يصادف هذا الخريف ذكرى مرور مئتي عام على أسر ثم إعدام آخر أئمة إمارة الدرعية، الدولة السعودية الأولى، الإمام عبد الله بن سعود، بعد أن ضيّق عليه جنود ابراهيم باشا، من أرناؤوط وترك ومغاربة، الخناق في قلعة الطريف. نُقِلَ «عبد الله الوهابيّ» كما يسمّيه المؤرخ المصريّ المدوّن لأحداث تلك الفترة عبد الرحمن الجبرتي في «عجائب الآثار» إلى القاهرة، فضربت المدافع عند دخوله من باب النصر وأجريت الألعاب النارية، ورفعت الزينة، والعامة في هرج ومرج، وعُرِضَ على الوالي محمد علي، الذي سأل أسيره، حسب رواية الجبرتي، عن رأيه في أسلوب ابراهيم باشا في القتال فكان جوابُ «الوهابيّ» أنّه «ما قصر وبذل همته ونحن كذلك، حتى كان ما كان قدره المولى»، فوعده الوالي «أترجى فيك عند مولانا السلطان».
ويذكر الجبرتي أنّه أُبحِرَ بعد ذلك بعبد الله من الإسكندرية إلى دار السلطنة، الآستانة، مع قادة آخرين لإمارته المنكوبة، فـ «لمّا وصل إلى اسلامبول طافوا به في البلدة، وقتلوه عند باب همايون، وقتلوا أتباعه أيضاً في نواح متفرّقة». في مطلع كانون الأول 1818 سيق عبد الله في شوارع وساحات القسطنطينية، مقيّداً هو وبقية الأسرى بسلاسل ثقيلة، ثم شنق أمام مسجد آيا صوفيا، وعلّقت المشانق لأعوانه أيضاً في مواضع أخرى من المدينة، وظلت الجثث معروضة ثلاثة أيّام، والرؤوس تحت الإبط، ثم ألقي بها إلى البحر.
لقد مثّلت إمارة الدرعية، الدولة السعودية الأولى، تحدّياً بارزاً للسلطنة العثمانية في فترة حرجة من تاريخها المتأخّر، فترة أخذت فيها العواصم الأوروبية تطرح على نفسها سؤال مصير هذه الإمبراطورية المتصدّعة، أو «المسألة الشرقية»، ومفتتحها كيفية الحؤول دون ابتلاع روسيا الصاعدة، والمتحركة من الآن فصاعداً في المياه الدافئة، لأراضي السلطنة، وكيفية إصلاح هذه السلطنة والإستفادة من ضعفها في الوقت عينه، والحفاظ عليها، «إلى يوم مسرّة»، بدلاً من ترك روسيا وحدها تبتلعها وتحقق «الإحياء البيزنطي» الذي تحمّست له كاترينا الثانية، والمتضمّن فتح القسطنطينية والسيطرة على المضائق.
تمثّل التحدّي السعودي ـ الوهابي بالسيطرة على مكة والمدينة، وحرمان العثمانيين من مشروعية الإشراف على ركن الحج في الإسلام، وكان السلاطين العثمانيون الذين لم يحج أي واحد منهم الى الحرمين، قد أخذوا عن السلاطين المماليك والأيوبيين من قبلهم لقب «خادم الحرمين الشريفين» قبل أن يؤول اللقب، في فترة ما بعد ضياع السلطنة ثم الغاء الخلافة، إلى عبد العزيز بن سعود، مؤسس الدولة السعودية الثالثة، من بعد نجاحه في السيطرة على الديار الحجازية، وإجلاء الهاشمييين منها.
أنّ «المسألة الشرقية»، باتت تجد شبهاً لها اليوم في ما يمكن الإصطلاح على تسميته «المسألة السعودية»
تمرّ هذه الذكرى على وقع جريمة الغدر بالصحافي جمال خاشقجي في مبنى القنصلية السعودية باسطنبول. هي ذكرى سقوط الدولة السعودية الأولى، والإنتصار العثماني «غير المباشر» عليها، بما أنّه من صنع جيش محمد علي باشا وابنيه طوسون ثم ابراهيم باشا، هذا الكيان العسكري الذي أخذ يطوّر لنفسه مساراً خاصاً ضمن الإمبراطورية، قبل أن ينتهي به الأمر إلى الإصطدام الضاري والشامل مع الباب العالي. إلى حد كبير، تضمّنت حرب إخضاع شبه الجزيرة هذه «نفساً كولونيالياً» يظهر من ثنايا الأخبار التي يستجمعها الجبرتي، المتعاطف مع الوهابيين، نفوراً من محمد علي، في تاريخه، وهذا «النفس الكولونيالي» سيزداد لاحقاً مع حملة محمد علي باشا على السودان. قبل أن تتحول مصر إلى مستعمرة بريطانية، تطوّر فيها نموذج «إقتباسي» ليس فقط من التقدّم التقني والفكري للحواضر الأوروبية، لمراكز الإمبراطوريات الإستعمارية، بل أيضاً نموذجاً «إقتباسياً» لدينامية الإستعمار والحرب الإستعمارية نفسها، سواء حيال قبائل الجزيرة العربية، أو حيال السودان. كان هذا طبعاً في مرحلة تشكّل فيها أكثر جيش محمد علي من أرناؤوط (ألبان) وأتراك وخيالة مغاربة وشركس، لكنه كان بدأ يتوسّع ليشمل أبناء الفلاحين المصريين، ثم المسترقين بعيد حملة السودان.
ما يظهر مع الذكرى المئوية الثانية لهزيمة دولة الدرعية، وتدمير مدينة الدرعية، وإعدام عبد الله بن سعود في اسطنبول، هو أنّ «المسألة الشرقية» بالمعنى السالف، باتت تجد شبهاً لها اليوم في ما يمكن الإصطلاح على تسميته «المسألة السعودية»: فإذا كان مناط المسألة الشرقية كيفية الحؤول دوون ابتلاع روسيا للسلطنة والإستفادة من ضعف السلطنة في الوقت نفسه والتداول بشؤون وشجون الإصلاح فيها، فكذلك «المسألة السعودية» تتمحور حول كيفية منع إيران من الهيمنة على المشرق والخليج، وكيفية الإصلاح ضمن أنظمة الخليج، وبخاصة السعودية، وأي شكل للإصلاح، والحفاظ على النسق القائم أو عدم الحفاظ، وكل يطرح المسألة السعودية حسب موقعه ومصلحته ومنظاره، وكلّ لا يثبت حيالها على طرح، تماماً كما كان حال المسألة السعودية.
إعتبار أساسي في هذا المضمار، أنّ السؤال حول المصير وإحتمالات الأفول طرحته النخب العثمانية باكراً على نفسها، ما يعود بشكل أساسي إلى إهتمام هذه النخب بعمل العلامة عبد الرحمن ابن خلدون، منذ عناية المؤرخ والفقيه العثماني ثم «شيخ الإسلام» شمس الدين ابن كمال (كمال باشا زاده) به في مطلع القرن السادس عشر الميلادي. عندما كانت السلطنة في أوجها، كان الهاجس «الخلدوني» الذي تسلّل إلى عقلها القيادي: كيف يمكن تفادي الأفول مع أنّه بعد كلّ ذروة أفول، حسب النزعة التشاؤمية الخلدونية في «المقدمة». وعندما دخلت السلطنة مرحلة الجمود في القرن السابع عشر الميلادي، عُمِدَ كما يلاحظ بفطن شديد شيخ المؤرخين الأتراك خليل اينالجيك إلى تعديل الهاجس، إذ لم يعد متاحاً التفكير بـ«تفادي الأفول»، بل التفكير بإطالته أطول مدّة ممكنة. ظهرت حينها ترجمة محمد صاحب أفندي التركية الكاملة للمقدمة.
التجربة السعودية مختلفة هنا. ليس فقط لأنّها لم ترتبط بهذه «المناجاة المزمنة» مع طروحات ابن خلدون كما في حال العثمانيين. بل لأنّها قائمة على إشكالية الإنبعاث: الإمام المجدّد ليس فقط للدين، بل الذي يبعث في كل مرة الدولة السعودية نفسها. تقوم الدولة السعودية الأولى، دولة العقد بين الإمام والشيخ، ثم تنهار بالتدخل العثماني ـ «المصري»، وبعدها بعقدين تعود فتنشأ الدولة السعودية الثانية، في الفلك العثماني، ثم تنهار بالخلافات بين الأمراء السعوديين، ثم تقضي عليها الإمارات الأخرى، وتختفي لعقود، ثم تظهر مجدّداً مع الدولة السعودية الثالثة لتوحيد نجد والحجاز. بخلاف تبني العثمانيين باكراً لهواجس «التشاؤمية الخلدونية»، تقوم التجربة السعودية على شيء يشبه الإيمان بـ«العود العبدي»، ليس «صعود» ثم «ذروة» ثم «أفول» ثم «انهيار» كما في حال العثمانيين، وإنما «ظهور» ثم «اندثار» ثم ظهور ثم اندثار. هناك فاصل زمني بين «السعودية الأولى» المنتهية عام 1818، وظهور «السعودية الثانية» عام 1840، واندثار الأخيرة عام 1891، ثم ظهور «الدولة السعودية الثالثة» بدءاً من معركة «استرداد الرياض» التي قادها الإمام عبد العزيز بن سعود عام 1902.
منذ الإتفاق في المملكة على أنّ سلمان آخر الأخوة المتعاقبين على العرش منذ 1953، من ذرية عبد العزيز، وسينتقل بعد ذلك إلى جيل الأبناء، انتشر مصطلح «الدولة السعودية الرابعة». ارتبط بشكل بمعسكر المتحمسين لولي العهد الحالي و«رؤية السعودية 2030». كان الإقتناع بأنّه لا يمكن الإستمرار كما في السابق، وأن التجربة السعودية معمّرة، متمددة على ثلاثة قرون، لكن متحوّلة، بدليل ظهور الدولة الأولى، فالثانية، فالثالثة، وأن النقلة إلى الرابعة تحتاج إلى مشروع خلاصي مركزي «ما بعد نفطي»، يراجع حتى «ميثاق الدرعية» 1745 بين الإمام محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب المبرم في القرن الثامن عشر. ما غاب عن البال، أن «النقلة» من هذه الدولة إلى تلك لم يكن قفزة من تطور كمي إلى تطور نوعي، بل تعاقب الظهور فالإندثار فالظهور مجدداً. غاب عن البال هذا، واستمّر تجنّب «تشاؤمية ابن خلدون» تلك التي حقنت الدولة العثمانية نفسها بها، إذا ما جازفنا بالتعبير، فأطالت فترة الأفول ما استطاعت.
لكن، هل يمكن القفز إلى الدولة السعودية الرابعة، على قاعدة «تحاشي» ابن خلدون؟
٭ كاتب لبناني
مقال تاريخي بامتياز اشكرك جدا هناك بعض النقاط التي كنت أجهلها واليوم باتت أوضح بالنسبة لي. ومقولة ابن خلدون تطبق على الجميع بمن فيهم آل سعود…
يبدو ان ركيزة التحاشي الخلدونية في الحالة السعودية هي ترامب و حاشيته
–
ما دامت البقرة حلوب فلا مفر من رعايتها شكرا جزيلا لك سيد وسام سعادة
–
تحياتي