«1970» رواية المصري صنع الله إبراهيم: وهم الإمام العادل وحقيقة قيادة شعبه للهاوية

المثنى الشيخ عطية
حجم الخط
1

ليس من السهولة بمكانٍ على روائيّ، إن لم يكن بمقدرة الروائي المصري صنع الله إبراهيم، معالجة شخصيةٍ بسيطةٍ ومعقّدة في ذات الوقت حدّ الموت، مثل شخصية جمال عبد الناصر: بطل قومي عربي وفرعون مصري، ابن شعب بسيط وديكتاتور معقّد، نظيف اليد ويختار نائبه ومسؤوليه من الملوثين بأقذر أنواع الفساد، يعتمد في حكمه على حبّ الشعب، ويجزر رقاب الشعب بأوسخ سكاكين رجال مخابراته، وأكثر من ذلك؛ يخسر حرباً مصيرية مع عدو وجودي، تدفعه للاستقالة بشرف، ويرجوه المصريون والعرب وشعوب وزعماء العالم أن يعود للحكم بدلاً من تعليقه بحبل مشنقة.
وليس من السهولة بمكان أيضاً رصد أحد الأعوام الفاصلة في تاريخ العرب مثل عام 1970، من قبل روائيّ يُداخل هذا العام بشخصيةٍ كانت المحور فيه، إن لم يكن يملك مقدرة إعلاء التوثيق إلى رحاب الرواية الفنية المؤثّرة، مثل صنع الله إبراهيم، في روايته التي أخذ اسمَها هذا العام: «1970».


من جملة خاتمة الرواية التي تلخّصها بقصدية مذهلةٍ: «خذلتَ نفسك وخذلتَنا… ثم ذهبتَ، وذهبتْ معك مقدرات الأمة وآمالها… إلى حين»، يعيد إبراهيم قارئه إلى بداية روايته، ويجري به مرة ثانية:
أولاً: نحو الماضي، بتدفّق العام 1970، ليس بمسرح الرواية الأساسي الذي هو مصر فحسب، وإنما بما أحاطه أيضاً من جريان أحداث ومواقف الدول مثل وقائع الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفييتي، وحرب فيتنام المتداخلة فيها، وأحلام غيفارا بامتداد الثورة العالمية، وانقلابات العسكر في العالم العربي، ومحاولات تصفية المقاومة الفلسطينية في الأردن، والفاشيين الطائفيين في بيروت. ويضيف إبراهيم في هذا الجريان نحو الماضي، من خلال تواريخ أيام هذا العام، وقائعَ ما حدث في مثلها، بما يفيد ربط وقائع روايته، وتشكيلَ شخصية بطله، بدءاً بطفولته، مروراً بشبابه، وانتهاءً بأفعاله الفاصلة مثل ثورة 1952، تأميم قناة السويس وحرب 1956، حرب اليمن، الوحدة مع سوريا والانفصال  1958 ـــ 1962، حرب 1967 وما تلاها من استقالته وإعادة الشعب له، ومحاولة النهوض كما عنقاء بعدها في حرب الاستنزاف وإعادة بناء الجيش المصري، وتشابكات وتعقيدات كل ذلك. والأهم: تكوّن شخصية ديكتاتورٍ فريدٍ ساعد على تكوّنها ما تتمتع به من كارزمية وكفاءة قيادةٍ من جهتها، ومن وهمٍ شائعٍ بإمكانية وجود الإمام العادل وقدرته على تحقيق العدل وصنع معجزات التحرير وبناء ووحدة الأمة العربية، من جهة من تحكمهم هذه الشخصية، في زمن نهوضٍ وإحباطاتٍ يساعد على انتشار الأوهام. ثم الأهم من هذا: ما جرّته هذه الشخصية على مصر والعالم العربي من ويلات، بتفضيلها تحت نوازع الإعجاب بالذات المغذاة بحّب الناس، حكمَ العسكر على الديمقراطية، ودعمَها لانقلاباتهم التي قتلتْ أحلام شعوبهم في الحرية والعدالة، مثلما حدث في السودان مع النميري، وفي ليبيا مع القذافي، وفي سوريا التي بدأ هو نفسه بإنهاء حياتها السياسية ومسيرتها الديمقراطية بالعنف، ليتسلّمها حكم البعث ثم حافظ الأسد وابنه اللذين أحرقا أخضرها ويابسها بالمجازر إلى ما يحفظ أمن إسرائيل لما لا يعرف من أعوام. كما في مصر نفسها التي فضّل عسكرَها على مدنييها رغم علمه بفسادهم وارتباط بعضهم الذين وضعهم في مقدمة من يعتمد عليهم بالمخابرات المركزية الأمريكية، مثل نائبه السادات الذي قدم إليه أيضاً ضابط الطيران حسني مبارك، والحاشية العسكرية التي أنهى لصالحها كلّ من له ارتباط بأحلام الديمقراطية وممارسة الحياة السياسية، بالتفكيك الهادئ تحت حد سكّين التهديد، والعنف إن لم ينفع ذلك، كما فعل في سجن وقتل الشهيد الشيوعي شهدي عطية.
وثانياً: يجري إبراهيم بقارئه نحو المستقبل بعد عام 1970، دون أن يتحدث عنه، وذلك بعرضه من مكوّنات الماضي، ليعيش القارئ أحداث ما جرى بعد موت عبد الناصر، إلى تاريخ صدور الرواية عام 2019، ويشهدَ مآسي ومخازي حكم العسكر:
ــــ في مصر، مع السادات الذي أنهى استعدادات حرب الاستنزاف المذهلة في الإعداد المادي والروحي، بحرب تشرين (أكتوبر) المحدودة التي ختمها باتفاقيات فصل القوات والسلام الوهمي مع إسرائيل، ثم نائبه حسني مبارك الذي حافظ على إرث السادات في نهب مصر وأراد تحويلها إلى جمهورية وراثية، ثم نائبة النوائب عبد الفتاح السيسي الذي أعاد حكم العسكر بعد ثورة يناير والحكم المدني، بما لم يشهده تاريخ مصر من مجازر العسكر في أرواح شعب مصر، ونهبهم لثرواتها، وبيع جسدها قطعاً في سوق النخاسة.
وثانياً، في العالم العربي الذي تكفي أمثلةُ من دعمهم ورعاهم عبد الناصر: النميري الذي أنهى الحياة السياسية في السودان بذبح الشيوعيين، وفتح السودان إلى ما تطوّر من مآسي البشير الذي قسمه، ثم البرهان وحميدتي اللذان يلعبان بمقدرات السودان، ويقودان ثورته المدنية إلى ما يخيف من تصميمهم على ذبحها. ثم القذافي الذي أوصل بجنون عظمته ليبيا إلى ما يتناهبها من جنون خليفته حفتر، والمليشيات التي تريد خلافة العسكر بعسكر.
على صعيد التحقيق الفني لرواية تتناول شخصية محيّرة مثل جمال عبد الناصر، وشعوباً وصراعات محلية وإقليمية ودولية، يلجأ إبراهيم إلى الحلّ الذي تفرّد به في معالجة رواياتٍ تقف بجرأةٍ أمام أبواب تحدّيات التعقيد، وذلك بمفتاح البساطة السحريّ الذي يبدو هكذا لمن يشهده بعد خروجه من طيّات أمواج الصراع.
في بحر هذه الرواية يشكّل إبراهيم بنيته من فصول أقرب للفواصل، وتأخذ تواريخَ معظم أيام العام 1970 بدءاً من أول كانون الثاني (يناير)، وحتى تاريخ وفاة بطلها يوم 28 أيلول (سبتمبر)، وردود الفعل الشعبية والرسمية الوطنية والعربية والعالمية في اليوم التالي للوفاة 29 سبتمبر. وفي هذه الأيام يُدخل إبراهيم عمودي الرواية الأساسيين اللذين تقف عليهما:
ـــــ عمود قصاصات التوثيق من مختلف الصحف المصرية في عام الرواية؛ والتي يختار إبراهيم منها ما يعكس الأحداث، مثل وقائع حرب الاستنزاف، وما يتعلق بها من حركةٍ وديبلوماسيةٍ ومواقف، وما يعكس الحالة الاقتصادية، الاجتماعية، والثقافية التي تتناول الأفلام والمسرحيات والكتب، والإعلانات عن المواد الاستهلاكية والصناعية، من محاليل الغسيل إلى السيارات، وأسعار هذه المواد، إضافة إلى ما يحدث في العالم العربي، وبالأخص الاشتباكات في الأردن مع المقاومة الفلسطينية، وفي لبنان، وما يحدث في العالم من أخبار الاحتلال الأمريكي لفيتنام، ودخول الأمريكيين لكمبوديا، وأخبار المظاهرات في فرنسا، وكل ما يتعلق بحركة أحوال مصر والعالم في هذا العام الفاصل، بما يفيد الرواية من إحاطة.
ويلفت الانتباه في هذا التوثيق إيراد أخبار الذكرى السنوية لشهداء مصر في حروبها مع إسرائيل، وهي أخبار لن تحيط بأسمائها ذاكرة القارئ بالتأكيد، لكنّها تشكّل عاملَ احترام ينتقل إليه، لمن ضحّوا بحياتهم من أجل قضية التحرير، وعاملَ تذكير بمعاني ما ضحّوا من أجله، وما شكّل هماً لأهاليهم وللشعب المصري، ولبطل الرواية الذي تؤرّقه رؤية جثثهم مرميةً في الصحراء بعد الهزيمة.
ـــــ عمود خطاب الروائي إبراهيم لبطل روايته جمال عبد الناصر، والذي يأتي غالباً بعد قصاصات صحف اليوم الوارد، بصيغة المخاطب أنت، مع الإيحاء في الكثير من مفاصله، كما لو أن عبد الناصر هو من يخاطب نفسه، لكشف ما يعتريها.
ويحلل إبراهيم في هذا العمود شخصية عبد الناصر، كزعيمٍ وديكتاتور فريد يختلف عن الصورة النمطية للديكتاتوريين العرب، حيث يبدو، باختلاف عن شخصية ديكتاتور صنعته عقد النقص والكراهية وضعف الثقافة والقسوة مثل حافظ الأسد كمثال، زعيماً وديكتاتوراً صنعه وأثّر في نوازعه الحب والقدرة والكفاءة والثقافة. كما يحلّل إبراهيم في هذا العمود تطوّر شخصية عبد الناصر مع الأحداث والتجارب والثقافة التي صقلته إلى زعيم اقترب كثيراً من فهم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية ومن السعي لتحقيقهما، غير أن نوازع الإعجاب بالذات وما يغذّيها من حب الناس له، كانت تمنع هذا التطوّر من استبدال يده العسكرية بيد مدني حقيقي، ومن كفّ يد العسكر عن اللعب بمقدّرات الشعوب وقهرها وتسليمها في النهاية ليد القاهرين الأكبر منهم، كخدمٍ ومتسولين على موائد القاهرين: «تفكر: مأساة سوكارنو هي لعبة التوازنات بين القوى المختلفة التي مارسها طويلاً. السياسة التي مارستَها طويلاً وأدت إلى إطلاق يد الجيش فأصبح يسيطر على كرة القدم والنقل العام وكل شيء، وأهمل دوره الرئيسي في الدفاع عن حدود البلاد. هل هي مأساتك أيضاً؟».
وبسؤاله حول مأساة سيطرة الجيش لبطل روايته، وإتباعه هذا السؤال بقرن نوازعه مع نوازع نابليون الذي أعاد بطموحاته وخسارة حروبه فرنسا إلى الاحتلال والمهانة وتسليم رقبتها ليد ملوك البوربون، وبأسئلته حول نوازع حب الذات التي تتخلل الرواية، يقيم إبراهيم غربال روايته الذي يرشح الألم والأسى إلى حدّ إسالة العينين بالدمع، في صفحات خروج الناس لإعادة زعيمهم قادرين إلى الحكم، وصفحات خروجهم لإعادة زعيمهم غير قادرين من قلب الموت، ولا يدري أحدٌ في هذا الأسى مدى صحة خشيتهم من فقده، والتي تحققت ربّما بتسليم أمرهم لوهم ولايته، وباستيلاء الفاسدين الذين اعتمد عليهم حوله، على مكامن النبض في رقابهم.

صنع الله إبراهيم: «1970»
دار الثقافة الجديدة للنشر، القاهرة 2019
240 صفحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    عبد الناصر أساس خراب مصر! الحكم الدكتاتوري عقيم, لا يسمح بتعدد الآراء!!
    كم كان سعر صرف الدولار قبله, وكم أصبح بعده؟ ولا حول ولا قوة الا بالله

إشترك في قائمتنا البريدية