موسكو ـ «القدس العربي»: تراقب روسيا التطورات المترتبة على معركة الباب باهتمام كبير، وثمة قراءات في موسكو تشير إلى أن السيناريو التركي في مكافحة الإرهاب في سوريا يتقاطع مع الروسي، غير أن موسكو تتحفظ على مُضي أنقرة في عملياتها من دون تنسيق، وتضع بعض الاشتراطات عليها.
من جهة أخرى هناك مخاوف من حدوث مواجهات عسكرية بين قوات نظام الأسد والقوات التركية أو مع الميليشيات الكردية مما سيضع روسيا في موقف دقيق ويفرض عليها خيارات صعبة. كما أن روسيا لن تقبل بحدوث تغيرات على الأرض السورية قد تؤدي إلى تهميش دورها أو اضعاف مواقع النظام السوري.
وطرأت تغيرات على «عملية الباب» التي بدأتها القوات التركية و«الجيش السوري الحر»، منذ بداية العام حيث دخلت على خطها قوات النظام السوري بدعم روسي، واستغلت قوات النظام تصعيد تركيا و«الجيش السوري الحر» للعمليات ضد تنظيم «الدولة» المسيطر على المدينة، فدخلت بحسابات إيرانية وروسية فيما يبدو.
ومع تزامن «عملية الباب» وسقوط تدمر ثانية بيد تنظيم «الدولة» وحشده هناك لقوة كبيرة للدفاع عن المدينة، تذهب بعض التحليلات إلى القول إنه بتصعيد هجومها في منطقة الباب، فإن قوات نظام الأسد المدعومة من روسيا وإيران تهدف إلى إرغام تنظيم «الدولة» على دفع قوات إضافية لهذه المنطقة، ما يقلل من عدد مقاتلي التنظيم المحصنين في تدمر.
ولا تستبعد وسائل إعلامية روسية من أن عدم تنسيق الجانب التركي مع روسيا في الهجوم على الباب وزحفها نحو الرقة، قد يُلقى بظلاله على العلاقة مع موسكو. واتفقت روسيا وتركيا في وقت سابق على القيام بتوجيه ضربات مشتركة على مواقع تنظيم «الدولة» في المنطقة كما حدث في 18 كانون الثاني (يناير) الماضي. ويعتقد محللون في موسكو أن التصريحات التي أطلقها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خلال مؤتمره الصحافي في 13 من الشهر الحالي هي تلميحات موجهة إلى أنقرة. لافروف أشار إلى «أن تواجد عدد كبير من المشاركين في ميدان واحد يتطلب التنسيق حتى لو أن هدفا واحدا يجمعهم وهو مكافحة الإرهاب»، موضحاً «أن هذا يتعلق بعملية الباب التي ستنتقل إلى منبج وماذا يحدث فيما بعد بالرقة». وأعاد الوزير الموقف الروسي المعروف بـ «ضرورة احترام سيادة ووحدة أراضي سوريا، وهو ما أشارت إليه كافة قرارات مجلس الأمن المتعلقة بالأزمة السورية»، حسب قوله.
قواعد مفهومة بين الطرفين
وتذهب مصادر روسية إلى الاعتقاد بأن وصول إدارة جديدة للبيت الأبيض ووعود دونالد ترامب باجتثاث تنظيم «الدولة» سيمنح الرئيس التركي طيب رجب أردوغان الفرصة لأن يلعب الدور الرئيسي في مكافحة الإرهاب في سوريا، وبهذا المعنى فإنه سيدفع بروسيا إلى مواقع خلفية لا تتناسب والدور الذي تقوم به في التسوية السورية، ومن المشكوك فيه أن يقبل الكرملين بذلك بعد أن قبِل بتنسيق الأدوار هناك وفق قواعد مفهومة بين الطرفين.
وتجدر الإشارة إلى أن التفاهم بين موسكو وأنقرة هو الذي ساعد تركيا و«الجيش السوري الحر» على التقدم في المرحلة الأولى نحو الباب ومحاصرتها، وأن تعكّر أجواء العلاقات وانفراط التنسيق بينهما سيؤخر تقدم تركيا وحلفائها، ويمنح فرصة لتنظيم «الدولة» لإعادة هيكلة قواتها. ووفقا لتقديرات المحلل السياسي والعسكري بافل إيفانوف فإن قيادة تنظيم «الدولة» أخطأت الحسابات من الناحيتين السياسية والعسكرية، ودفعت بقوة كبيرة في معركة الباب على أمل عدم اتفاق أنقرة وموسكو. ويقول ايفانوف «إن هزيمة القوى الموالية لتركيا كانت ستفتح فرصة فريدة أمام تنظيم الدولة لتدمير تشكيلات الجيش السوري الحر والتضييق على الأكراد، وبعد هذا توجيه القوة الفائضة عن الحاجة لمواجهة قوات النظام على مشارف حلب، ومن هنا جاءت الغلطة العسكرية لتنظيم الدولة، حيث سحب من منطقة تدمر قوة كبيرة، وركزها في منطقة ضيقة لوقف القوة التركية ومن ثم ضربها. ولكن قوة صغيرة في الشمال من جانب حلب قطعت الــــطـــريق على فصـــائل الدولة وتمســكت بمنطقـــة هامة، وحينما وصلت قـــوات النظــام هاجمت قوة الدولة بالمدفعية والقـــوة الجوية وسحقت مقاتلي التنظيم».
مواجهات محتملة
بين تركيا والأكراد والنظام
المشكلة الأخرى، التي قد تثير سوء تفاهم بين أنقرة وموسكو قد تكون مسألة المواجهات المحتملة بين القوات التركية والأكراد. وتستهدف تركيا من خلال تصعيد حملتها على تنظيم «الدولة» وملاحقته حتى معقله في مدينة الرقة، منع قيام منطقة حكم ذاتي للأكراد مجاورة لها. ومع تقدمها ستشتبك تركيا وحلفاؤها حتما مع الفصائل الكردية، وسيضع هذا التطور روسيا في وضح دقيق. ويقول خبير معهد الاستشراق فلاديمير سوتنيكوف بهذا الصدد «إن موسكو ستجد نفسها في وضع غير سهل فإلى وقت غير بعيد قدمت الدعم للأكراد السوريين، ولكن بعد المصالحة مع أردوغان، فقد تراجع هذا السند المرير بالنسبة له». وحسب رأي المستشرق الروسي: «في حال نشوب مواجهة بين الأتراك والفصائل الكردية على مشــــارف الــــرقة، فإن الجميع سيتطلع إلى موقــف دقــيق وواضح لموسكو، التي تعد اللاعب الرئيسي في التسوية السورية».
إلى ذلك ثمة مخاوف في موسكو من حدوث مواجهات عسكرية بين القوات التركية المتحالفة مع «الجيش السوري الحر» وقوات النظام، حين سيلتقي الطرفان في مدينة الباب. ونقلت صحيفة «الازفيستيا» عن مصدر في مجلس الفيدرالية (المجلس الأعلى للبرلمان الروسي) قوله: «إن الدبلوماسيين والعسكريين الروس يعملون كل ما في وسعهم من أجل الحيلولة دون نشوب نزاع بين الطرفين». وقال نائب رئيس لجنة الشؤون الدولية في مجلس الفيدرالية أندريه كليموت «إن موسكو ستسعى إلى عدم اندلاع مواجهة بين سوريا وتركيا في منطقة الباب. والقيادة الروسية والخبراء الذين يعكفون على تسوية النزاع في سوريا، يراقبون عن كثب الوضع باهتمام وسيعملون كل ما في وسعهم، لكي لا تنشأ ذريعة إضافية لاحتدام الوضع في المنطقة الساخنة أصلا».
كما أن روسيا تتحسب من أن الامتداد التركي من الباب إلى الرقة سيدخل إلى حيز التنفيذ خطط تقسيم سوريا إلى مناطق آمنة، أو بالأحرى مناطق نفوذ. وأفاد مصدر دبلوماسي عسكري روسي في تصريحات صحافية في موسكو «إن روسيا ضد إقامة أي شكل من أشكال المناطق في سوريا ولاسيما مناطق يحظر فيها الطيران، التي لن تكون خاضعة لسيطرة النظام. وسيتم إيصال هذا الموقف قريبا إلى القيادة التركية وإلى غيرها من الدول التي تدعم موقف أردوغان، ولا يستبعد أن لدى موسكو سيناريوهات جاهزة ستدخلها إلى حيز التنفيذ على ضوء التطورات المقبلة على الأرض».
وتنصب الجهود الروسية حاليا على عدم إتاحة المجال للقوات التركية و«الجيش السوري الحر» لتنفيذ المرحلة التالية من سيناريو أردوغان الرامي إلى عدم التوقف في منطقة الباب، والتحضير للتحرك نحو الرقة. وكانت روسيا غضّت النظر عن دخول القوات التركية للأراضي السورية في عملية «درع الفرات». وذكرت حينها مصادر روسية أن هذا جاء نتيجة اتفاق بين موسكو وأنقرة لتحجيم الحراك الكردي لا أكثر، وأن الخروج عن المنطقة المتفق عليها في العمق السوري غير مقبول من قبل موسكو، وستعتبره انتهاكاً لسيادة سوريا ووحدة أراضيها، وربما ستعمل روسيا على دعم قوات النظام للسيطرة على الرقة وترسيخ مواقعها أكثر وإملاء شروط موسكو ودمشق وحلفائهما في التسوية التي لم تتضح آفاقها السلمية بعد.
في سورية الأدوار موزعة بين جميع الأطراف ؛ لكل نصيبه من الكعكة٠ أما التركيز على أن روسيا تخشى من تركيا؛ فهذا أقرب إل التمنيات منه إلى التحليل. تركيا تخشى من ضياع مصالح إقتصادية كبيرة في حالة أغضبت موسكو؛ هذه الأخيرة تستطيع إغراق أنقرة في مستنقع صراع سوري ـكردي عراقي إيراني، خاصة وأن أمريكا لا تستطيع التفريط في الورقة الكردية الوحيدة التي تضمن لها وجودا مباشرا و مضمونا في سورية من أجل تركيا٠ كل ما يهم الأتراك في هذه المرحلة هو منع إقامة كيان كردي في سورية يهدد أمنها و هي لن تقامر بإعطاء الأكراد فرصة لإقامة تحالفات قد تضع قواتها في مستنقع لن تخرج منه سالمة