أتساءل بصدق ماذا لو كان كاتب عالمي مثل «موراكامي» عربياً؟ مجرد فرضية. كيف كان النقد سيستقبله؟ هل سيُعلى إلى السماء السابعة، كما يفعل اليوم بعض نقادنا به؟ أم سيبحثون عن نقائصه وسلبياته الكتابية والسياسية حتى يجعلوا منه «لا شيء»؟ هناك عينان في الرأس نفسه واحدة نائمة أبداً، والثانية متسامحة، تنظر للآخر الذي تقذف به الميديا الغربية، من منظور التقديس، وتخرجه من أية دائرة نقدية. والعين المتربصة نفسها تنظر للمنتج العربي بشكل يهين الذات ويحتقرها، وينزلها إلى الحضيض، وتنتظر متى ما تحرك النقد الموضوعي إيجابياً تجاه هذا النص العربي او ذاك لتبدأ هذه العين في اصطياد سلبيات النص وتتفيهه.
لهذا أسعد لبعض كبار الكتاب العالميين الذين يثيرون جدلاً ثقافياً في بلدانهم وخارجها، حول القيمة الفنية والثقافية، أنهم ليسوا عرباً. وإلا لأصبحوا دون العادي. لأن موراكامي لم ينتظر المؤسسة الغربية، فقد باع في وطنه مليون نسخة في أقل من شهر من روايته 1Q84 سيتحول نص الخيميائي لباولو كويلو إلى نص سطحي وخفيف، ومسروق من نص ألف ليلة وليلة، وأن الدرس الذي يقدمه أو الحكمة، مضحك للغاية. وتتحول رواية «شيفرة دافنشي» إلى رواية منقولة حرفياً عن قصة مريم المجدلية التي أخذتها بعض التيارات المسيحية وطورتها باتجاه أنسنة سيدنا المسيح، واعطائه امتداداً من خلال علاقته بمريم المجدلية التي أنجب من خلالها ذرية، ظلت سرية إلى اليوم. ويتحول إلى نسخة باهتة لغواية المسيح الأخيرة لنيكوس كزانتزاكي التي صدرت قبلها بسنوات. وسيتحول كتاب «ملينيوم» للارسن ستيغ الذي أثار جدلاً كبيراً في وطنه وخارجه، وقرأه قرابة الثمانية ملايين في اسكندنافيا وحدها، وهو ما يعادل عدد سكان بلده السويد تقريباً. سيقال عنه أيضاً أنه كتاب مصاب بالبدانة، بلا معنى، ويحتاج إلى ضغطه إلى الثلثين ليستقيم فنياً. وآخر النصوص التي اكتشفها بعض نقادنا ومبدعينا المتابعين؟ هي ثلاثية الياباني موراكامي 1Q84علماً بأن الرواية صدرت في 2009، أي قبل أكثر من ست سنوات. لنقل مبرر التأخر هو أحادية اللغة وانتظار الترجمة إلى العربية المتأخرة دوماً. طبعاً، كان يمكن أن يكون الأمر عادياً لو لم يكن مشفوعاً بدروس مسبقة من المكتشفين؟ عن القراءة وتخلفها في بلادنا العربية. ظاهرة غريبة هي ظاهرة التخفي وراء كاتب عالمي كبير مثل موراكامي لإظهار القيمة الذاتية المتهالكة، مع أنه لا ضرورة لذلك، لأن لا أحد يستطيع أن يكون الآخر. باستثناء التباهي المرضي بالآخر وجلد الذات دوماً والاستهانة بقدرتها على إنتاج القيمة. بل أقول إن في الموقف عنصرية مقيتة تجعل من الآخر قيمة مطلقة مع أن الثقافات العالمية علمتنا بان القيمة الإبداعية ليست قسراً على مجموعة بشرية دون غيرها، مهما كانت درجة تقدمها. لم يمنع تخلف ألبانيا من إنجاب الكاتب إسماعيل كداري، ولا انهيار الدولة في أفغانستان من ولادة روائي عالمي كخالد الحسيني، ولا منع نجيب محفوظ من الحصول على نوبل، ولا تأخّر السودان حرمها من قيمة عالمية كالطيب صالح. القيمة مطلقة، في أي مكان وأي زمان، والعرب ليسوا مستثنين منها.
حتى أن النظرة التقديسية للآخر غير مؤسسة على ثقافة أجنبية عميقة. وأستطيع، من خلال تقديم بعض النقاد العرب والمبدعين، التعميمي لرواية 1Q84، أن أجزم بأنهم لم يقرأوها، وفي أحسن الأحوال فتحوا الكتاب ومسحوه بأعينهم عبوراً لا تأملاً. لا شخصيات مدروسة. لا أحداث، لا بنية سردية، لا مكان، لا إشكالية كتابية، لا فكرة، إلا لغة فضفاضة، وقضايا فوقية عائمة يمكن أن نجدها مكرورة في كل الأعمال الأدبية وبقايا مقالات غوغل التي توصّف الرواية ذاتها.
ماذا عن ثلاثية «ملينيون» لستيغ لارسن، بعد ان تصلهم ترجمتها بعد سنوات؟ وماذا عن ثلاثية التدرجات الخمسين لغري ل: أ. جيمس. التي رفعتها الميديا إلى سقف المنتج الإنساني، فوزع منها قبل سنوات أكثر من 120 مليوناً. أستغرب عربياً من أحد النقاد العرب الذي يجزم وهو يكتشف الجزء الأول من رواية موراكامي 1Q84 أن علاقتها برواية جورج أورويل مبطنة وتكاد لا تظهر.
لا يحتاج القارئ العربي العاقل إلى جهد كبير ليدرك أن التناص يبدأ أولاً من العنوان. فقد اختارت رواية موراكامي السنة نفسها التي كتب عنها جورج اورويل روايته. وهي 1Q84 والتي تعني 1984، لسبب بسيط يمكن تفسيره بالرجوع إلى اللغة اليابانية وتصريحات الكاتب. نطق Q كيو في الإنكليزية هو نفسه نطق العدد 9 في اليابانية أي كيو. الأحداث تدور في السنة الكابوسية التي افترضها جورج أوروبل مادة لروايته. ويتجلى التأثير عميقاً خارج العنوان أيضاً، فيمس إحدى الشخصيات الأساسية، رئيس إحدى الملل المتعصبة Secte تاموستو فوكادا، فهو يشبه في كل مواصفاته بيغ بروذر أو الأخ الكبير، الذي يتماهى مع تاموستو. قصة آوومامي صاحبة الثلاثين سنة، القادمة من عائلة عضو في ملّة دينية غامضة وأستاذة الفنون القتالية، وتينغو صديق الطفولة لا تختلف كثيراً من حيث الجوهر عن جوليا ووينسطن سميث في 1984، في صراعهما من أجل تثبيت قيمة الحب في مجتمع سمته الأساسية التوحش. نرى تحولات السنة الافتراضية التي أصبحت حقيقة كابوسية التي سمتها أومامي 1Q84 من خلال نظراتهما إذ خصص موراكامي لكل شخصية جزءاً من ثلاثيته. ناهيك عن أن كل شيء يصلنا متأخراً، وعندما يصل تكون فاعليته الإعلامية نفسها قد توقفت. لأن البيست سيلر محكوم أيضاً بلحظة زمنية محددة لا أكثر. وعندما تنتهي هذه الحظة، يحل محلها نص آخر. منذ ثلاثية موراكامي جاءت نصوص أخرى للكاتب نفسه مثل تسوكورو تازاكي وسنوات حجه في 2013، أو مجموعته «رجال بلا نساء» التي صدرت في 2014. ماذا لو تسلينا وأخذنا رواية موراكامي، الكبيرة عالمياً، وغيّرنا عنوانها، ووضعنا عليها اسم أي كاتب عربي معروف؟ متأكد مليون في المئة؟ أنه؟ باستثناء النقاد الجادين والقليلين، لن ينتبه لها أحد. وإذا أظهرها النقد العربي، ودافع عنها، سيصبح الكاتب عدواً. سيشتمه سدنة الاكتشافات العظيمة، وسيشتمون كتاباته الضعيفة والمنحطة، التي تسيء الى الكتابة، وإلى مستوى الكتابة في بلاده. بالخصوص اذا افترضنا اسم كاتب معروف. لأن كل كاتب مشهور في العالم العربي هو عدو مفترض للفاشلين، أو الذين خابت ظنونهم في أوطانهم وفي العالمية التي تأتي ولا تأتي.
روايات موراكامي تجسد انهيار حداثة تأكل نفسها بقوة. ماذا لو وضعنا أمامها منجز عبد الرحمن منيف وجرأتها وصدقها، أو بعض كتابات نجيب محفوظ، أو الياس خوري، أو اسماعيل فهد اسماعيل؟ وغيرهم. لا أعتقد أننا أقل قيمة مطلقاً من الآخرين، بل قد تعلو نصوصنا العربية في بعض نماذجها. الفرق، هناك ماكينة الميديا التي ترفع وتنزل من تشاء. وهنا لا أبالية وعدم اهتمام بالميديا. لهذا، لن ترقى نصوصنا إلى أي عالمية محتملة في ظل عالمية سياسية وإيديولوجية يساعدها في ذلك سدنة الجهل والأمية المتخفية الذين لن يخفوا سر زيارة موراكامي العربي إلى إسرائيل وحصوله على جائزة أورشليم الإسرائيلية في شباط/فبراير 2009، التي استلمها من يد رئيس الاحتلال الإسرائيلي شيمون بيريس، في عز حرب غزة. وقال في كلمته التي ألقاها بمناسبة الجائزة: «نبهني البعض إلى أن مجيئي لإسرائيل هو تزكية لحرب غزة. ولكني في الأخير اتخذت قراري بالمجيء لأني كباقي كتاب الروايات، أقوم دائماً بعكس ما أنهى عن فعله».
واسيني الأعرج
نعم لفضح الدجالين ونعم لفضح من يساندهم
ولا حول ولا قوة الا بالله