إنه لأمر مثير للأسى أن يعرف هذا العام، سياسياً، باسم الرئيس الأمريكي القادم من عالم الانترتينمنت إلى البيت الأبيض. وقد نجح الرجل في إكمال سنته الأولى في الحكم، على رغم الفضائح التي ساعدت على انتخابه، وتلك التي أثارها بتصريحاته الهوجاء وقراراته المخجلة، وعلى رغم التحقيقات القضائية المستمرة التي قد تطيح به من موقعه خلال العام القادم.
وكأن تولي ترامب في الولايات المتحدة لم يكن كافياً للشهادة على تدهور القيم في عالم السياسة، بصورة حادة، جاء انتخاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الشبيه بترامب في وجوه عدة، ليكتمل المشهد السياسي العالمي الذي يبدو كما لو أنه فقد بوصلتيه السياسية والأخلاقية. وفي حين هدمت الصين سورها العظيم، في الاقتصاد، واخترقت الحدود القومية للدول، وباتت مرشحة لاحتلال موقع القوة الأولى اقتصادياً، ارتفعت في الغرب أسوار النزعة الانعزالية وكره الأجانب، فانتعش اليمين المتطرف في أكثر من بلد أوروبي وأحرز نجاحات انتخابية لافتة.
بدأ ترامب رحلته الخارجية الأولى من الرياض، حيث اقتنص صفقة سلاح خيالية وأطلق حملته، اللفظية إلى الآن، لمحاصرة النفوذ الإيراني في منطقتنا. ولم تمض أيام قليلة على زيارته المذكورة، حتى اندلع الخلاف السعودي ـ القطري مجدداً، بعد فترة كمون، واتخذت أربع دول خليجية قرارات قاسية بحصار قطر. فأضيفت مشكلة جديدة إلى عقدة مشكلات المنطقة الملتهبة منذ سنوات.
وبـ»ليلة القبض على الأمراء» انتقل من الظل إلى العلن، تغيير كبير في مؤسسة الحكم في السعودية، بالانتقال من نمط التوريث التقليدي بين الأخوة من أبناء عبد العزيز، إلى إنشاء سلالة حاكمة محصورة بأبناء الملك سلمان، تبدأ بولي العهد محمد الذي ظهرت بصماته في السياسة السعودية منذ حرب اليمن.
وفي التوقيت نفسه أعلن رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري استقالته من الرياض، فظهر الحدثان وكأنهما واحد. غير أن ما نجح في السعودية، من إطاحة بمن يمكن أن يعكروا صفو التغيير في بيت الحكم السعودي، لم ينجح في لبنان، فعاد الحريري إلى موقعه في بيروت من غير أن يغير حزب الله شيئاً من هيمنته على الدولة اللبنانية التي يطالب رئيسها ميشيل عون، على خطى صهره جبران باسيل، بترحيل اللاجئين السوريين من لبنان، وما يعنيه ذلك من وجوب التنسيق مع نظام البراميل والكيماوي في دمشق الذي يجسد بشفافية تامة انحطاط السياسة العالمية في أقصى تجلياتها.
ومن الأحداث المهمة في هذا العام، تلك الزيارة المفاجئة التي قام بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى قاعدة حميميم الروسية على الشاطئ السوري، حيث التقى برأس النظام الكيماوي وحرص على إذلاله على الملأ أمام الكاميرات، وأعلن نهاية النسخة الروسية من الحرب على الإرهاب، وعن بداية سحب جزء من قواته العاملة على الأراضي السورية. وهي كذبة تكررت ثلاث مرات منذ بداية التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا، أيلول 2015. انتهت الحرب، وفقاً لبوتين، في حين يستمر قصف غوطة دمشق الشرقية المحاصرة التي يموت فيها الأطفال بسبب نقص الغذاء والدواء، وهي المنطقة المشمولة بخطة «وقف التصعيد» على الطريقة البوتينية.
لكن الأسوأ من ذلك هو تسليم «المجتمع الدولي» للمحتل ـ المحارب الروسي بحل الصراع في سوريا، حلاً لا يختلف عما ابتكرته المخيلة الضيقة للعصابة الحاكمة من «حلول» تمثلت في شعارات «الأسد أو نحرق البلد» أو «الجوع حتى الركوع». فما تفتق عنه خيال رجل المخابرات السابق في العهد السوفييتي فلاديمير بوتين، لا يتجاوز جمع 1500 من حملة الجنسية السورية، ممن يتمسكون ببقاء الجزار أسد، في منتجع سوتشي على شاطئ البحر الأسود، ليشرعنوا اغتصاب سوريا بتزويج الضحية لمغتصبها تحت رعاية روسية ـ إيرانية ـ تركية.
وتمهيداً لهذه الخاتمة المتخيلة، أرغمت المعارضة السورية على إعادة إنتاج نفسها، في اجتماع الرياض 2، بإدخال النظام إلى جسم «الهيئة العليا للتفاوض». حتى هذا التدبير الغريب لم يرض بشار الجعفري الذي اضطر المبعوث الأممي إلى تحميله مسؤولية فشل جنيف 8، فطالب بإلغاء بيان الرياض 2، على غرار مطالبة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي بإلغاء نتيجة الاستفتاء على استقلال إقليم كردستان!
مسعود بارزاني الذي تعرض لأكبر هزيمة سياسية في حياته، من خلال عواقب تنظيم الاستفتاء، انسحب من حكم الإقليم من غير أن يقوم بنقد ذاتي يليق بتاريخه، وفضل إلقاء اللوم على الخصوم الذين توحدوا ضد الإقليم وأفشلوا حلم ملايين الكرد في الحرية والاستقلال، فضلاً عن خسارة كل المكاسب المتحققة للإقليم في الإطار الفيدرالي.
وكانت نهاية هذا العام الكئيب «بضربة صولد» جديرة بدونالد ترامب وشخصيته: إعلان القدس عاصمة لدولة إسرائيل، واتخاذ القرار بنقل السفارة الأمريكية إليها. ربما استعاد العالم شيئاً من كرامته الممرغة في التراب، من خلال تصويت 14 عضواً في مجلس الأمن لصالح مشروع قرار يبطل مفاعيل القرار الأمريكي بشأن القدس، مقابل انفراد الولايات المتحدة في معارضة مشرع القرار الذي سقط بهذا الفيتو. وتمادى الرجل في وقاحته حين هدد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بقطع المساعدات المالية إذا صوتوا في الجمعية العمومية لمصلحة مشروع القرار الأممي الذي نجح برغم ذلك.
التطور الأخير «منعش» معنوياً ومعاكس للتردي العام في السياسة العالمية، لكنه لن يؤثر على هذا الاتجاه. فها هي غواتيمالا تعلن، بدورها، قراراً بنقل سفارتها إلى القدس، وقد تتبعها دول أخرى.
لا شيء يغري بالتفاؤل بالعام الجديد، إذا كنا قد عشنا مقدماته المذكور بعضها في الأسطر السابقة.
٭ كاتب سوري
بكر صدقي