عندما نقرأ ثلاثية ميلان كونديرا «فن الرواية – الوصايا المغدورة – الستار» نتساءل عن سر زُهد الروائي العربي في التنظير للكتابة الروائية؟ عجزه أو عدم رغبته في مفهمة خبراته في هذا الحقل.
ونتساءل أيضاً عن معنى امتناعه عن تصدير تجربته عبر الأجيال عندما نقرأ خبرة ماريو برغاس يوسا المعبأة في كتاب «رسائل إلى روائي شاب»، وحين نصادف امبرتو ايكو أيضاً وهو يحكي سيرورة كتابة رواياته في كتاب «اعترافات روائي ناشئ» نصاب بدهشة مضاعفة، لأن الروائي العربي لا يكاشف قراءه بعملية تخليق الرواية، ولا يريد، أو ربما يترفع عن هذه المهمة التي أوكلها إلى النقاد والدارسين.
حتى عندما نطالع سيرة غابريل غارثيا ماركيز «عشت لأروي» نتمنى الاطلاع على سيرة عربية مماثلة مكتملة الأركان، أكثر جرأة ووضوحاً مما أدّاه نجيب محفوظ في «أصداء السيرة الذاتية»، تماماً كما نتأمل أن نطالع كتاباً لروائي عربي يشبه محاضرات أورهان باموك، حول أفكار وأسلوب ومشاعر وخيالات وشخصيات رواياته، التي جاءت في كتاب «الروائي الساذج والحساس»، ونفكر كثيراً حول الروائي الذي سينجز كتاباً شبيهاً بكتاب هوراكي موراكامي العجيب «الذي أتحدث عنه كلما أتحدث عن الجري»، حيث يربط هذا الكاتب العداء الجري بالرواية في علاقة ذات مغزى ودلالة.
نتمنى أن نقرأ عن «فن الرواية» من منظور روائيين، كما كتب كولن ويلسون تحت هذا العنوان، وأن نتعرف على الخبرات الذاتية من المنطلق الذي أنجزه غراهام غرين في كتابه «تجربتي في كتابة الرواية»، أن نقترب من مخاضات الروائي الحياتية ومعاناته، أي أن نطل على «الكاتب وكوابيسه» كما سردها ارنستو ساباتو، أن نقف على ما يقوله الروائيون العرب عن تجارب ومنجزات بعضهم بعضا، كما طالعنا دراما الاحتدام ما بين تولستوي وديستوفسكي – مثلاً – وتضارب الآراء المتداولة في دائرة إميل زولا وبلزاك وفلوبير وستندال، أو ما قاله جان ماري لوكليز عن سولجنستين، وما تتلمذ به كينزا بورو أوي عند كاواباتا ياسوناري وهكذا.
في هذا الصدد يبدو عبدالرحمن منيف أحد الاستثناءات القليلة في الثقافة العربية بكتابه «الكاتب والمنفى وآفاق الرواية العربية»، بالإضافة إلى متوالية من البحوث والدراسات والمقالات التي يؤكد فيها على التلازم البنيوي ما بين الرواية والحرية، ويشدد على أهمية انتماء الروائي إلى حركة تاريخية اجتماعية، كما يمكن التنويه بجهود وآراء إدوارد الخراط، الذي حمل لواء تحديث الرواية العربية تحت مظلة «الحساسية الجديدة – الكتابة عبر النوعية – أنشودة الكثافة – مهاجمة المستحيل» وغيرها من العناوين التي تعكس فلسفته الجمالية للكتابة الروائية، كذلك لا بد من الالتفات إلى اجتهادات نبيل سليمان في كتابه «بمثابة البيان الروائي» من خلال شهاداته ودراساته التي أنجزها بصفته إبناً للرواية منذ بداية السبعينيات وليس ناقدا، بالإضافة إلى مساهمات أخرى متنوعة بشأن حال ومآل الرواية. ويمكن أيضاً الالتفات إلى مطالعات إلياس خوري في كتابه «الذاكرة المفقودة»، إلى جانب دراسات عربية أخرى متفرقة قد ترضي فضول القارئ إلا أنها لا تجيب على مجمل تساؤلاته ولا تروي عطشه.
إن مقولة «إن النص قد خرج من عندي وهو الآن بيد القارئ» لا يمكن التعامل معها إلا من منطلق تبريري تنصلي، فالروائي الذي ينجز رواية لا ينفصل عنها تحت أي ذريعة، أما الروائي الذي يتكئ على منجز روائي كبير فيفترض أن تكون لقاءاته وحواراته وحضوره الثقافي وكتاباته امتداداً لخطابه الروائي، لئلا تكون هناك فجوة بين ما يؤديه روائياً وما يتبناه ثقافياً، بمعنى أنه مسؤول عن تعزيز ميثاق القراءة مع القارئ، أجل، القارئ الذي يريد أن يتعرف على الفلسفة الجمالية عند الروائي الذي يشكل جانباً من وعيه ووجدانه، سواء كان هذا الروائي تجريبياً أو تقليدياً، وهو الفرض الذي أداه محمد شكري – مثلاً – بإضاءة روايته «الخبز الحافي» من خارج النص بوابل من الكتابات والتصريحات والإيضاحات.
ولكن يبدو أن الروائي العربي ليس معنياً بفكرنة منجزه، وغير مهموم بالتحاور مع قرائه، فهو لا يتواصل معهم إلا من خلال رواياته، أو ربما ليس لديه القدرة على مفهمة ما ينتجه من روايات داخل أفق تنظيري، فهو يكتب على إيقاع عفو الخاطر، وليس بموجب فلسفة جمالية خاصة، أو بمقتضى منهج إبداعي، وهذا هو ما يفسر احتشاد شهادات معظم الروائيين العرب التي تُتلى على المنابر بالتلفيق والانتحال والاستعارة والفذلكة، ولذلك تغيب السيرة الواقعية للروايات، أي سيرة كتابة الرواية، التي تشكل بذاتها أفقاً إبداعياً لا يقل أهمية عن الرواية، كما كتب أمبرتو إيكو مثلاً «حاشية على اسم الوردة»، التي تحدث فيها عن مخاضات البحث المعرفي وتركيب الأزمنة واختراع الشخصيات وغيرها من العناصر والمفاجآت.
قارئ الروايات فضولي بطبعه، وهو لا يحب أن يعرف مصير أبطال الرواية التي يطالعها وحسب، بل يريد التعرُّف على أصل الشخصيات، أي المحل أو المناسبة أو الفكرة التي التقط بموجبها الروائي شخصياته، ويستأنس بالفضاءات التي يؤسس فيها الروائي أبطاله، كما يتوق للتماس مع المنطلقات الفكرية والعاطفية للروائي، وما يحف بذلك من الخيال والأسلوب والتورية، وهذا ما لا تفصح عنه الروايات من داخلها، وعليه، يشتعل البحث خارج النص، إذ لا زال «البحث عن وليد مسعود» جارياً منذ أن أصدر جبرا إبراهيم جبرا روايته، عبر ركام من الدراسات والتأويلات، ليس بالمعنى التشخيصي ولكن بالمعنى الفكري، كما لم تتوقف التخرصات حول المرجعية الواقعية لمصطفى سعيد، بطل «موسم الهجرة إلى الشمال»، تلك الشخصية الإشكالية الصادمة التي دبرها الطيب صالح.
الروائي العربي مهموم بإنجاز أكبر عدد من الروايات، ومتنازل عن أداء أي دور تنظيري أو تفسيري إزاء ما ينتج من روايات، ومن يفحص الكتب الصادرة عن ملتقيات الرواية العربية المتعددة، حول واقع ومستقبل الرواية العربية، سيلاحظ أن إسهام معظم الروائيين على درجة من الضآلة والسطحية والإنشائية، خصوصاً في الجيل الجديد من الروائيين، فيما يبدو تنصلاً من التفكير حول الخطاب الروائي، وتسليم راية التنظير للنقاد، وهو أمر يمكن تفهمه عند الحديث عن نشأة الرواية العربية وتحولاتها وتعدد مداراتها ومشاربها في أفق الحداثة، ولكنه غير مقبول عندما يتعلق الأمر بسيرة النص الروائي، إذ لا يمكن إعفاء الروائيين من الحديث عن مرئياتهم حول كل ما يتعلق بسيرورة الرواية، مع ملاحظة أنه ليس المطلوب من الروائي أن يؤدي دور الناقد، بقدر ما هو مطالب بعرض وعيه الروائي أمام القارئ.
هناك عدد من الروائيين الذين جمعوا ما بين كتابة الرواية والنقد كمحمد برادة، وشعيب حليفي، وزهور كرام وغيرهم من النقاد الروائيين، وقد قدموا وجهات نظر لافتة إزاء روايات عربية لمجايليهم، وأسهموا بتنظيرات على درجة من الأهمية حول قضايا الرواية العربية، كما استجلبوا جانباً مهماً من الجدل المتعلق بالرواية العالمية، إلا أن مفهومهم الخاص للرواية لم يتوضح بما يكفي، حيث غابت نبرة التذويت في خطاباتهم، لأنهم لم يرتدوا باتجاه منجزهم، ولذلك لم تظهر سيرة رواياتهم وما يحف بها من ظروف اجتماعية وسياسية وثقافية، على الرغم من كون الروائي/الناقد أكثر قرباً من مختبر الكتابة الروائية، وبالضرورة، أكثر وعياً بأهمية تدوير تلك الخبرة وطرحها على طاولة الحوار، بصفتها حالة إبداعية ستقود حتماً ليس لفهم حال الرواية العربية وحسب، بل الإجابة على جملة من الأسئلة التي تنتج في نهاية المطاف نظرية للرواية العربية.
كاتب سعودي
محمد العباس
تحياتي : مقال السيد محمد العباس غنيّ بالأفكاروالآراء.وٍأقف كقاريء عربي قوله :
( أهمية انتماء الروائي إلى حركة تاريخية اجتماعية ).وهذه العبارة بحد ذاتها تحتاج
إلى مجلد كبير.إنما هي مفتاح فهم سيرة الرواية وشخصيات الرواية ومزاج الرواية.
بل وفقه شخصية الراوي الذاتية والموضوعية.فهوالثابت الخالق للمتغييرات اللاحقة.
موفق كاتب المقال بطروحاته…وهويريد إجابات أويسعى لدفع الآخرين لطرحها…
وهذه من حسنات المقال.وأستطيع الإجابة بكلمة واحدة ( الحريّة ).أيّ أنّ الروائي
العربيّ ( المحترف ) ترى أغلب أعماله تحت الكناية والتورية ؛ أيّ الكتابة الرمزية
لأنّ فسحة الحريّة في المشرق خاصة والشرق عامة ضئيلة.لذلك يترك للنقاد التحليل.
وأحياناً الغموض الروائي يخلق مشاهد أخاذة للخيال.ومن جانب آخرفإنّ الشخصيات
الواقعية المتداولة لا تحقق شرط الانشداد لدى القاريء.لأنّ كما قال الروائي الروسي غوغول : ( إنّ الأدب العظيم يحفّ بالامعقول ).والرواية عالم متشابك من المعقول
واللامعقول.وأظنّ أنّ نظرية جديدة للرواية العربية الآن تتشكل.لكن تشكلها لن يستقر
إلا بعد حين.وأعتقد جازماً أنّ تشكيل اتحاد للروائين العرب مستقل عن بقية الاتحادات الأدبية ؛ سيكون هيكلة مساعدة لبناء نظرية الرواية العربية الجديدة ؛ والتي طفق
البعض يسمّيها ديوان العرب ؛ بدلاً عن الشعر.شكرأً لصاحب المقال الثري.