يشاء التاريخ أن يحشد، في يوم واحد لا على التعيين، سلسلة مصادفات مختلفة لكنها تترابط على نحو أو آخر، اتكاءً على قاسم مشترك لا يلوح أنّ المنطق البسيط يبيح استخلاصه في الشروط المألوفة. تقصد هذه السطور الحديث عن يوم 14 تموز (يوليو)، الذي يصادف العيد الوطني لفرنسا (أو «يوم الباستيل» في تسمية أخرى تسجّل سقوط النظام الملكي وفتح زنازين السجن الشهير)؛ كما يصادف الذكرى السنوية لـ«مجزرة 14 تموز، 1953» في باريس، حين فتحت الشرطة الفرنسية النار على متظاهرين جزائريين فقتلت سبعة وجرحت 50 منهم؛ وأخيراً، يصادف هذا اليوم موعد مباراة الجزائر ونيجيريا، وتونس والسنغال، في كأس الأمم الأفريقية.
فرنسا، أو في توصيف أدقّ: فرنسا الجمهورية، هي القاسم المشترك، بالطبع، ولكن من زوايا مختلفة ومعطيات متقاطعة، لا تخلو من مفارقات ونقائض. فالاحتفال الرسمي بالعيد الوطني يشهد عرضاً عسكرياً ضخماً، أو تتعمد الجمهورية تضخيمه من حيث كمّ الأسلحة والصنوف القتالية وأرقى مستويات التكنولوجيا في الصناعة العسكرية؛ وكلّ هذا من باب عرض القوّة، واستعراض العضلات، وحشد رسائل الردع إلى العالم. هذه السنة خاصة، في الواقع، لأنّ قادة الاتحاد الأوروبي (في غياب رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي!) هم ضيوف الشرف، وكذلك في ظلّ تدشين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون «قوّة فضائية»، والدعوة إلى تشكيل جيش أوروبي.
هذه فرنسا ثورة 1789، بلد مبادىء الحرّية والمساواة والإخاء، مهد حقوق الإنسان، وساحة الأنوار؛ التي تستعرض عضلاتها العسكرية، أيضاً، في عيدها الوطني، فتمنح التاريخ فرصة المزج بين الثورة والدماء و… كرة القدم!
أولى المفارقات أنّ رئيس الجمهورية وضيوفه يشاهدون العرض العسكري من منصّة تُقام في ساحة الكونكورد، التي تتوسطها مسلّة فرعونية نُهبت من معبد الأقصر سنة 1833 أيام الملك الفرنسي لوي فيليب (والرواية الرسمية تقول إن محمد علي باشا أهداها إلى فرنسا). في عبارة أخرى، الجمهورية تحتفل تحت ظلال المنهوبات الملكية من ثروات الشعوب، وكأنّ الفارق ليس البتة كبيراً بين الماضي الاستعماري للنظامَين، فيستوي ماكرون مع جدّه البعيد بونابرت في التمتّع بغنائم غزوات ما وراء البحار والمحيطات.
مفارقة أخرى هي أنّ المنصّة ذاتها شهدت، العام الفائت، ضيف شرف اسمه دونالد ترامب، أمريكي جمهوري من حيث انتمائه الحزبي في بلده، لكنه أقذع من شتم الجمهورية في معانيها الكونية الإنسانية، وأشنع من عرّض بأخلاقياتها ومُثُلها، والذي لن يتردد بعدئذ في السخرية من فرنسا والفرنسيين أنفسهم. أسوأ من المضيف ماكرون كان الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، الذي دعا إلى المنصة ذاتها، في المناسبة إياها، سنة 2008، ثلّة من أعتى مستبّي العالم وفاسديه؛ كان على رأسهم بشار الأسد الذي صرف زمن الزيارة ضاحكاً، ملء شدقيه، من تزاحم الأضداد!
وفي كتابه «طلقات 14 تموز 1953»، الذي صدر في باريس سنة 2017 عن «لا ديكوفرت»، يعيد السينمائي التسجيلي الفرنسي دانييل كوبفرستين فتح ملفات المجزرة التي ارتكبتها الشرطة الفرنسية ضدّ متظاهرين سلميين جزائريين، كانوا أصلاً يسيرون ضمن تظاهرة للحزب الشيوعي الفرنسي ونقابة العمال الكبرى CGT. وكان كوبفرستين قد بدأ تحقيقاً مفصلاً مسهباً، استغرق أربع سنوات واقتضى الرجوع إلى عشرات الشهود ومئات الوثائق، فكانت الحصيلة شريطاً تسجيلياً سبق إصدار هذا الكتاب؛ وكلا العملين طرحا الأسئلة الحارقة: لماذا مُسحت هذه المجزرة من الذاكرة الفرنسية، الرسمية بالطبع ولكن العامّة أيضاً؟ وهل يصحّ إعادة استنتاج دروسها في ضوء الواقع المعاصر لأساليب الشرطة الفرنسية في قمع التظاهرات؟ وهل ثمة أسس شوفينية مبطنة تتجاوز نزوعات القمع المعتادة في المؤسسات الأمنية للديمقراطيات الغربية المعاصرة؟
شريط تسجيلي سابق أخرجه كوبفرستين تحت عنوان «التستّر على مجزرة»، حول وقائع 17 تشرين الأول (أكتوبر) 1961، التي شهدت ارتكاب الشرطة الفرنسية أيضاً مجزرة بحقّ متظاهرين مؤيدين لـ«جبهة التحرير الوطني الجزائرية» في العاصمة باريس. ولقد جرى التكتم الرسمي على هذه المجزرة طيلة 37 سنة، اضطرت الحكومة الفرنسية بعدها إلى الاعتراف بوقوعها، وإقرار سقوط 40 قتيلاً (التقديرات الأخرى أشارت إلى أكثر من 100 قتيل، بعضهم جرّاء لجوء عناصر الشرطة إلى إلقاء المتظاهرين في مياه نهر السين).
وأخيراً، استغلت مارين لوبين، زعيمة حزب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف، أحداث الشغب التي شهدتها جادة الشانزليزيه خلال احتفالات الجماهير الجزائرية والتونسية بتأهّل المنتخبين إلى نصف النهائي؛ فطالبت السلطات الفرنسية بحظر تلك الاحتفالات، ومنع رفع أعلام غير فرنسية في الجادة، لأنّ ذلك يشكل «إهانة» للجمهورية. قبل هذا، في آذار (مارس) الماضي، اتخذ ردّ فعل لوبين على الانتفاضة الشعبية في الجزائر صيغة الطلب إلى الحكومة الفرنسية بوقف منح الجزائريين تأشيرات دخول إلى فرنسا، خشية أن تتشكل موجة هجرة هائلة نتيجة «اضطراب الأوضاع» هناك.
والحال أنّ لوبين لا تمثّل حزبها، العنصري الكاره للمسلمين والعرب والمهاجرين عموماً، فحسب؛ بل تعبّر أيضاً عن شرائح فرنسية تأبى مواجهة تاريخها الدامي في الجزائر، أو سواها، وتستطيب دفن الرأس في الرمال كلّما سقط قناع عن وجه بشع هنا، أو تهاوى ستار عن حقيقة بغيضة هناك. الأمر الذي لا يلغي حقيقة أنّ هذه، لا ريب، هي فرنسا ثورة 1789، بلد مبادىء الحرّية والمساواة والإخاء، مهد حقوق الإنسان، وساحة الأنوار؛ التي تستعرض عضلاتها العسكرية، أيضاً، في عيدها الوطني، فتمنح التاريخ فرصة المزج بين الثورة والدماء و… كرة القدم!
الاستاذ حديدي نسى حدث مهم احر في نفس اليوم وهو الاطاحة بالملكية في العراق
لماذا تناسيت 14 تموز / يوليو 1958 في العراق؟
لا تزال فرنسا تعزل من أبناء المهاجرين كما آباءهم حتى لا يصل أي من المهاجرين إلى مرتبة رئيس جمهورية أو كادرا في الجيش لأن الفرنسيين جلهم تغلب عليهم الأنانية والعنصرية. والفرنسي عدواني بطبعه فلا تغير سلوكه الملكية إن استمر وقد حافظ على عدم ” الأنتقريتي ” الإندماج ضمن الجمهورية لكل من ليس فرنسيا ” بالفطرة ” .
الى سلام عادل وابو اليسر السوري: الاستاذ حديدي يكتب عن احداث في فرنسا فما دخل العراق او اي بلد آخر؟
الأخ ماهر
عنوان المقالة يوحي أن الكتابة ستكون حول أحداث غيرت وجه التاريخ في منطقة معينة ، إذ في العنوان لا يرد إسم فرنسا
و بما أن الإستاذ حديدي معروف بكتاباته المتميزة فللقاريء العربي و العراقي خصوصاً معذور إن إعتقد أن المقالة ستتطرق لأحداث ذاك اليوم المحوري في تاريخ بلاده.
و كعراقي أقول ليت ذاك اليوم لم يكن ، فلا حاجة للكتابة حوله
تحياتي