007

القوالب مريحة، هي مريحة لي كما لغيري، أن تعرف الإطار الذي يحيط بالشخص الذي تتبادل معه حواراً أو نقاشاً، وأنا غير مريحة أحياناً لنفسي كما لغيري، لعدم وجود إطار واضح يحددني لنفسي حتى قبل غيري. أصنع مشكلة للقلائل المتابعين، سواء للمقالات أو على وسائل التواصل، حيث لا تبدو لي هوية أيديولوجية محددة، وفي ظل وجود هوية عائلية وتاريخية أُصبح دوماً محل شك، شك يشعرني أحياناً بأنني أقترب من وضعية الجواسيس والمخبرين السريين عوضاً عن بساطة وانعدام أهمية وضعي الحقيقي. طبعاً، لست شخصية على أي درجة من الأهمية لينفرد المقال بتحليل وضعي، ولكنني أتخذ من حالتي مثالاً للعديدين الذين يمرون بالتجربة ذاتها، حيث تختلف أفكارهم عن خلفياتهم الاجتماعية والتاريخية، ما يتسبب في أزمة لمتابعيهم ويضعهم موضع الشك الدائم عندهم.
كتبت قبل فترة مثلاً أنتقد بعض الطقوس والممارسات الشيعية في الخليج، أثار ذلك حفيظة عدد كبير من متابعي «تويتر»، حيث تأرجحت التعليقات ما بين خفيف الظل منها، مثل تغريدة أحد القراء التي قال فيها «حرامات الله صارف عليج طين» والتي أكسبتنا ضحكات وحوارات غاية في الظرافة على «تويتر»، ووصولاً إلى الجدي جداً منها والذي ارتأى فيّ نموذجاً امتيازي النفاق، حيث إن محاولاتي المستمرة لنقد الداخل الشيعي ما هي سوى محاولات إثبات حياديتي الليبرالية وتملق للطرف السني الذي سأكسبه بمجرد طرحي لأي نقد شيعي. يثير مثل هذا النقد، ولأسباب مفهومة ومقدرة بالطبع، الداخل الشيعي الذي يعاني التمييز ويمر بفترات حرجة مستمرة خلال التاريخ الخليجي المعاصر على مدى الأربعين سنة الماضية التي هي في عمقها انعكاس لتاريخ القمع والمعاناة الطويل، الذي بدأ منذ فجر الخلافة الإسلامية. كل ذلك يجعل من كتاباتي النقدية وغيري من الكتاب المنتمين لهذه الطائفة عبئاً إضافياً يبعث على إثارة الغضب وإحماء الصد الدفاعي دون الغور الحقيقي في الأفكار المطروحة، ودون التملي في الأهمية القصوى للنقد الداخلي وما قد يتبعه من نتائج إصلاحية إيجابية.
وقبل ذلك بفترة كنت قد كتبت كذلك انتقاداً للتضخيم العربي عموماً والخليجي خصوصاً للدور الإيراني في المنطقة، وهو تضخيم أراه متعمداً لإبعاد الرؤية عن الخطر الإسرائيلي ولخلق جبهة موحدة معهم من منطلق أن «عدو عدوي صديقي»، ما حول كل الغضبات الآن من إسرائيل كعدو مستحق، إلى إيران كعدو، في رأيي، هلامي تم تضخيمه، كما سبق وذكرت، لإحكام القبضة حول عنق الداخل الشيعي من جهة ولتخفيف القبضة حول عنق العدو الإسرائيلي من جهة أخرى. أتت التعليقات تجاه هذه الأفكار المطروحة لتعلنني طبعاً جاسوسة إيرانية، ذات قناع ليبرالي يخفي خلفه صفوية عميقة الغرس. ما زلت أتذكر تغريدة وصلتني تقول «أنت كل تغريداتج مع المصلحة الإيرانية وبالمديا مع المسلسلات والبرامج الى تشوه السنة ومسويتلي ليبرالية»، التي أتت تماماً لتكون مشابهة في المقدار متعاكسة في الاتجاه مع تغريدات الجانب الشيعي، كل طرف يراني متحيزة للطرف الآخر، والحق أقول لربما أنا كذلك.
حين أكتب ناقدة للموقف الشيعي لا بد أنني مساندة لبعض الموقف السني، وحين أكتب ناقدة للموقف السني لا بد أنني مساندة لبعض الموقف الشيعي، تلك هي طبيعة الحوار وتلك هي إمكانية اللغة، فاللغة محدودة مقارنة بإمكانيات العقل البشري وبمساحة الأفكار التي تسكنه، ولن تكون هناك كلمات أو تعابير كافية لإيضاح كل المكنون في عقولنا بحقيقته الخالصة. إلا أن ذلك لا ينفي صعوبة هذا الوضع الهلامي، حتى مني على نفسي شخصياً، فمحاولة الوقوف في منطقة الحياد التام محاولة عسرة، تتعارض مع المشاعر والميول الطبيعية، بل وحتى مع التوجهات الفكرية الفطرية التي لا يحكمها عادة المنطق والعقلانية. هذا غير أنني أفتقد حقيقة للانتماء الواضح، لطرف أيديولوجي أتمسك به وأمارس معه النزعات القبلية الإنسانية التي تغزونا جميعاً، لأدافع عنه ظالماً أو مظلوماً ولأتعنصر من أجله تلك العنصرية اللذيذة التي تجعلني جزءاً من مجموعة قوية بأفرادها، محمية نفسياً واجتماعياً بمجموعيتها. السير وحيداً وباستمرار عملية قاسية ومتعبة وضد الطبيعة الإنسانية، لا بطولة واضحة فيها، لا ناتج مباشر ومؤثر يتأتى عنها، كأنها لعنة على ذاك السائر الوحيد لا فكاك منها.
لا أرمي فعلاً لسبغ هذا الدور بأي صفة بطولية، من داخل قلبي وعقلي لا أرى هذا الدور كذلك مطلقاً. البطولة أن تغير من الداخل، أن تكون مخلصاً لجماعتك، أن تشعر الآخرين أنك جزء منهم ولست مختلفاً عنهم ومخالفاً لهم طوال الوقت. البطولة أن تطيب نفوس الآخرين لا أن تغضبهم باستمرار، البطولة أن تغير، كما في الديانة التاوية، مثل الماء الجاري، بنعومته يترك أثره على الصخر بعد آلاف السنوات، لا مثل المعول تضرب فتؤلم وتكسر. وعليه، فأنا أعترف أن قول الحق (كوجهة نظر بالطبع) في كل وقت ولكل جهة ليس دائماً هو الاختيار الصحيح أو حتى الأخلاقي، لكنني أعترف كذلك أنها لعنة لا فكاك منها، وأن الجاسوسية ستبقى المهنة التي لا تقاعد لي عنها، والله ولي التوفيق.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول رؤوف بدران -فلسطين:

    دكتورة ابتهال سلام: ان تحيتي لك بكلمة سلام جاءت ليست من باب الصدفة او كتحية انسيابية عفوية؟! لا…والف.لا فالسلام ان لم يكن خارجًا من ضمير سليم وفكر قويم فمصيره التبعثر والتشتت والتلاشي والضياع في متاهات التقزيم والتعتيم.
    “محاولة الوقوف في منطقة الحياد التام محاولة عسرة” لو وجدت محطات الوقوف في اماكن حيادية لاستبدل العسر باليسر ولهان الوقوف والقعود والصلاة والسجود ؟!!
    الخلاف بين السنة والشيعة وُجِدَ منذ وجد المسلمين ومنذ كربلاء في ماضي السنين !!! وبالنسبة لموقف السعودية والامارات من الجمهورية الاسلامية الايرانية فهذه الكراهية مشرشة بغير حق منذ زمنٍ غير بعيد !! وهذه الكراهية ليست نابعة بالاصل من كراهيتهم للصفويين وانما من باب محبة آل صهيون اولاد العمومة والحفاظ على استمرارية تعديهم على العرب والمسلمين؟!
    وتصديقاً لما افضى به الاخ عبد الكريم البيضاوي فأن اغلب الملوك والسلاطين يظنون ان الدماغ ما خلق الا لاختزان واستشراء السيطرة والهيمنة والظلامية من خلال هذا الاستشراء .
    وبالنهاية بما ان كل مخلوق هو حرٌ بما يفكر؟! ايضًا انتِ د.ابتهال حرة فيما تطرحين ونحن كقراء احرار, لنا حرية قبول الطرح من عدمه والسلام.

    1. يقول المغربي-المغرب.:

      لم يفترق البشر أخي بدران على الدين. ..ولكنهم اختلفوا على استغلال الدين والتكسب به….والمذاهب التي استندت إلى الخلاف السياسي وليس الاختلاف والتعدد الاجتهادي الفكري. …هي مذاهب للهيمنة والتسلط على السذج. ..وتحويل استغفال الناس والضحك على ذقونهم. .إلى عقيدة مكرسة لم يرد أي أثر لها في القرآن رغم عبثية التأويل. ولم يكن لها ذكر في السنة. ..إلا في ترهات الإفك والافاكين. …الدين الحقيقي يا أخي هو ثورة على الشر…وعلى التخلف. ..وعلى التسطيح..وعلى التبعية. …وظلم الأقوياء. ..؛ وأما غير ذلك فلايمكن اعتباره دينا إلا عند من اتخذ من البشر اربابا من دون الله. …وشكرا.

  2. يقول إيدي-جنيف:

    مرحبا أخي ابن الوليد, وهل يخفى القمر عزيزي ؟ طبعاً أدكرك أدكر طلّاتك المفعمة دكاء وخفة دم, أتمنى أنك تكون بخير من كل النواحي أنت والعائلة الكريمة, بخصوص شغلي أولًا أهتمامك شرف كبير لي, بعدنا منهمكين في الكتابة وان شا الله نخرج بشي يليق بقيمتك.
    بما أنك بألمانيا يسعدني إني ألتقيك ببرلين وقت المهرجان, خريف 2020 يعني مع وقت لترتب أمورك.
    كل الحب والتقدير

    1. يقول ابن الوليد. المانيا.:

      ميرسي إدي .. أنا في الموعد في برلين .. ربما آتي مع بنتي هي تدرس هناك في الجامعة التقنية. جميل.

  3. يقول فؤاد مهاني - المغرب:

    لا شك يا سيدتي العزيزة أن هناك أسباب لما يعيشه الشيعة من تمييز وقهر منذ الخلافة الراشدة أو بعدها على الأرجح من تمييز وقهر إلى الآن وسببها عقائدي مذهبي أرادوا به محاربة الإسلام ولا أقول السنة التي هي أمة وليست بطائفة،ازداد هذا المذهب تطرفا بمقتل
    الحسين سيد شبان أهل الجنة بكربلاء واتخذوه كمظلومية لحد الساعة لقتل إخواننا بالعراق وسوريا وكل الأماكن التي تطول فيها يد الصفويين تحت قيادة ولي الفقيه بإيران والتاريخ الإسلامي حافل بمكائد الصفويين ولا أقول الشيعة درءا للتعميم والتي كانت
    تشكل خنجرا مسموما في خاصرة المسلمين وغالبا ما يستعملون كطابور خامس مع أعداء الأمة الإسلامية.
    يتبع من فضلكم الكبير.

  4. يقول فؤاد مهاني - المغرب:

    وما يجري على الأرض لخير دليل ونعيشه لحد هذه اللحظة بالعراق وسوريا واليمن وباعتراف إيران أنها سيطرت على 4 عواصم عربية وباعترافها كذلك بتواطئها مع العدو في غزو العراق وأفغانستان.قد يقول قائل.وهل ليس لأي دور لدول عربية كانت السبب الرئيسي في دخول الأمريكان للخليج وخاصة العراق.وأنا أرد،بلى هذا صحيح ولكن ذلك كان محصور في إطار سياسي ضد العراق في حروب الخليج لكن إيران يا سيدتي كانت تشكل الخطر الأكبر الذي يتهدد المنطقة العربية في هويتها وعقيدتها ويتجازو ذلك سياسيا
    كما في التدخل في ليبيا أو مصر.فكيف يعقل الإدعاء بالتضخيم الهلامي لدور إيران وهي لا تحترم جيرانها ساعية بمشروعها لتصدير ثورتها الخمينية عبر جيوش كبيرة من مليشيات رافعين شعارات ضد إسرائيل وأمريكا لكن القتل والتنكيل هو لطائفة معينة وهم المسلمين السنة.
    فاليشعة الصفويين قد يجدو أنفسهم مثلهم مثل اليهود أنهم قد تورطوا في سفك دماء المسلمين وهضم حقوقهم باحتلال أراضيهم بفلسطين والأحواز والإمارات العربية لأنه سيأتي يوم ما ليخرج المارد السني من قمقمه ويسترد حقوقه وكرامته لأنهم يشكلون الأكثرية.

  5. يقول الكروي داود النرويج:

    حياك الله جاري العزيز عبدالكريم وحيا الله الجميع
    حين يعيش الإنسان بقلب غيره يتغير فكره! إبحث بالنت عن من زرع قلب غيره بجسمه لتسمع العجب!! ولا حول ولا قوة الا بالله

    1. يقول رياض-المانيا:

      حياك الله عزيزي داوود ومن ذلك وثائقي عرضته الجزيرة مع كبار جراحي القلب في أمريكا ولقاءات مع مرضى تغيرت هواياتهم السابقة لتصبح متطابقة تماما مع هوايات المتبرعين بالقلب. ومنها أن أحدهم أصبح لديه رغبة جامحة لتسلق الجبال. ولم يتم تفسير الظاهرة الجديدة الا بعد أن تواصل مع المستشفى ليكتشف أن المتبرع كان متسلق جبال وبحكم القانون الأمريكي لحفظ الخصوصية كان ممنوع التواصل بين المتبرع والمستفيد ولكن المشفى نسق الموضوع بغرض البحث العلمي والوثائقي موجود في أرشيف الجزيرة. وفي أحدث كتب الطب التي طالعتها، هناك اهتمام واكتشافات جديدة ومذهلة لدور القلب في عملية التفكير ولكن هناك مدرسة تقليدية قديمة تريد حصر التفكير في العقل وحسب وهذا خطأ علمي فادح ينم عن جهل واضح في فهم تركيبة الإنسان وعملية التفكير. العقل كالحاسوب، وأحد زائد وأحد يساوي إثنان، أما عملية التفكير فهي Process طويل و معقد مجهول الكيفية التامة إلى الآن. وليس بالضرورة عند الحديث عن القلب أن يدور الحديث فقط عن العضلية الصنوبرية، بقدر الحديث عن مصدر تفكير وعاطفة متشعب في منطقة الصدر يكون مركزها القلب وهذا بحسب أبحاث غربية موجودة لمن أراد الاستزادة.

  6. يقول سلام عادل(المانيا):

    مشكلتك اخي رياض انك تقول كلام عام بدون اي نصوص قرانية وتدعي ان هناك اقوام استقبلت الفاتحين لانها مظطهدة بدون اي سند تاريخي فهل الفرس كانوا مظطهدين من ملوكهم على سبيل المثال وهل قرات تاريخ مصر وما فعله الفاتحين باهلها من جرائم باعتراف مؤرخي الفاتحين انفسهم ومع كل هذا من يستطيع اثبات ان الكتب المسماة سماوية هي من الله بدليل لا يمكن انكاره من احد

    1. يقول المغربي-المغرب.:

      لو كان الأمر كما تقول…..لما تحول اهل مصر وفارس الى الإسلام بنسبة تفوق 90% …الغزو العسكري لايوجد الاقتناع عند شعوب كانت في الأصل أمبراطوريات ذات حضارات كبيرة. .وقوة عسكرية مهيمنة. … لولا قوة معاني الدين…وعمق دلالاته التي نسخت ومحت ماكان موجودا عندهم من عقائد لم تستطع الصمود عقليا وفكريا. ..وهنا يكمن الفرق….

  7. يقول رياض-المانيا:

    على ذكر تغريد العصافير الذي يبدو أنه لا يعجب البعض.. تذكرت مقولة الدكتور سلمان العودة فك الله أسره في فلمه المؤثر الذي رثا فيه زوجته: غدا تطير العصافير. ومازالت العصافير تغرد وتسبح في ملكوت الرحمن مع أن البعض يريد حتى تكميم أفواه العصافير من كرهه للحق. يقول سبحانه في كتابه العزيز ( فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ ۖ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ۖ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ ۖ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ۖ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ۖ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ۖ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ۖ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ.

  8. يقول الكروي داود النرويج:

    حياك الله عزيزي الدكتور رياض وحيا الله الجميع
    شكراً للدعم العلمي من حضرتكم, فمنكم نتعلم! دليل للعزيز سلام أقول له بأن المسيحيين بمصر تركوا لغتهم لحبهم للعرب الفاتحين!! ولا حول ولا قوة الا بالله

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية