي قرار بركات العمل في مصنع «سيلفانا» في رام الله على خلاف رغبة والديها، استعادة لزمن ربطنا فيه الشوكلاته الجميلة بذلك المصنع. فلم نكن نعرف أن هناك أنواعا أخرى من الشوكلاته. لأن ذلك الجيل أو جيل ما بعد الاحتلال تعود على أن يخترع ألعابه بنفسه، عربات من أسلاك الحديد أو تشكيل أهرام وبيوت من علب السجائر ونحت رموز من جذوع الشجر. وعلى الصعيد السياسي فذلك الجيل واجه أحداثا سياسية وتاريخية مهمة وعلم وهو يكبر عن الحرب الأمريكية في فيتنام. ولأن قرية جدتها القريبة من القدس اسمها بيت إكسا، فقد شعرت أن فيتنام ربما كانت قريبة منها واسمها «بيت نام». تتنوع تجربة بركات بتنوع الترحال داخل الفضاء الفلسطيني، ففي البداية عاشت في شارع الراديو، نظرا لوجود برج الإذاعة الذي بناه البريطانيون الذين احتلوا فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى. وبالنسبة لجدتها فاطمة فكلما استمعت لأمواج الأثير كانت تفكر بذلك البرج. وفي هذا الشارع تبدو الحياة في البيت الحجري وادعة وسعيدة. ثم انتقلت ابتسام مع عائلتها إلى شقة جديدة والتجربة هنا تختلف، فلم تنس العائلة تقاليد تعريف الجيران بالقادم الجديد من خلال إرسال صحون مما تأكله لهم. وكانت ابتسام «سفيرة» البيت بعبارات أمها. وهناك بروتوكول عليها اتباعه فيجب أن توصل الطعام لهم بدون أسئلة مزعجة عن حياتهم أو ماذا يفعلون. وكما هو معروف فلفتات كهذه تقرب النفوس وتخلق مجتمعا متماسكا، فالحاج حمد الله الذي يسكن في الشقة العليا يقول لها إنه طلب من عائلتها أن لا تقرب من شجر التفاح الذي يملكه ولكنه غير رأيه. ويطلب منها أن يختار والداها ما يريدان من تفاحه. وعند ام إبراهيم الجارة تجد أنها تصنع «الاسكيمو» وتضعه في ثيرموس حيث يبعيه ابنها إبراهيم كل يوم في القرى المجاورة. وعند عائلة عصفور تقول إن واحدة من أخوات جدتها أصبحت مسيحية وحدث هذا أثناء فترة الكساد والجوع العظيم في الحرب العالمية الأولى حيث تبنت الكنيسة العمة آمنة وغيرت اسمها إلى ماري وتعيش في دير قرب كنيسة القيامة بالقدس. وتكتب بركات عن ذكريات عيد الميلاد في رام الله وكيف تطلعت للبحث عن بابا نويل الذي سيأتي لجيرانهم بيت عصفور. وعندما يدق بابهم يتمنى كل من في العائلة ما يريد وتطلب كتابا كبيرا حافلا بالقصص وعندما يأتي الدور على والدها يطلب شفاء من مرض النوم «ناركوليبسي» والذي جعل حياته معلقة رغم ما يأخذه من أدوية. وهو يقوم بمهمة خطيرة، قيادة شاحنة وعادة ما ينام على المقود. ولتجنب هذا كان يأخذ أولاده معه. لكن المشكلة زادت وعرضته لأكثر من حادث وكانت سببا في يأسه وتفكيره بالتخلص من حياته. ومرة قاد الشاحنة والعائلة كلها لينهي كل شيء ولكنه توقف وسط الحقول واكتشف قيمة الحياة عندما استعدت العائلة للموت معه. ورغم محاولاته البحث تحت ضغط زوجته عن عمل بديل، حارس لمدرسة، في حسبة رام الله وغير ذلك إلا أن المرض ظل يسبب له إحراجات ومن هنا جاء قراره لنقل العائلة إلى بلدة بيتونيا ليعمل سائق شاحنة. فالسكون لا يناسبه «عندما أسوق أشعر بالحرية وأنا أشاهد الحقول وطلوع الشمس وغروبها، الحيوانات البرية، تغير الفصول والغابات وأشجار الزيتون وبساتين البرتقال وأنا في دعاء دائم لله أن يخلصني من مرض النوم».
بيتونيا
عندما انتقلت العائلة إلى بيتونيا اكتشفت أنها شبه خالية من سكانها والسبب أن معظم أبناؤها يعيشون في أمريكا ولكنهم بنو بيوتا واسعة وحديثة. ولاحظت أن علامات الطريق مكتوبة بالعربية والإنكليزية. كانت ابتسام تتطلع لأن تبدأ عامها الدراسي في المدرسةـ فقد كانت في الصف الخامس، واكتشفت لاحقا الغربة لأن معظم الفتيات من عائلات غنية. وتجد صعوبة في التأقلم والتكيف وعمل صداقات مع زميلاتها بالمدرسة. وعندما تموت أم صديقتها وفاء تتوقف هذه عن الدراسة ثم تتزوج من عريس يعيش في أمريكا. في بيتونيا ترسم الكاتبة أجواء رمضان وجلوس العائلة حول طاولة الإفطار وهي تستمع للبرامج الدينية التي كان يعدها أبو جرير من القسم العربي في الإذاعة الإسرائيلية. وتتنظر صوت المذيع وهو يقول «حان الآن موعد الإفطار» «حيث تضع هذه الكلمات ابتسامة جميلة على وجوهنا». وهو الشعور نفسه الذي ينتاب الأطفال عندما يقرر الأب ترك بيتونيا «لا ننظر إلى الشارع خلفنا بل للأمام باتجاه رام الله حيث سنبدأ مغامرة جديدة للعيش في حي عين مصباح». وتشعر ابتسام وشقيقتها بالراحة عندما تذهبان للدراسة في مدرسة الأونروا حيث لا أحد سينظر لهما عندما ترتديان الحذاء نفسه كل يوم ولا النظر إليهما بدونية لأن سترة الشتاء فيها ثقوب أو لقدم حقائبهما المدرسية.
الوعي
في الأماكن الماضية كانت الكاتبة تبحث عن العالم وتتخيل التجربة وتراقب ما حولها مع أنها عايشت مخاوف قدوم حرب عام 1973 إلى البلدة، لكن في رام الله ستكتشف معنى الوطنية والتظاهرات ودلال المغربي وحوارات الأساتذة خاصة الأستاذ خالد وأهم من ذلك معنى أن تكون فلسطينية «هل الفلسطيني سيئ؟ هل سيكون العالم سعيدا لو لم يكن هناك فلسطيني أبدا؟ وأخبر الأستاذ خالد بما أفكر به وينصحني أن ابقي أفكاري لنفسي، وأهم انتصار للفلسطيني هو إنهاء دراسته وأن يظل حيا». وكانت الأفكار تتداولها في ظل ما جرى للفلسطينيين في تل الزعتر. والحياة ثمينة لتحقيق الإنتصار ولهذا علق الأستاذ خالد على انتحار فتيات بعد وفاة العندليب الأسمر، عبد الحليم حافظ الذي علم حياة جيل السبعينات في العالم العربي بأغانيه وموسيقاه ووفاته في عمر قصر. وفي هذه الفترة اكتشفت الكاتبة المسلسلات التلفزيونية القائمة على قصص إحسان عبد القدوس ولاعبة الجمناز الرومانية نادية كومانشي والسياسة التي كان الصندوق الصغير يعرضها كل ليلة على العائلة والأفلام العربية حيث كان يطلب منها وشقيقتها ان تغض النظر عند ظهور الراقصات في الفيلم أما البقية فيتابعون المشاهد. وكان جزء من معاركة الواقع هو البحث عن عمل «بدي اشتغل» حيث واجهت معارضة من العائلة. ولكنها تغلبت على المشاكل ووجدت عملا في مصنع سيلفانا حيث أعطاها العمل نوعا الاستقلالية وحسا من المسؤولية تجاه العائلة. لكنها لم تنس مهمتها في الحياة وهي الدراسة والكتابة حيث بدأت تجرب الكتابة وفازت بمسابقة على مستوى الضفة وغزة في كتابة نص بالإنكليزية. وستجد الكاتبة نفسها في رحلة توق للكتابة والحرف المطبوع الذي جذبها في صحف «الفجر» و «القدس» بعدما انتقلت العائلة لوسط المدينة حيث التجربة مختلفة. وزادها تجربة الكتابة لمحرر مجلة «العربي» الكويتية أحمد بهاء الدين ورده المشجع.
العربي
و «العربي» هي ذاكرة جيل وحلم بوحدة الأمة العربية، فالتقارير المصورة تحت عنوان «إعرف وطنك أيها العربي» جعلت القارئ من المحيط إلى الخليج يرى أن هذا الوطن الكبير هو له وهو جزء منه. خسارة، لم يعد الوطن عربيا ولا واحدا وإنما قبائل تتقاتل وتتناحر فيما بينها. وكل مدينة كنا نحن لزيارتها إما دمرت أو أصبحت ممنوعة على العربي. رحلة جميلة في ذاكرة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي ورؤية لكيفية تشكل جيل ما بعد النكسة ومواجهته أسئلة الحياة: الصمود والهوية والبحث عن فرصة للتعبير والكتابة. ورحلة بركات فيها كل العناصر الجميلة، كتبت بلغة شاعرية دون تملق أو تظاهر، فهي لا تحكي قصتها بل ذلك الجيل المحروم الذي انتصر على الواقع وكتب شهادته الصادقة.
Ibtisam Barajat: Balcony on the Moon: Coming of Age in Palestine
Margaret Ferguson Books
New York, 2016. Pp.216