كثيرة هي الروايات العربية الحديثة التي نهلت من التاريخ ووظفته جمالياً لصالح الراهن، وعمّقت صلة القارئ بأحداث عبرتْ منذ قرون، واستقرّت في زوايا التاريخ كتراث إنساني وأرشيف ثمين للبشرية، وقد شهدت العقود الأخيرة، من القرن العشرين صعوداً لافتاً لهذا القبس، المستوحى من أزمنة غابرة، إنها نصوص كثيرة، تلك التي تماهت وتناصّت واقتبست الرؤى والأفكار والتدوين والأرشفة والعوالم القديمة، لمحطات الحياة وتفاصيلها التي لا تعد وتحصى بالتأكيد.
هنا يمكن الإشارة إلى أمين معلوف ورائعته «سمرقند» ككاتب عربي فرانكوفوني، وكذلك الطاهر بن جلون الذي وظف الكثير من الرؤى التاريخية في كتبه العديدة، دون أن يتناسى عوالم وأطياف «ألف ليلة وليلة» وتاريخ الأندلس وما خلفه من ثقافات وتراكمات تاريخية وفنية وتعبيرية، وكانت حسب الظن رواية نجيب محفوظ «طيبة» خير توظيف ومدخل لعالم الرواية المصرية عبر توظيفها البنية الفرعونية والإفادة من جمال ذلك التاريخ.
الروائي السعودي مقبول العلوي سعى مع كثيرين غيره لتناول هذا العالم الزاخر بالأحداث والتفاصيل والمشاهد والتوترات المثيرة، في استعادة تلك الأجواء الحالمة والنائمة في بطون الكتب من التراث العربي، الغني، بتحولاته وتواتراته وسيروراته، في صعوده ونكوصه، في حروبه وسلامه، في لحظات استتبابه واختلاله، في البناء والفتوحات، وأيضا في تآكل بنيته وتراجعه، عبر سلسلة طويلة من التآمر والدسيسة والقتل والخيانة والتقهقر، وكذلك الاندفاع لاسترداد القيم والتواصل مع الرسالة الصحيحة للإسلام المتآخي والباني والمتفتح، كما شهدتْ على ذلك تحوّلات عاصمة الرشيد أيام المأمون وصعود عبد الرحمن الداخل في تأسيس عالم إسلامي جديد في أقاصي العالم.
من هنا وتحت سقف هذا المنظور، كتب مقبول العلوي روايته «زرياب» ليتنافذ مع عوالم سالفة، من تاريخ البناء الإسلامي الذي شهده العصر العباسي، متمثلاً بهارون الرشيد وولديه، رغم ما حصل ما بين الأخوين اللدودين من تقاتل على السلطة.
يبني العلوي عالم روايته عبر تكريس شخصية بارزة ومهمة ومؤثرة من ذلك التاريخ، وهو المغنّي والموسيقي الباهر والموهوب والخلاق، علي بن نافع المكنّى بأبي الحسن، المولود في الموصل في نهاية العقد الثاني بعد تأسيس الإسلام، يولد عبداً، يموت والده وهو صغير، ليتربّى في كنف أمه التي سيُخطف منها في حادثة غزو ونهب وإغارة، ليفقد أمه في تلك الحادثة الأليمة، لينشأ فيما بعد في قصر منيف، وهو ابن السابعة.
يصف الطفل زرياب، الاسم الذي أطلقه عليه أستاذه ومربيه وابن مدينته، الموسيقار اسحاق الموصلي، كون صوته يشبه ذلك العندليب الأسود والطائر الغرّيد «زرياب»، يصف الطفل زرياب القصر الذي نشأ فيه مع استاذه، وهو قصر المهدي خليفة المسلمين في تلك الامبراطورية الكبيرة.
حسب التاريخ، حكم الخليفة المهدي ابن جعفر المنصور مؤسس بغداد وبانيها عشر سنين لا غير، ثم مات تلك الميتة الشنيعة على تخوم مدينة «ماسبذان» بإجاصة مسمومة ارسلتْ من جارية للمهدي لجارية أخرى منافسة لها، لتقع عن طريق الخطأ تلك الإجاصة القاتلة في يد الخليفة.
قبل موت الخليفة بقليل، يَهَب المهدي مغنِّيه العبد إلى اسحاق الموصلي، ليعتني بتربيته الموسيقية وينمّي موهبته الغنائية ويصقلها في أفضل حس وأداء وتجويد.
هنا سيكون الراوي زرياب في قصر جديد وعهد جديد، هو عهد الرشيد المثالي، عهد الغناء والإبداع والشعراء واللهو والكتابة والرقص والموسيقى والتلحين والطرب، فضلا عن الفتوحات وتنامي الإمبراطورية وتوسّعها وجني الثمار، مما أدّى إلى تحسّن الحال، عبرالرخاء الذي عُرفتْ به بغداد إبّان ذلك العصر من عهود الخلافة الإسلامية.
في قصر الموصلي، سيشهد الفتى زرياب، كيف يصنع أستاذه الأوتار الموسيقية من أحشاء شبل النمر، بعد أن كان يستخدم أحشاء القطط، هنا سينتبه الفتى للصناعة، وسيتقنها في أحسن قوام، حين كان يتلقى هو وغيره دروساً موسيقية من أستاذه الذي علمهم أن لأحشاء شبل النمر رنّة خاصة، لا يدركها إلا المحترفون والموهوبون والوالغون في الصنعة.
زرياب الفتى سيتعرّف في القصر،على الجارية صفية، تلك التي كانت تقوم بتنظيف أحشاء شبل النمر وتجفيفها، هي القادمة من جبل سنجار، بعد أن نُهِبَتْ عبر غارة قام بها النخّاسون وتجار العبيد، فهي الصنو المثالي له، المنتزعة مثله، والمقتلعة من الجذر، من دفء العائلة وهي طفلة. سيّده الموصلي سيهَبُه الأحشاء كهدية، ليعمل له منها عوداً، ينتهز زرياب الفرصة ليختار الخشب الملائم لهذه المصارين الموسيقية من سوق النجارين ببغداد، يعثر على المراد بعد لقائه بمسنّ نجار، يتقن الصنعة، فيعمل له عوداً بخمسة أوتار وهي غير العادة الدارجة والمعروفة بأربعة أوتار للعود.
يقول زرياب: كان ابراهيم الموصلي له حظوة لا توصف لدى الأمراء والخلفاء، وكانت له بيوت كثيرة، أهداني واحداً منها، بعد أن عتقني في يوم عيد، تزوّجتُ صفية التركمانية، وأنجبت لي ولدين وبنتاً، وسارت الأمور على هذا المنوال، لكن الحظ وخفايا الدهر، لا تستمر دون عثرات ومنزلقات وملمّات، حتى جاء ذلك اليوم الذي قرّر فيه سيدي الموصلي أن يُقدِّمني للخليفة الرشيد، كان مجيء ذلك اليوم بالنسبة اليّ بمثابة الكابوس والرعب والخوف، كون أني سأنشد أمام خليفة المسلمين كافة.
لم ينم زرياب الفتى قبل مجيء ذلك اليوم، خوفاً من رهبة المواجهة واللقاء، وهو لقاء عبد سابق بأهم رجل على الأرض.بعد تلك الفرصة التاريخية، ينجح زرياب في الامتحان ويُذهل الرشيد بغنائه ورنّة عوده وإتقانه للمهارات النغمية.
عُرِف زرياب بثقافته الواسعة بحفظ القصائد، مع إلمام بعلوم البلاغة، ورواية الأخبار على نحو بارع، وله اطلاع واسع على علم الكلام وتواريخ الأمم والملوك، كل تلك المعرفة قد أتته عبر كتب مكتبة الحكمة ومجالسته لكبار العلماء من أمثال الكسائي وابن الفرّاء وابن ماسويه في بيت الحكمة.
هذا النجاح الذي كلفه الكثير من الهواجس واستنفار الحواس والشكوك، سيؤدي به إلى التهلكة والحسد والغيرة الحارقة، التي جاءت من أقرب الناس إليه، من استاذه ومربّيه الموصلي.
تمر الأحداث متسارعة خاطفة، ينشغل الرشيد بحرب تنشب في الشرق، فيذهب بنفسه لإخمادها، ولكن الرشيد خلال هذه الحرب سيصاب ويقتل في طوس، ليأتي ولده الأمين كخليفة للمسلمين. ثمة علاقة ما حدثت بين زرياب وابنه الأمين عندما كان حَدَثاً، ويتردّد على بيت الحكمة، كونه صديقاً ومتلقياً للعلم من ابن ماسويه والكسائي، هذه العلاقة لم تشفع له كثيراً، رغم استتباب وضع زرياب قليلاً، ولكن الأمور سوف لن تستمر طويلاً هكذا، إذ ما زال أستاذه القديم يضع العراقيل والمشكلات أمامه ليحط من قيمته وذيوع صيته في بغداد كافة.
هنا سيتدخل ابن ماسويه لمساعدة صديقه زرياب، ناصحاً أياه بترك البلاد إلى القيروان، فله ابن عم هناك اسمه ليو،سيقدّم له مساعدة إذا ما حلّ هناك، وأراد السفر إلى الأندلس، حيث عبد الرحمن بن الحكم هناك، باني المملكة القوية والمثلى، متحدّياً فيها بني العباس، ومعيداً فيها مجد الأمويين، أجداده الذين ركزوا مُلك المسلمين في بداية الفتوحات ونشر القيم الإسلامية.
بعد مجيء المأمون لاسترداد الخلافة من أخيه الأمين، ثم حدوث حزمة من المؤامرات والدسائس والتدابير الشيطانية، من قبل خصمه القوي الموصلي،هنا سيعي زرياب الكردي والموصلي أيضاً،حجم المشكلة التي يواجهها، هو وعائلته الصغيرة، فيرحل إلى الدجيل بمساعدة الموصلي نفسه الذي تربطه بالمأمون علاقة وثقى،غير تلك العلاقة المتزعزعة بينه وبين الأمين الذي حجّم دوره لصلته السرية بالمأمون واتباعه. يرحل زرياب مع قائد القافلة قيس وهو من سنجار، وبعد علاقة قلقة معه، سيُصبح صديقه، ليقضّي معه لياليه وأوقاته عبر الغناء والضرب على العود، حتى يصلوا إلى خارج تخوم العراق، بعدها سيواصل زرياب الرحيل باتجاه دمشق ثم نصيبين، ومن ثم الرحيل تجاه الاسكندرية، والسكن فيها لفترة قصيرة، ثم الرحيل مرة أخرى بحراً في إحدى السفن، باتجاه سوسة وصولاً إلى القيروان.
بعد سلسلة من الأحداث سيقيم زرياب فيها، وسيكرِّمه أميرها وخليفتها ويصبح من سامعيه، فيجزل له العطاء، حتى يظهر له الحظ السيئ مرة أخرى، متجسّداً بشخص آخر، يشبه الموصلي، فيناصبه العداء ويحوك له المؤامرات، لكن صداقة زرياب بخليفة القيروان زيادة الله بن الأغلب كانت أقوى فيبعد القائد زيادة على اثره منافسه.في القيروان سيتعرّف على شخص اسمه بكر الباجي، الذي سيعرّفه بدوره على كل وجهاء القيروان وتجارها. وبسبب تديّن أهل القيروان وتزمّتهم وعدم ميلهم إلى اللهو ومقارعة الكأس والعود، سيضطر زرياب إلى الرحيل نهائياً إلى الأندلس، بعد أن ينقلب عليه الأمير، ليطرده من القصر، لكثرة الوشايات عنه، وأبرزها بأنه جاسوس لبني العباس وأنه عبد وغيرها، ليرحل مرة أخرى، مرفوع الرأس، بمساعدة بكر الناجي، ليهرب ليلاً، متخفياً، قاصداً أرض الأندلس التي سيلاقي فيها كل نعيم من قبل قائدها وأميرها البارع عبد الرحمن بن الحكم، المحب للشعر والأدب والفن وللجديد في العلم، حتى مماته هناك.
لي ملاحظة أخيرة على الرواية التي رأيتها في بعض فصولها تتشابه ورواية الروائي اللبناني رشيد الضعيف، الذي كتب رواية «معبد ينجح في بغداد». وهي أيضاً تحكي عن مطرب وموسيقي اسمه معبد بن رباح، يأتي من المدينة صوب بغداد، طلباً للعلم والشهرة ولحياة البلاط، فينجح في ذلك، وهو أيضاً عبد مملوك هرب من مالكيه، ليبتسم له الحظ في بغداد جراء قوة موهبته، ليشهد وهوهناك الأحداث نفسها، التي مرّ بها زرياب، حيث حصار بغداد ودخول جيش المأمون وسيطرة قُوّاده من أمثال الطاهر بن الحسين وهرثمة على كامل بغداد، أنها الأحداث التاريخية عينها تسرد في كلا العملين.
مقبول العلوي: «زرياب»
دار الساقي ـ بيروت 2014
223 صفحة
هاشم شفيق