تختلف قراءة النصوص الروائية باختلاف طبيعة خطابها. ولهذا، فالقراءة النقدية تبدأ من نوعية اختيار النصوص التي ليست كلها مُؤهلة لكي تُفيد في المعنى الأدبي- التنظيري، وفي إنتاج الوعي، إما بطبيعة أدبية الأدب، أو بتحولات الأدب، أو تمنح للنقد إشارات عن تصورات في الرواية.
نلتقي بنصوص ممتعة على مستوى القراءة، تشدنا حكايتها، ولا نستطيع فراق العمل إلا بانتهاء الحكاية، أو تأخذنا لغتها الفنية، أو نتعاطف مع موضوعها، إذا كان قريبا من اهتمامنا، وقد تحقق مثل هذه النصوص درجة عالية من القراءة، خاصة لدى القارئ العادي، وتحظى بمبيعات كثيرة، تُفاجئ المتخصصين في مجال النقد، أو تثير دهشة الكُتاب – أنفسهم – خاصة أولئك الذين يجدون أنفسهم يكتبون وفق معمار روائي، ويشتغلون على خطاب نصوصهم، غير أن أعمالهم لا تستطيع أن تدخل في منافسة مع تلك الأعمال.
ولهذا، نسمع- كثيرا- تذمر بعض الكتاب من واقع القراءة، ويطرح بعضهم سؤال: كيف نكتب؟ هل نكتب من أجل ذوق القراء، ونُسايرهم في اختياراتهم؟، هل نستعين بطلبات القراء، لنختار حكاية وموضوع الكتابة؟ أم نكتب خارج وصايا القارئ؟ هل القارئ حاضر باعتباره مكونا ملموسا/واقعيا، يفرض شرطه على الكاتب؟ أم يحضر باعتباره عنصرا ضمنيا، حضوره في الكتابة يتحقق بشكل لا إرادي من الكاتب، ويدخل في إطار منطق الكتابة؟.
ولعلها أسئلة، تتردد، وستظل تُطرح باستمرار، مادامت ثقافة الذوق تختلف من قارئ إلى آخر، ومن مجتمع إلى آخر. غير أن أمرا لابد من الوعي به، من أجل التمييز بين شكلين من النصوص، شكل يُحقق متعة فنية وجمالية، غير أنه لا يمكن الاشتغال به نقديا، لأنه لا يُقدم خطابا نصيا يصلح للتأمل النظري.
وشكل آخر، قد لا يثير دهشة في موضوعه، وقد يبدو للبعض مُربكا لميثاق قراءته، لكنه يقترح خطابا متماسكا سرديا، وعبر هذا الخطاب، يتحول هذا الشكل من النصوص إلى مادة خصبة للتفكير النقدي. ونستحضر هنا، التجربة البيداغوجية للدرس الجامعي في مادة الخطاب الروائي، فليست كل الأعمال صالحة منهجيا للوعي بالخطاب الروائي، إنما يحتاج الأمر- علميا- إلى اختيار النصوص، الأكثر إتقانا لمعمارية الجنس الروائي، من أجل إنتاج وعي علمي بماهية الخطاب. لا بد إذن، من التمييز بين القراءة العاشقة، التي تشتغل بالنصوص التي تُحقق هذا المعنى، والقراءة المُطالبة بإنتاج المعنى النظري. وبالعودة إلى النقاشات والمقالات التي ترافق نتائج التحكيم في الجوائز الأدبية، الخاصة بالجنس الروائي، سنجد مرجعياتها تتوزع بين هذين الشكلين من القراءة، غير أن أعمالا روائية تضيع وسط هذا التجاذب بين القراءتين. يطرح العمل السردي» في الهُنا» (2014)، للكاتب الكويتي طالب الرفاعي بعض مظاهر المعنى التنظيري.
لقد جنَس المؤلف عمله بالرواية، لكنه جعلها- في الوقت ذاته – من خلال النص المُرفق في الغلاف « سيرة ذاتية حقيقية»، إذ يقول المؤلف، «(في الهنا) رواية سيرة ذاتية حقيقية. صرخة موحشة، تضجُ بوجع ووحدة صاحبها. تعري العوالم الخفية لعلاقة المرأة بالرجل في المجتمعات الخليجية (…) ويكون طالب الرفاعي، شاهدا مشاركا في معايشة منعطفات هذه العلاقة». نحن إذن، أمام مجموعة من العلامات التي قد تبدو متناقضة في ما بينها. فالمؤلف طالب الرفاعي يمنح لنصه الهوية الروائية، ويجعل بالتالي، «في الهُنا» تخضع لمنطق التعبير الروائي، من خلال الامتثال لشرط التخييل، وفي الوقت ذاته، يجعل الرواية نفسها، عبارة عن حقيقة، لكونها تكتب سيرة علاقة بين امرأة ورجل، يعرف المؤلف تفاصيلها. يتحول التخييل إلى حقيقة، والرواية إلى سيرة ذاتية، وينتقل المؤلف طالب الرفاعي من موقعه المادي/الحقيقي في الواقع، إلى موقع في التخييل، بل يتحقق وجوده ضمن حالة مُركَبة من الواقعي والتخييلي. تتحقق وضعية الكتابة السردية هنا، بعيدا- إلى حد ما- عن شرطي الرواية والسيرة الذاتية. فمن جهة، يتم سرد الحكاية من خلال وعيين ذاتيين، وعي الشخصية النصية – كوثر التي ارتبطت بعلاقة حب مع رجل متزوج وله أطفال، ووعي المؤلف الذي قرر كتابة رواية سيرة هذا الحب، غير أن بين قرار الكتابة، وتحققها، تشكلت حكاية انتصر فيها السرد للتخييل الذاتي للشخصية «كوثر»، وتجاوز قرار المؤلف.
إذ لا نلتقي بأحداث تنمو وتُطور معها شكل الحكاية، كما لا نلتقي بشخصيات تتحرك في المكان والزمن، وتؤثر بفعلها في سير الحكاية. ما يحدث يأتي على شكل حوار ذهني، أو تواصل ذاتي، تُقيمه كوثر مع ذاتها، وهي تعيد التأمل في علاقتها بالرجل الذي أحبته، وذلك قبل أن تعقد قران زواجها به سرا، مما انعكس على أسلوب الكتابة الذي اتخذ إيقاعا واحدا، ولم يعرف تنوعا كبيرا. كما أن فكرة السيرة الحقيقية أو الذاتية التي انطلق المؤلف من تحقيقها، تتراجع، تدريجيا، مع تراجعه باعتباره سارد السيرة، أمام هيمنة ضمير الساردة «كوثر».
فقد هيمن ضمير المتكلم العائد إلى كوثر، على ضمير المُخاطب الذي تبناه المؤلف في سرده لحكاية علاقة كوثر بحبيبها، مع بزوغ ضمير ذاتي يرجع إلى السارد- المؤلف، الذي سيدفعه السرد إلى إعادة التفكير في ذاته، ووضعه وعلاقته بالمثقفين والكتاب، ويكفي أن نشير إلى هيمنة علامة» الفضاء» الهنا، عنوانا وحكيا، وانشغالا من طرف المؤلف طالب الرفاعي، وعلاقة ذلك بمكتبه الذي يُلخص عالمه في كتابة الرواية، والمقالة والتفكير في مشاريع، وعلاقته بالوحدة، «أتأمل سجني بوحدتي في الهنا، فأهرب إلى عالم مواقع الإنترنت..» (ص78) ولذلك، يصبح هذا الفضاء مُحفزا- أكثر- لجعل المؤلف يدخل في حوار ذاتي، عبره يعيد التفكير في الوسط الثقافي، يقول: «استوقفني الحدث، وكيف أن البعض يتقرب منك لمكانك لا مكانتك. رحت أتملَى بمتعة خبيثة انقطاع وصل بعض معارفي من داخل الكويت وخارجها، وكم تكشفت لي أنفس بائسة» (ص76).
ينطلق المؤلف من رغبة كتابة سيرة كوثر، فإذا به يكتب سيرة فضائه الخاص/»الهنا»، يقول: يوم بدأت السير على درب الكتابة المغري، في مجلات وصحف جامعة الكويت في منتصف السبعينيات، كنت طالبا في كلية الهندسة والبترول، وقتها منيت نفسي بأحلام كثيرة(….)»(ص42). يتخلى المؤلف عن سرد سيرة كوثر، وهي تواجه الإكراهات الاجتماعية في علاقتها برجل متزوج، وسني، وينخرط في حكي سيرته، بل يمرر عبر سيرة كوثر تصوراته، «كيف أنقل لها أنها بطلة روايتي، وأنني أضع على لسانها تصوراتي لقصة حياتها وعلاقتها مع مشاري؟» (ص44). يعرف نص «في الهنا» تحولات على مستوى هويته الأجناسية، يبدأ رواية، في وعي المؤلف، لكنه ينزاح- سرديا- نحو التخييل الذاتي، وتبدأ المرأة- كوثر باعتبارها موضوعا لسيرة حقيقية، تكفَل المؤلف بتوثيقها، في بُعدها الحقيقي، غيرأن السرد حوَلها من موضوع إلى ذات، عندما أزاح المؤلف عن مجال السرد، وجعل كوثر ساردة حياتها الداخلية.
لذا، هيمنت المقاطع السردية بضميرها المتكلم على مساحة النص، وجاءت مقاطع المؤلف بضمير المخاطب ( سرد السيرة)، والمتكلم (سرد الذات)، قليلة وقصيرة، لا تُشكل حدثا سرديا، بل تُحوَل المؤلف إلى موضوع للتأمل في أفكاره وتصوراته ورؤاه، وتجعله تابعا للساردة – المرأة التي عندما تُقرر الخروج من السرد، تأخذ معها نهاية حكايتها، وتضع المؤلف أمام سؤال تلاشي الحكاية، فيلجأ إلى عنصر غيبي، من خلال إعادة إحياء السرد لوالدة المؤلف. وإذا كانت الحكاية تضع المرأة موضع الضحية في المنطق الاجتماعي، وتضيع ضميرها، وتُربك إمكانية إعلان صوتها وإرادتها، فإن السرد يخرق هذا المنطق، ويتجاوز الحكاية، عندما يجعل المرأة حاضرة بقوة ضميرها المتكلم المفرد الذي تكرر بشكل لافت للنظر في النص، وجاء مرافقا للفعل، كما حضرت المرأة في خطاب النص ذاتا متحكمة في شكل العلاقة مع الرجل، وصاحبة قرارات فردية (السكن بمفردها)، بل حولت المجتمع والرجل، والمؤلف، مُوثَق حكايتها إلى مواضيع للتفكير والتأمل.
وبهذا الشكل، نلتقي بالتخييل الذاتي الغيري، باعتباره نوعا سرديا، يجعل الذات تتخيل ذاتها، لتعيد تأملها واكتشافها، وليس لتوثيقها سيرة. وإذا كان التخييل الذاتي، قد ارتبط بذاتية المؤلف، فإننا مع «في الهنا» يصبح مرتبطا بالذات الغيرية، ذات الشخصية النصية/كوثر.
ناقدة مغربية
زهور كرام