كذب المرزوقي وصدق بشار

حجم الخط
14

لا تستغربوا أبدا فكل شيء صار جائزا في هذا العالم المقلوب. ولم يعد مستحيلا ولا مستبعدا أن يصير الجنون نعمة ويتحول العقل إلى نقمة. يكفي أن نلقى نظرة على سيرة رئيسين عربيين معاصرين هما، بشار الأسد والمنصف المرزوقي حتى نتأكد من ذلك.
لقد شق الاثنان طريقين مختلفين إلى السلطة. ففيما بلغها الاول من سلم السلالة وصلها الثاني من باب الصناديق. وانتهى أمل السوريين في أن يخلصهم وريث القائد الملهم من تاريخ ثقيل من الاستبداد والتسلط، إلى خيبة كبرى تلتها سلسلة من الكوارث المريعة. لقد كانوا يظنون أن مقامه لسنوات في لندن واطلاعه عن قرب على حياة الغربيين سوف يجعله اكثر تحررا من والده الراحل، ولكن تبين انه ازداد تصلبا وانغلاقا ورغبة بحفظ المقامات القديمة بين شعب خانع وقائد مقدس. ولم تكن آمال التونسيين في الحقوقي الذي وصل قصر قرطاج واسعة أو عريضة بفعل ما قيل عن قلة خبرته وافتقاده التجربة وضعف الخصال الشخصية. لقد صار منذ الساعات الاولى لخطابه في المجلس التأسيسي عدوا قويا اول، بعد أن اعتبر الإعلام المحلي أن تحيته إلى التونسيات «السافرات والمحجبات والمنتقبات» هي تقسيم بغيض وعدواني لهم.
كانت الطريق معبدة ومفتوحة أمام بشار وظلت الانتقادات التي وجهت له على مرّ السنوات الست الاخيرة مجرد فرقعات اعلامية في الهواء. فيما كانت اعوام المرزوقي في الحكم ملتهبة ومحفوفة بالمطبات. ولم يكن النفوذ الواسع والمطلق لحاكم دمشق ليقارن بالصلاحيات البسيطة والمحدودة لرئيس تونس المؤقت. أما الحصيلة بعد ذلك فكانت واضحة ومعلومة للجميع أو هكذا كان مفترضا. ولأن الدنيا تسير بالمقلوب فإن كثيرين في بلد ديمقراطي مثل تونس، فقدوا القدرة على رؤية الاشياء بالتجرد المطلوب، بل إن منهم من صار مستعدا لإنكار أي شيء ومفتخرا بالتسابق للسفر إلى دمشق لا للاشتراك في التحقيق في جرائم النظام، بل لتهنئة القائد الخالد بصموده الاسطوري أمام قوى الشر، ووقوفه بوجه المؤامرة الكونية التي لم يكن هدفها القضاء على نظامه المحبوب بقدر ما كانت غايتها الاولى والاخيرة تفتيت بلده وتقطيع أوصاله. قد يفسر البعض ذلك بانه امر عادي وطبيعي فمن حق هؤلاء أن يعبروا عن مواقفهم وآرائهم وان تنقل قنوات التلفزيون تلك الوقفات التي يحضرها عشرات دعما لبطولات بشار وجيشه العربي السوري. ولكن المشكل يتعدى مجرد التعبير عن الولع بالديكتاتور السوري إلى قلب الحقائق والادوار، وتقديم بشار على انه الرئيس العاقل الذي استطاع إنقاذ بلده من هجمة اممية كبرى، مقابل الاصرار على وصف رئيس تونس السابق بالمجنون، لمجرد انه اعلن مرارا رفضه جنون بشار، وارتكب هفوات وزلات تاريخية ربما كان اشهرها على الاطلاق قراره طرد السفير السوري المعتمد في تونس.
إن المنطق الذي يحرك من يتبنون تلك الافكار هو أن بلادنا اولى بنا وانه ليس هناك من داع أو مبرر للحماس الزائد لثورة مسلحة ضد نظام شرعي في بلد يبعد عنا الاف الكيلومترات، وأن الوقوف في صف بشار بغض النظر عن كل الجرائم الخطيرة التي ارتكبها في حق شعبه هو امر واجب. ألم يقل ديفيد كاميرون حين كان رئيس وزراء اعرق ديمقراطية في العالم «عندما يتعلق الامر بالأمن القومي فلا يحدثني احد عن حقوق الانسان». اذن لماذا ننزعج لانتهاكات وجرائم بشار مادام يدافع عن امنه القومي، ومادمنا نخوض المعركة ذاتها ضد الارهابيين؟ ولماذا نطرد سفيره وهو لم يرتكب اي فعل ضدنا؟ إن كل من لا يصادق على ذلك ويقول إنه لا وجود لأي مبرر يجعل الحاكم يدوس على حقوق الناس وينكل بهم، وإن الدولة لا يمكنها أن تسمح لنفسها بالتعامل مع من تراهم ارهابيين بأسلوب العصابات وقطاع الطرق، بل فقط بتطبيق القوانين وإرساء العدالة، فلا مكان له الا في الصفوف الخلفية، لأن العقل الاستبدادي يرى كل من يناقش مقرراته «إما خائنا أو مجنونا» مثلما قال المرزوقي في مقابلة، أجرتها معه قبل ايام فضائية الشرق»، ولاجل ذلك فان كل اساليب التشويه والتزوير تصبح جائزة ومسموحة مادامت تؤدي غرضها الاساسي في تشويش الصورة وتعميتها. لكن لنبحث عن الخيط الرفيع الذي جعل قسما واسعا من التونسيين لا يصدقون المرزوقي، وهو يدافع عن حقوق الانسان في سوريا، ويقتنعون بالمقابل بدفاع بشار عن بلده في وجه المؤامرة الكونية؟ لماذا نجح بشار فيما عجز عنه المرزوقي واستطاع ايهام التونسيين بعدالة ورجاحة مواقفه وقراراته؟ إن التفسير الفوري لذلك هو انه نجح في صناعة الكثير من القصص الاسطورية التي قلبت موازين القوى وتركت اثرا على الجمهور المحلي، واشهرها قصص جهاد النكاح واستطاع أن يجعل تلك القصص تحتل مساحات واسعة داخل آلة اعلامية محلية معطوبة ومنكفئة على ذاتها، لم تتخلص بعد من رواسب الاستبداد وبصماته، وكانت المهنية وحقوق الانسان اخر اهتماماتها. غير أن ذلك قد لا يعكس سوى جزء من اللوحة، أما الجزء الباقي فهو أن المسار الذي اخذته تونس بعد اختفاء رئيسها المخلوع بن علي افتقد الوسائل والادوات لإقناع معظم الناس بقيمة حرية حصلوا عليها من دون أن يبذلوا في سبيلها ولو قطرة عرق واحدة. لقد عاشوا ما يشبه الغيبوبة التي جعلتهم يغرقون في موجة من الطلبات، وأغرتهم اللعبة إلى الحد الذي صار فيه الجميع يطلب من الجميع. أما الفرملة الوحيدة التي حصلت لحالة الجموح تلك فقد كانت أصوات الرصاص والتفجيرات التي لم يألفها التونسيون بكثرة في عهد الاستبداد. انها هي التي اطلقت أذرع الإعلام واصوات بعض السياسيين المتربصين، حتى يعلنوا فزعهم وخوفهم على البلد ويقولوا أن كاميرون كان صادقا في مقولته الاثيرة، وأن بشار لم يكن كاذبا ومذنبا حين حارب الجماعات التكفيرية والارهابية التي هاجمتنا، والتي قد تعود مرة اخرى من سوريا لتهاجمنا من جديد.
لقد فهموا عجز المرزوقي عن ضربهم بيد من حديد مثلما فعل بشار على انه ضعف ووهن وتواطؤ معهم، ومع حركة النهضة التي كانت وبقيت المتهم الاول والمباشر في كل السوءات التي ظهرت في تونس. وربما دفع الرئيس التونسي السابق غاليا ثمن قبوله الاشتراك مع الاسلاميين في السلطة. فلم يغفر له من سموا انفسهم حداثيين تلك الخطوة واعتبروها ضربة موجعة ومستفزة لهم. وحاولوا مرات ومرات أن يقطعوا اوصال الترويكا ويضعوا حدا لائتلاف طالما وصفوه بغير الطبيعي. ولان التعدد بنظرهم بدعة والديمقراطية التي يتغنون بها ضلالة، فإن شخصا مثل بشار صار باستطاعته أن يحوز المواصفات المثالية التي تجعله يصبح مثلا وقدوة للتجربة التونسية اليافعة.
وربما لن يكون غريبا في تلك الحالة أن تتعالى الاصوات للمطالبة بإقامة تمثال للقائد البطل الذي قاوم الارهاب، مثلما تعالت اصوات اقل من عشرين نفرا قبل ايام لطرد المرزوقي من تونس، وسحب الجنسية منه. ألم اقل لكم منذ البداية أن كل شيء صار ممكنا وجائزا في هذا العالم المقلوب.
كاتب وصحافي من تونس

 كذب المرزوقي وصدق بشار

نزار بولحية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول المنجي الغرياني تونس:

    اوضح في البداية اني لست من انصار بشار الاسد ربما كان طاغية كمثله من الرؤساء العرب
    لكن يتميز بالوطنية المفقودة عند غيره
    المقال جاء ليضع مقارنة بين المرزوقي و حاكم دمشق
    يعلم الكل ان المرزوقي وقع انتخابه من طرف المجلس التاسيسي ضمن محصصة بين اطراف الترويكا و لم يكن انتخابه بالاقتراع المباشر
    حتى صلوحياته كانت محدودة
    الثورات العربية كان هدفها المعلن اسقاط الدكتوريات لكن في الحقيقة كانت خدمة لاجندات اجنبية بشرتنا كوندليس رايس بما اسمته ولادة شرق اوسط جديد
    انخرط المرزوقي قي هذا المخطط الجهنمي باستضافت مؤتمر اصدقاء سوريا و طرد السفير السوري الذي لم يكن متواجد بتونس
    اكتفي بهذا القدر لان تصرفات المرزوقي يطول الحديث فيها
    أريد ان الفت الانتباه ان الثورات العربية خلفت الدمار و تشتت الشعوب

  2. يقول sarhan karamosli:

    بشار يبقى دكتاتور مجرم إرتكب مجازر في حق شعبه ترتقي إلى جرائم ضد الإنسانية أما المرزوقي كان ضحية للحقد الإيديولوجي من أشباه الديمقراطيين و الحدثيين الذين خانتهم صناديق الإقتراع و عملوا كل ما في وسعهم لإفشال التجربة الديمقراطية في تونس ومحاربة الرجل و تشويهه الفرق شاسع بين الحقوقي المثقف والجزار بشار

  3. يقول حسن ابراهيم:

    انظرو الى الدول العربية الآن..والى الشعوب العربية..لا تعرف محلها من الاعراب وتتحرك بشكل طائش..السياسة..والدين..يمكن ان تجتمع لكن بالعقل..كم حركة ادعت الاسلام..وبانت النتائج عكس التوقع..دوما يوجد الغلو..والتوجهات المغلوطة…امة اقل ما يمكن القول انها امة جاهلة..باعلامييها..ومثقفيها..وقادتها…الخ..اذا صلح الاعلام..صلحت الامة..اين التزام الكلمة..تحتاج الامة العربية..لثورة اعلامية..ولكن اين المثقفون..لماذا تدعي الاحزاب الاسلام..وتبتعد عن الانسانية..انها سلطة .المصالح..فقط..وكل ما عداها كذب انظرو الى الدم الذي يهدر بين العرب وانظرو لحال دولة اسرائيل…من المخطئ الآن بالله عليكم..على الاعلام ان تكون له رسالة واضحة..تبين ما تحتاجه الانة..تعالو..الى الفرق الشاسع بين الغرب والعرب…لماذا اتهام الغير دوما بالعداوة…الله اعطى العرب كل شيئ لكن الشعب ثار..بدون..معرفة..التغيير لا ياتي بالتدمير واستخدام القوة..ما فائدة التغيير اذا كان ثمنه..تدمير البلدان ..الاعلام..والاعلام.هو السبب ..لقد كانت الدول العربية..التي تدمرت بالحروب الشعبية..متقدمة..فالاقدم ليس فقط بتصنيع السيارة والطائرة..بقدر ما هو بنمط العيش..والوسائل المتاحة..وللقادة ايضا دور هدام..لا يمكن تطبيق الاسلام..هكذا..على الدول العصرية..كذلك العقلية السلطوية..لا تذهب من عقول العرب..اعتقد انه هناك امور اذا نجح الاعلام فيها ستنجح الامة وهي ان التغيير يجب ان يكون سلميا..وان الحال العربي كان افضل حال من قبل..ويجب عدم معاداة الغرب.بل الاستفادة من القوانين التي يطبقها الغرب على شعوبه..ويجب نبذ التطرف واحياء حقوق الانسان لكل مكونات الشعوب العربية.

  4. يقول توفيق(هولندا):

    الدنيا بالمقلوب بالفعل
    رغم كل هذا الطمس والتغييب للحقائق وتبجح المجرمين بانتصارات على شعب ثار من اجل الحرية فان الأجيال ستضل تلعن بشار الى قيام الساعة عكس الدكتور المنصف المرزوقي المناضل والحقوقي الذي لم يضلم ولم يقتل وسعى لان يتطابق فعله مع فكره ومبادئه التي أستمدها من فكره وثقافته المستنيرة التي تنحاز لخدمة الشعب وليس للحفاظ على منصب او جاه زائل لا محالة

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية