بغداد ـ «القدس العربي»: في الذكرى 19 للغزو الأمريكي للعراق، ليس من الصعب على العراقيين والمراقبين، تقييم العملية السياسية التي انشأها الاحتلال الأمريكي عام 2003 وسارت على نهجها الأحزاب المتنفذة المستفيدة من الأوضاع الجديدة لصالحها بعيدا عن مصالح وهموم الشعب.
والمتابع لأوضاع العراق يشخص ان خلق الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية فيه، هو صفة ملازمة للعملية السياسية منذ 2003 بهدف إشغال العراقيين عن واقعهم وتدهور أوضاع بلدهم.
وتندرج في هذا السياق، الأزمة السياسية في صراع أحزاب السلطة على تشكيل الحكومة الجديدة، ضمن سيناريو يتكرر مع كل تشكيل لحكومة جديدة، والذي تكون محصلته التقليدية الإبقاء على نفس الأحزاب والقوى المتنفذة بموجب العرف السائد، أي تقاسم السلطة والوزارات والمناصب، ليس من أجل تقديم الخدمة للشعب، بل لتحقيق المصالح الخاصة لأحزاب السلطة والأجندات الإقليمية، فيما تتواصل الأزمات المزمنة في كل المجالات وسط غياب التنمية وهدر ثروات البلد، وإسكات الأصوات المعارضة. فلا يكاد الشعب ينشغل بأزمة حتى تبرز له أخرى جديدة، من دون ان تجد الحكومات أي حلول دائمة ناجحة لها، وذلك بفعل ضغوط القوى السياسية المستفيدة من الفوضى السائدة، وهو ما جعل الشعب يفقد أمله بأي امكانية لتغيير الأوضاع نحو الأفضل.
الدولة واللا دولة
ومع إقرار العديد من القوى السياسية ومنهم رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي بمحاولة قوى اللا دولة الهيمنة على الدولة، وتعهده بالوقوف في وجهها، فالمؤكد ان اللا دولة (أو الدولة العميقة) تفرض نفسها وتزداد قوة يوما بعد يوم، من خلال سعي قوى سياسية محددة، لإيجاد أتباع لها في جميع مفاصل الدولة المهمة إضافة إلى اعتمادها على فصائل مسلحة، مرتبطة بأجندات خاصة تتعارض من برامج الحكومة ومصلحة الشعب، بل وفي أحيان كثيرة تتحدى الحكومة وتعمل على إفشال قراراتها، لإسقاطها أمام العراقيين، كما ظهر في العديد من المواقف والأحداث، وذلك في سياق تحقيق هدف الدولة العميقة، بأن لا تقوم دولة قوية في العراق.
محاولات تغيير الأوضاع
وفي إطار سعي العراقيين لتغيير أوضاعهم وإيقاف التدهور الشامل، تحدث عضو اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي العراقي والنائب السابق جاسم الحلفي لـ«القدس العربي» فأشار إلى ان «التغيير المنشود هو التغيير الاجتماعي ولا يقتصر على التغيير السياسي سيما شكل النظام. نعم تغير شكل النظام وشيء من طبيعته، من النظام السابق الدكتاتوري ونظام الحزب الواحد إلى نظام تعددي تداولي، ولكن الناس يبحثون عن التغيير الذي ينعكس على حياتهم ومعيشتهم وهذا هو الأساس. والتغيير الذي يسعى له الناس هو حفظ الكرامة والحقوق، وتوفير الضمانات الاجتماعية وصيانة الحريات، وهذا لم يتحقق لغاية الآن للأسف».
وأضاف الحلفي «تكونت طغمة حكم متنفذة استحوذت على الإرادة السياسية للبلد بعد ان رسخت حكم المكونات أو الذين ادعوا أنهم ممثلون للمكونات، وعلى ضوء ذلك بني النظام السياسي وفق المكونات وليس وفق المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، فتشكل نظام يعتمد على المحاصصة الطائفية والإثنية، وهذا ما كان أساسا لفشل النظام السياسي بتحقيق مبتغى المواطنين في الكرامة والتنمية، فأنتج هذا النظام الفساد في جميع مفاصل الدولة، وفشلت الحكومات المتعاقبة بتوفير الخدمات للمواطنين وفشلت كذلك في تنويع اقتصاديات العراق بل اعتمدت على الريع النفطي واتخمت الدولة بالموظفين، فيما لم يجد ملايين الشباب فرصة العمل». ونوه إلى انه «لا يمكن توقع نجاح هذا النظام وتحقيق التغيير المنشود الذي يتطلع له الملايين مع بقاء نهج المحاصصة والتوافقات وتحكم طغمة الحكم بالإرادة الوطنية».
وأشار الحلفي إلى انه «أزاء كل ذلك وغيره من العوامل سيما التهميش السياسي، لم يجد المواطنون والشباب فرصتهم في التمثيل السياسي والاشتراك بتقرير مصير البلد، ولم يسمعهم أحد من طغمة الحكم، إلى جانب البطالة وضنك العيش وانسداد الأفق أمام الشباب المتطلع إلى البناء والتعمير والعمل، ولذا انطلقت انتفاضة تشرين، وكانت انتفاضة باسلة وقوية هزت أركان النظام السياسي وفرضت شروطها بإسقاط الحكومة وإجراء انتخابات مبكرة ووضعت أهدافا ورؤى وبرامج لخصها شعار (نريد وطن) أي نريد وطنا معافى من الفساد ويحفظ كرامة العراقيين وغير مستباح من التدخلات الإقليمية والأجنبية». وقد «قدمت الانتفاضة التضحيات الجسام من أجل تحقيق مطالبهم وقدموا أكثر من 700 شهيد وأكثر من 25 الف جريح ومعوق ولكن بدلا من الاستجابة للمطالب راوغت طغمة الحكم وتصدت للانتفاضة بشتى الأساليب في مقدمتها القمع وشراء الضمائر والاندساس ومحاولات التخريب والتشويه التي لحقت بالانتفاضة والمنتفضين» حسب قوله.
وعن تشكيل حكومة مؤقتة (حكومة مصطفى الكاظمي) ذكر ان «مهمتها توفير أجواء انتخابات حرة تمكن قوى التغيير من التمثيل السياسي في البرلمان، لكن ما يؤسف له انه لم تنفذ الحكومة وعودها بتهيئة الجو السليم للانتخابات، مثل محاكمة قتلة المتظاهرين والشخصيات والقوى التي أصدرت قرارات القتل، وهو ما لم يحصل». والجانب الآخر هو «عدم فتح ملفات الفساد لمحاسبة الفاسدين كي يأخذوا جزاءهم العادل لا أن يتركوا بمال الفساد وامكانياتهم للدخول بالعمل السياسي وكأن شيئا لم يحدث، وللأسف هذا الذي حدث، لذا تمت مقاطعة الانتخابات بنسبة كبيرة جدا تجاوزت 65 في المئة».
وكشف الحلفي ان «الحركات الشبابية وحركات الاحتجاج تدرس الانتفاضة وتقيمها ويعتقدون ان انتفاضة مقبلة لا مناص منها، لأن الأسباب التي أدت إلى انتفاضة تشرين ومفاعيلها ما زالت قائمة بل وزادت بأسباب أخرى منها خفض قيمة الدينار العراقي أمام الدولار وما تركه من آثار مدمرة وغلاء الأسعار على الطبقات محدودي الدخل والفقراء، إذ تجاوز عدد الذين يعيشون تحت مستوى الفقر عشرة ملايين عراقي حسب تقرير البنك الدولي. إضافة إلى زيادة عدد العاطلين عن العمل، كل ذلك سيؤدي إلى انتفاضة مقبلة سيما مع انسداد الوضع السياسي وأزمة تشكيل الحكومة».
أوضاع الأقليات
وعن أوضاع الأقليات في العراق عقب 19 عاما من التغيير، أكد رئيس لجنة حقوق الإنسان البرلمانية أرشد الصالحي، لـ«القدس العربي» أن وضع العراق لم يتغير نحو الأحسن.
وقال: «صحيح تخلصنا من الدكتاتورية ولكننا كنا نأمل ان الديمقراطية التي ستنشأ في العراق بعد 2003 تعطي للمواطن حقه وللقوميات والمكونات جميعا حقها، لكن كتابة الدستور العراقي بشكل خاطئ وإعطاء القوميتين العربية والكردية صفتين قوميتين وان اللغة العربية والكردية لغة رسمية في البلد، أن ذلك قصم ظهر العملية السياسية عندما فرقت الآخرين وجعلتهم يشعرون بالضعف كأقلية قومية أو دينية». وهذا المبدأ الذي استخدمته السياسة العراقية ومن ثم الذهاب إلى المحاصصة التي أصبحت عرفا لا فائدة معه من ان تكون هناك انتخابات، حيث ان العرف بان يكون رئيس الجمهورية كرديا ورئيس الوزراء شيعيا ورئيس البرلمان سنيا، هذه المعادلة الخاطئة ما يعني بان القومية التركمانية التي هي ثالث قومية في العراق، هي قومية مهمشة من القوى السياسية. كل ذلك أثر على المجتمع التركماني وأصبحوا يبحثون عن واقع آخر للخروج من هذا المأزق.
وشدد الصالحي «يجب ان يكون في العراق نظام سياسي يعمل على إحقاق الحق وان تكون الكفاءة والنزاهة والحجم الانتخابي هي الأساس. ولكن الفساد الإداري والمالي والمحاصصة المقيتة والطائفية العنصرية هي التي هيمنت على البلد، فنحن لحد الآن لا نرى حلولا في الأفق وخاصة في المناطق المتنازع عليها، التي نرى ان تكون لها إدارات محلية مشتركة وليس إدارة من قومية واحدة، لذلك فإن التغيير لم يأت بجديد ونحن بانتظار مشروع عقد اجتماعي وطني وسياسي جديد يخرج العراق من عنق الزجاجة».
ساحة صراع دولي
ورغم ادعاءات الحكومات العراقية المتتالية منذ 2003 بالنأي بالعراق عن الصراعات الدولية، فإن الواقع المؤكد هو ان العراق أصبح مركزا لصراع المحاور، وساحة لتنافس القوى الدولية (أمريكا وإيران، السعودية وإيران، وغيرها).
وقبل أسابيع قامت إيران بإطلاق سلسلة صواريخ على مواقع في أربيل بحجة كونها مواقع إسرائيلية رغم نفي حكومة الإقليم ذلك، بل ان احتجاج حكومتي بغداد وأربيل الخجول على الهجوم الصاروخي، ردت عليه طهران بانها تدافع عن نفسها وانها ستواصل هذه الهجمات، التي تكررت في السنوات الأخيرة ضمن سياق نزاع مباشر أو عبر الحلفاء، بين إيران والولايات المتحدة وإسرائيل، على الأراضي العراقية، إضافة إلى التدخل الواضح في الانتخابات وتشكيل الحكومات وتقرير سياسة البلد، من عدة قوى إقليمية ودولية.
ولعل أخطر إفرازات الغزو الأمريكي والأجندات الإقليمية، هو انتشار التنظيمات الإرهابية في العراق والمنطقة، وأهمها القاعدة و«داعش» والتي لا تزال حتى الآن تمارس نشاطها بمسميات مختلفة، تغذيها مصالح سياسية وإقليمية ودولية، جعلت منها أوراقا ضد الخصوم يدفع ثمن جرائمها شعوب المنطقة.
زراعة وصناعة مدمرة
ومحصلة ما بعد 2003 كانت بعيدة عن التخطيط للتنمية والأمن الغذائي، حيث تقر الجهات الرسمية المعنية والقوى السياسية بتدهور الأوضاع الاقتصادية، فلا زراعة أو صناعة في العراق، بل أصبح البلد مجرد سوق استهلاكي للسلع المستوردة.
ومؤخرا عقد حاكم الزاملي النائب الأول لرئيس البرلمان العراقي، اجتماعا مع عدد من الوزراء (الزراعة والموارد المائية والتجارة والمالية) لبحث سبل حماية المنتج المحلي والأمن الغذائي في البلد. وخلال الاجتماع حذر الزاملي، من «نهاية وشيكة» للمنتج الوطني في حال عدم اتخاذ الحكومة إجراءات حازمة وعاجلة لتنشيط الصناعة والزراعة المحلية.
التدهور الاجتماعي
ولم يعد تدهور الأوضاع الاجتماعية في العراق خافيا بعد تصاعد الأصوات المحذرة من مخاطر انتشار ظواهر اجتماعية خطيرة عكستها الإحصائيات المتصاعدة في مجالات الطلاق والعنف الأسري والجريمة والبطالة، فيما أقر وزير الداخلية عثمان الغانمي في اجتماع لمسؤولي وزارته مؤخرا، بان نحو 50 في المئة من الشباب العراقي أصبحوا يتعاطون المخدرات التي تتدفق على المدن العراقية من إيران من دون القدرة على منعها، وسط اتهامات لقوى سياسية بالتورط في تجارة المخدرات والإتجار بالبشر لتحقيق عائدات مالية ضخمة.
وعموما لا يختلف أحد أن نتائج الغزو الأمريكي للعراق، الذي كان مخالفة واضحة للقانون الدولي، كانت كارثية على كل مجالات الحياة في هذا البلد. كما ان وعود الاحتلال الأمريكي والأحزاب الحليفة له، باقامة ديمقراطية نموذجية في العراق، نسفتها دكتاتورية الأحزاب الحاكمة وفصائلها المسلحة التي أجهضت الإرادة الشعبية بالتغيير والبناء وتحقيق العدالة الاجتماعية والمواطنة، واستبدلتها بالمحاصصة وتقاسم السلطة وامتيازاتها ونشر الفساد، وتدمير القطاعات الاقتصادية الأساسية كالزراعة والصناعة، إضافة إلى الخضوع لتبعية القوى الإقليمية والدولية وجعل العراق ساحة صراع دولي.
ما اقترفته الولايات المتحدة من جريمة في حق الشعب العراقي وصمة عار على جبين كل امريكي و الى الابد …! و لا تزال الولايات المتحدة تدفع ثمن ذلك الى يوم الدين ……!