مشكلة النهاية أنها مخادعة، وتوحي لنفسها بأنها تستطيع تجاوز مصيرها عبر التحايل والمراوغة.
هذا ما نشهده في المشرق العربي منذ انفجار انتفاضات الربيع العربي. حيلة المستبد هي وضع المجتمع أمام الهاوية، إما بقاء الاستبداد وإما الخراب. والحق يُقال، إن المكان الوحيد الذي نجحت فيه هذه المراوغة، بشكل نسبي، هو مصر. هناك نجح الجيش، بما يملكه من تراث سلطوي في القبض على السلطة ودفع المجتمع إلى الاختناق. وهذه مسألة تحتاج إلى قراءة خاصة، لأن ما يبدو نجاحاً سيتكشّف عن فشل قاتل أخرج مصر من دورها الإقليمي والعربي، ويكاد يُخرجها من نفسها.
قاد هذا الخيار ليبيا واليمن وسوريا إلى التدمير الشامل للمجتمع، ولم يستطع إنقاذ الأنظمة. وحتى لو أنقذها مؤقتاً، فإنه ليس أكثر من إنقاذ شكلي يخفي انهيار المستبدين، كما هو الحال مع الاستبداد الأسدي في سوريا.
أما في لبنان فالمسألة أكثر تعقيداً.
ربيع لبنان تأخر كثيراً، لأن شرط ولادته التي انطلقت في 17 تشرين كان انكشاف خواء البنى الطائفية وعجزها وفسادها. فنظام الطغمة الأوليغارشية المافيوية أوصل لبنان إلى الانهيار المالي والاقتصادي والسياسي والأخلاقي، ولم تعد قيادات الطوائف قادرة على الرشوة الزبائنية بسبب الإفلاس الشامل. فانكشف النظام على الخواء المطلق.
لم تستطع السلطة المؤلفة من فدرالية سلطات متناحرة تتناهب الثروة الوطنية، أن تقدم شيئاً لمئات آلاف المتظاهرين الذين احتلوا شوارع المدن وساحاتها مطالبين بالخبز والكرامة والحرية.
في الانتفاضة بدأ يتبلور شعور المواطن بحقه في أن يكون ويتحرر من نظام المناهبة. فاكتشف اللبنانيات واللبنانيون أن عليهم أن يبنوا وطناً كي يكون لهم الحق في أن يكونوا مواطنين.
هذا هو جوهر انتفاضة تشرين، فلبنان يبحث عن وجوده كوطن. الإرث المتراكم منذ مئة سنة، أي منذ إعلان دولة لبنان الكبير على يد المستعمر الفرنسي، لم يصنع وطناً، بل صنع نظاماً لحرب أهلية دائمة، وأسس بنية اقتصادية رأسمالية ريعية، كانت وظيفتها الرئيسية تصدير اللبنانيين إلى الخارج. «فالانتشار اللبناني»، حسب التعبير الذي تبناه جبران باسيل، ليس سوى تجسيد لمسلسل الفقر والمجاعات والحروب، الذي طرد اللبنانيين من بلادهم.
نظام الحرب الأهلية الدائمة، الذي ينام ويستيقظ حسب الصراعات الإقليمية التي تمفصلت عليها الصراعات الطائفية، استُنفد بعد افتراسه من قبل الاقتصاد النيوليبرالي، وبعد التوحش المطلق لزعماء العصابات، بحيث انتهك الشكل المؤسساتي بشكل كامل. فالانهيار الذي نعيشه اليوم هو تعبير عن الانتهاك الذي مارسته السلطة والنظام المصرفي من أجل تسويغ النهب الشامل للدولة والشعب.
في منعطفات الانتفاضة المستمرة منذ سبعة أشهر، استخدمت المافيا الحاكمة كل الحيل التي تمتلكها، من التلويح بسلاح ميليشيات النظام التابعة لحزب الله وحركة أمل، إلى القمع الذي مارسته القوى الأمنية وأجهزتها المخابراتية، وصولاً إلى حيلة حكومة التكنوقراط، واستغلال وباء كورونا، لجعل الناس تعتاد على الذل.
ثم جاءت نغمة ترياق صندوق النقد، وهي في حالتنا الراهنة مجرد سراب.
لكن السلطة في المأزق، وهي لا تملك حلولاً لأي شيء. الثوب السلطوي تمزّق، ولم يعد هناك من إمكانية لترقيعه.
وعود الإصلاح تبخرت أمام جشع النهب وتحاصص ما تبقى، والمطروح فعلياً هو بيع الأملاك العامة، أي اقتسامها، وهذه مسألة دونها الأهوال.
الليرة تترنح، والبطالة تنتشر، والفقر في كل مكان.
طبقة لم تعد تستطيع أن تدير أزمتها، فكيف لها أن تُخرج لبنان من أزمته؟
ولأن المافيات الطائفية بلا خيال، فإنها اكتشفت أنها تستطيع العودة إلى ملعبها الأثير، أي إلى التحريض الطائفي، وإشعال فتن صغيرة هنا وهناك، علها تستثير الغرائز وتُلهي الناس عن المطالبة بحقهم في العيش الكريم.
هذه هي المناورة الجديدة التي شهدنا بعض فصولها في مسخرة كهرباء سلعاتا، وفي مجلس النواب بمناسبة مشروع قانون العفو، وفي التصعيد الخطابي الطائفي الذي ملأ الشاشات الصغيرة واتخذ أشكالاً فجة، وخصوصاً في خطبة المفتي الجعفري أو في الدعوات للفدرالية.
ملعب الحروب الطائفية الكلامية والدموية هو الملجأ الأخير لطبقة لا تستطيع إلا أن تكون أسيرة القوى الإقليمية والدولية.
إنهم يقترحون علينا خياراً واحداً هو الاصطفاف الطائفي، وهذا لا يعني سوى تكرار المكرر في مشهدية الخراب التي صنعها الاستبداد في المشرق العربي.
لكن هذه اللعبة المقيتة تصير أكثر تعقيداً في واقع لبناني جديد ولا سابق له، هو وجود قوة مسلحة كبرى لا يستطيع أحد من القوى الأهلية مواجهتها. فحزب الله صار جيشاً حقيقياً يتفوق على الجميع، لذلك يلعب الحزب لعبة الحرب الأهلية النائمة التي يقوم بضبطها لصالح تمدد النفوذ الإيراني.
لكن هذه اللعبة التي استمرت منذ سنة 2005، وصلت إلى نهايتها اليوم، لأن الانهيار الاقتصادي والمالي قلب المعادلات رأساً على عقب.
لعبة تخوين الانتفاضة والاستعلاء على ألم الشعب اللبناني قد تنقلب في أي لحظة على من يلعبها.
لكن الطبقة المسيطرة سوف تستمر في لعبتها إلى النهاية، لأنها أفلست سياسياً وفقدت لغتها وتحطّم وهج سلطتها.
واللعبة خطرة، فالنظام عاجز ومُصاب بالشلل، وخياره الوحيد هو جرنا بالقوة إلى ما يشبه الحرب الأهلية.
الصراع اليوم هو بين الانتفاضة ونظام الحرب الأهلية، إما الثورة وإما الحرب.
ماذا نختار؟
الثورة ستكون مكلفة في مرحلتها الجديدة، وسيفقد خطابها بساطته ويتلوّث بوحل التاريخ، وتتسلل إليه الكثير من عناصر الماضي.
لكن كلفة الثورة مهما كانت كبيرة سوف تكون أقل من ثمن بقاء نظام الحرب الأهلية، الذي هو الاسم الآخر للاندثار.
17 تشرين ليس ماضياً، إنه الحاضر والمستقبل، هكذا كان وهكذا سيكون.
ثورة 17 تشرين اللبنانية مشابهة لثورة 1 تشرين العراقية! هما ضد الطائفية والفساد وإيران!! ولا حول ولا قوة الا بالله
شكراً أخي الياس خوري. أالموجة الثانية للربيع العربي تعاني من أزمة الجائحة كوفيد١٩ العالمية. في الحالة اللبنانية والعراقية تم الإستعانة بحكومة توحي بأن حلاً ما في الأفق قادم. هل هو سراب!. في الحالة اللبنانية بشكل خاص يمكن القول هو أقرب إلى السراب وأعتقد أن الشعب اللبناني لن يقف عند هذا الحد والكلام الذي جاء في المقال أوضح الأمر بكل بساطة، إنه الحاضر والمستقبل.