في هذا الشهر، تشرين الأول (أكتوبر)، تكون «الأرض اليباب»، قصيدة توماس ستيرنز إليوت (1888-1965) الأشهر، قد بلغت سنّ الـ100 وخلّفت ما لا يُعدّ ولا يُحصى من مفاعيل وتأثيرات وسجالات، فضلاً عن أنماط شتى من ردود أفعال متباينة في مضامين الاستقبال الإيجابي الحماسي والرفض الاستنكاري، والتقليد إبداعاً و تطويراً أو اختزالاً وتشويهاً. هذا عدا عن حضور القصيدة في عشرات اللغات، بالطبع، لدى ترجماتها الكثيرة المتعاقبة داخل اللغة الواحدة ذاتها؛ كما في العربية، على سبيل المثال: ترجمة فاضل السلطاني هي الأحدث، في حدود ما تعلم هذه السطور، سبقتها ترجمات لويس عوض وماهر شفيق فريد وتوفيق صايغ ويوسف سامي اليوسف وعبد الواحد لؤلؤة ويوسف الخال/ أدونيس.
وكانت القصيدة، وهذه السطور تنحاز إلى صيغة عنوان «الأرض اليباب» التي استقرّ عليها اليوسف ولؤلؤة والسلطاني، مقابل «الأرض الخراب» التي اختارها الآخرون، قد نُشرت في بريطانيا للمرّة الأولى في العدد الأوّل، تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1922، من المجلة الفصلية The Criterion التي أطلقها إليوت نفسه وترأس تحريرها. في تشرين الثاني (نوفمبر) كانت مجلة The Dial التي تصدر في نيويورك قد تولت نشر القصيدة للمرّة الأولى في الولايات المتحدة، وأواخر العام ذاته ظهرت في كتاب مستقل احتوى على أقسامها الخمس وسطورها الـ433، وكذلك هوامشها العديدة والاقتباسات والتصديرات بلغات لاتينية وألمانية وفرنسية وسنسكريتية.
أثار إليوت المجابهة الشعرية الأهمّ في زمانه؛ بين الشخصية الروحية السلبية للعالم المعاصر والشخصية الروحية الإيجابية للموروث، فتعايش عنده الماضي والحاضر طيّ تركيب من الرموز المتصارعة عجيب التوازن
ثمة، في تقدير هذه السطور، واقعتان جديرتان بالإشارة هنا، بين عشرات الوقائع التي اكتنفت حضور القصيدة في المشهد الشعري الحداثي مطالع القرن العشرين، وعلى امتداد عقوده حتى الساعة ربما. الواقعة الأولى هي أنّ إزرا باوند، الشاعر الأمريكي صديق إليوت وأحد كبار أساتذة الشعر في تلك الحقبة، راجع مسوّدة القصيدة بناء على طلب إليوت، واقترح إدخال تعديل هنا وإجراء بعض الحذف هناك؛ الأمر الذي لم يلتزم إليوت بمعظمه، فعدّل وحذف، فحسب؛ بل أهدى القصيدة هكذا: «إلى إزرا باوند الصانع الأمهر». والنسخة التي أعادها باوند إلى صديقه إليوت، مدوّناً عليها ملاحظاته، اجتذبت انتباه النقاد والأكاديميين والدارسين، وتحولت إلى موضوع خصب لعشرات الأطروحات الجامعية بالنظر إلى ما احتوت عليه من رؤى ثاقبة حول الفارق في التعبير الشعري بين اثنين من كبار شعراء القرن ورعاة الحداثة.
الواقعة الثانية تخصّ ارتباطات الحداثة الأدبية بالمؤسسات الرأسمالية، وتفسّر الأسباب (المالية الصرفة!) التي حالت دون نشر «الأرض اليباب» في اثنتين من أبرز الدوريات الحاضنة للحداثة آنذاك، Vanity Fair وLittle Review؛ ونشرها، في المقابل، تاجر تُحف ولوحات ومستثمر في ميادين الأدب والفنّ وصاحب مجلة. وكاد إليوت أن يحجم نهائياً عن نشر قصيدته حين انهارت مفاوضاته مع المجلة حول مقدار مكافأته المالية، إذْ عُرض عليه مبلغ 150 دولاراً، اعتبر أنها لا تليق بقصيدة «صرفتُ عاماً كاملاً في كتابتها وهي عملي الأضخم»، كما كتب في رسالة إلى سكوفيلد ثاير صاحب المجلة. وإذا كان حرص إليوت على حقوقه المالية لا يدهش كثيراً في ذاته، فإنّ نبرة التفاوض الباردة حول عمل إبداعي مرشّح لموقع حجر الزاوية في الحداثة الشعرية هي التي تلفت الانتباه حقاً.
وفي انتقاء العلامات الفارقة التي طبعت القرن العشرين، ساعة تدشين الألفية الثالثة، اعتبرت أسبوعية «تايم» الأمريكية أنّ إليوت هو شاعر القرن المنصرم، ولجأت إلى ناقدة الشعر الأمريكية البارزة هيلين فندلر كي تسوّغ الاختيار: لأنه رجّح كفة الشعر، في زمن أخذ يميل بقوّة إلى ترجيح الرواية، وكانت قصيدته «الأرض اليباب» بمثابة نهضة حيوية وعمر جديد فتيّ كُتب للشعر. كذلك، على سبيل الاحتفاء بمئوية القصيدة، أصدر الناقد السكوتلندي روبرت كروفورد كتابه «إليوت بعد ‘الأرض اليباب’»، الذي يستكمل كتاباً سابقاً للمؤلف ذاته صدر سنة 2015 بعنوان «إليوت الشاب». وللكتابَين، والثاني على نحو أخصّ، ندين بالوقوف على قسط وافر من الحيثيات التي تميط اللثام (إذْ ثمة الكثير مما يُحجب عمداً ويُسكت عنه!) عن حياة الشاعر قبيل كتابة القصيدة الأيقونية الشهيرة وبعدها.
وبمعزل عن تصريحه الشهير، بأنه ملكي في السياسة وأنغلو-كاثوليكي في الدين وكلاسيكي في الأدب، لا يتردد معظم دارسي إليوت في الجزم بأنه كان رجعياً لأسباب أخرى جوهرية غير تلك التي يسردها التصريح ذاته؛ إذْ جاهر بعدائه للأفكار التحررية، وعارض فلسفة التقدّم الاجتماعي، معتبراً أنها تنخر البنيان الكلاسيكي الناجز. وكان قد سافر إلى باريس سنة 1910، لدراسة الأدب الفرنسي في جامعة السوربون، فشهدت تلك الحقبة تأثّره بشعراء حداثيين أمثال لافورغ وفيرلين وبودلير والمدرسة الرمزية، وانجذابه إلى الإيمان البوذي وسحر النصوص السنسكريتية والفلسفات الشرقية. بيد أنها كانت، أيضاً، مرحلة انشداده العميق إلى أفكار الكاتب والمنظّر السياسي الفرنسي شارل موراس، الذي استبطنت نظريته في «القومية التكاملية» جزءاً ليس باليسير من التيارات الفاشية فيما بعد.
ويبقى مرجحاً تماماً أنّ العقود المقبلة سوف تشهد قراءات أخرى متنوعة متضاربة للقصيدة ذاتها، ولكن أيضاً لصاحبها الذي أثار المجابهة الشعرية الأهمّ في زمانه؛ بين الشخصية الروحية السلبية للعالم المعاصر والشخصية الروحية الإيجابية للموروث، فتعايش عنده الماضي والحاضر طيّ تركيب من الرموز المتصارعة عجيب التــــوازن.
كل الشكر لك أستاذ صبحي ،لأنك ذكرتنا بقصيدة لطالما افتتنا بها زمن الشباب ،وهي قصيدة : ( The Waste Land) التي تشهد أحداث الساعة بصدق وواقعية رؤاها وتنبؤاتها والمآلات التي تؤول إليها الحضارة المعاصرة في هذه الأوقات.
قد تكون نذر الحرب الحالية الدائرة بين روسيا وأوكرانيا والغرب هي التي استدعت قصيدة إليوت إلى الذاكرة الجمعية ، وعلى كل أتمنى منكم أستاذ صبحي التكرم بتقديم قراءة موجزة للقصيدة أو لأحد مقاطعها.
(كما في العربية، على سبيل المثال: ترجمة فاضل السلطاني … سبقتها ترجمات لويس عوض وماهر شفيق فريد وتوفيق صايغ ويوسف سامي اليوسف وعبد الواحد لؤلؤة ويوسف الخال/ أدونيس … وهذه السطور تنحاز إلى صيغة عنوان «الأرض اليباب» التي استقرّ عليها اليوسف ولؤلؤة والسلطاني، مقابل «الأرض الخراب» التي اختارها الآخرون) انتهى
هكذا يختلف المثقفون والمترجمون العرب اختلافا جذريا وينقسمون إلى فريقين متناحرين بين مجرد مفردتين مترادفتين، مفردتي «اليباب» و«الخراب»، مع أنهما تعنيان نفس المعنى تماما في كل المعاجم العربية العربية المعروفة !!؟ / مع التحية للأخ صبحي حديدي
وداد الصفدي (ماجستير في الأدب العربي، دكتوراه في ترجمة الشعر العالمي)