2019 وداعاً…

لا، ليس القصد من هذا العنوان توديع القارئات والقراء، بل توديع سنة 2019 في بعض ما انطوت عليه من أحداث ومنعطفات وذلك بإبداء بعض التأملات. وقد أوحت لي هذا العنوانَ تغطية التلفزيون الجزائري لجنازة أحمد قايد صالح، رئيس أركان الجيش الجزائري الذي لقي حتفه قبل أيام، وسوف أبدأ بالتالي من هذا الحدث الأخير.
«وداعاً أسد الجزائر» هو العنوان الذي اختاره التلفزيون الجزائري للتغطية المذكورة. وقد كان قصدُهم بالتأكيد الإشادة بالراحل من خلال تشبيهه بملك الغابة، ولم يخطر في بالهم أن وصفه بالأسد سيوحي إلى الكثيرين في منطقتنا تشبيهاً بالعائلة الحاكمة في سوريا التي اختار تسمية «الأسد» سلفُها سليمان الوحش، جدّ حافظ الأسد، وكان حرياً به أن يُبقي على الشهرة الأصلية لما فيها من صُدق في نعت سلوك أحفاده.
غير أن قايد صالح، والحقّ يُقال، لم يكن من صنف آل الأسد. طبعاً، يشترك النظامان السائدان في الجزائر وسوريا وغيرهما من الدول العربية بسمات كثيرة تنتمي إلى خانتيّ الفساد والاستبداد. غير أن الجزائر دولة تحكمها مؤسستها العسكرية على غرار مصر والسودان، ولا تمتلكها عائلة على غرار الأنظمة الملَكية و«الجملوكية» السورية، آخر «الجملوكيات» العربية بعد سقوط نظاميّ صدّام حسين ومعمّر القذّافي. هذا ما يفسّر إقدام المؤسسة العسكرية على تنحية رئيس بات عبئاً على نظامها، كما حلّ بحسني مبارك وعبد العزيز بوتفليقة وعمر البشير، خلافاً للمؤسسة العسكرية السورية التي حوّلها حافظ الأسد إلى حرَس عائلي وطائفي سخّره ابناه لتدمير البلاد وتصفية شعبها قتلاً وتشريداً، عملاً بمبدأ «الأسد أو نحرق البلد».
وقد استفاد عسكر الجزائر والسودان من دروس تجربة زملائهم المصريين في سنوات «الربيع العربي»، فحرصوا على إبقاء زمام العملية السياسية بين أيديهم في وجه الحراكين الشعبيين العارمين اللذين شهدهما البلدان. بيد أن القيادة العسكرية السودانية اضطرت إلى عقد مساومة مع حراك تميّز بدرجة راقية من التنظيم، إذ تمكّنت قيادته السياسية والميدانية، لاسيما «تجمّع المهنيين السودانيين»، من تحويله إلى رافعة جبّارة بلجوئها إلى مختلف وسائل النضال السلمي، بما فيها الإضراب العام والعصيان المدني. هذا ما فرض المساومة على العسكر في السودان بما أرسى حالة من ازدواجية السلطة بين الشعب والجيش، يرتهن مستقبل الثورة السودانية بطريقة حسمها وبأيٍ من الطرفين سوف تُحسَم لصالحه.

يشترك النظامان السائدان في الجزائر وسوريا وغيرهما من الدول العربية بسمات كثيرة تنتمي إلى خانتيّ الفساد والاستبداد. غير أن الجزائر دولة تحكمها مؤسستها العسكرية على غرار مصر والسودان، ولا تمتلكها عائلة على غرار الأنظمة الملَكية و«الجملوكية» السورية

فلم يقتصر الحراك السوداني على التظاهرات والتجمّع في الميادين، خلافاً للحراك الجزائري الذي افتقد إلى صيغة تنظيمية تنبثق عنها قيادة ذات صفة تمثيلية تحظى بشرعية شعبية لا جدال فيها. وقد استطاع النظام، هذا الذي أراد الشعب إسقاطه، أن يواصل مساره في الجزائر، فأجرى انتخابات رئاسية رغم أنف الحراك الشعبي وعيّن من خلالها مرشّحه لتولّي مهام رئاسة الجمهورية تحت إشراف المؤسسة العسكرية مثلما عهدت البلاد منذ استقلالها. وقد أشرف رأس المؤسسة العسكرية، قايد صالح، على تنظيم الانتقال من رئاسة بوتفليقة إلى رئاسة عبد المجيد تبون، متجاهلاً المطالبة الشعبية بسلطة خالصة من الوصاية العسكرية. فاستحقّ قايد صالح نقمة الحراك عليه، بيد أن محكمة التاريخ سوف تسجّل لصالحه ظرفاً مخفّفاً هو حرصه على عدم ممارسة العنف الدموي بحيث أن الانتفاضة الجزائرية غدت حتى الآن مع الانتفاضة اللبنانية وحيدتين بين الانتفاضات الإقليمية في عدم الاصطحاب بسفك للدماء على نطاق واسع.
عدا ذلك، فلم تتغيّر أيّ من سمات النظام الأساسية التي هبّ الحراك الجزائري ضدّها، وجلّ ما حصل أن المؤسسة العسكرية ضحّت بآل بوتفليقة ومن لفّ لفّهم في قمة جبل الجليد. لذا سيستمر الغليان الشعبي في الجزائر، وإن تحتّم على الحراك أن يجد سبلاً جديدة وانبغى عليه أن يستنبط إطاراً تنظيمياً موحّداً ملائماً لمواصلة النضال من أجل تغيير حقيقي وجذري للنظام، على غرار ما أفلح الحراك السوداني في التزوّد به من إطار. والأمر ذاته سوف يتحتّم على الحراكين العراقي واللبناني اللذين يفتقدان هما أيضاً لمثل الإطار التنظيمي المذكور.
ينطبق هذا أيضاً على الحراكين المغربي والأردني، وكذلك على البلدين اللذين كانا في طليعة «الربيع العربي» الأول، تونس ومصر. فقد شهدت تونس تعزيزاً للتحول الديمقراطي الذي أنجزته انتفاضة عام 2011، لكنّ طبيعة النظام الطبقية لم تتبدل قط، فاستمرت البلاد تنتهج سياسات اقتصادية تتضارب ومصالح الكادحين وتسدّ الآفاق أما الشباب. أما مصر، فقد ارتدّت الأمور فيها إلى ما هو أسوأ بدرجات مما كان سائداً في زمن مبارك وتعاظمت فيها الهوّة بين أقلية ثريّة وسواد الشعب. ولا تحول دون انفجار الأوضاع المصرية سوى شراسة القمع التي تنذر بأن تكون الانتفاضة الشعبية القادمة أعنف من التي سبقتها، ردّا على الاحتقان المتراكم من جرّاء البطش. أما ليبيا واليمن وسوريا، فلن ينهض فيها الحراك الثوري من جديد سوى بعد انتهاء الحرب الأهلية وما رافقها من انشطار في صفوف الشعب على حساب الصراع بين الشعب بأسره وأهل النظام. سوف يحصل ذلك لا مُحال ولو بعد عدة سنوات، ويثبت العراق ولبنان أن الشعب يستطيع أن يستعيد وحدته في النضال من أجل مصالحه المشتركة ضد الذين زرعوا الشقاق في صفوفه سعياً وراء تمتين سيطرتهم على هذا الشقّ أو ذاك.
وبالطبع، فإن مستقبل المنطقة مرهون بمصير القطبين الإقليميين الرئيسيين المضادين للثورة، ألا وهما المملكة السعودية التابعة للإمبريالية الأمريكية ونظام «ولاية الفقيه» الإيراني المتحالف مع الإمبريالية الروسية. وقد بدأ النظام الإيراني يتصدّع ولن يطول الوقت قبل أن يتصدّع النظام السعودي بدوره، ومصير النظامين المحتوم هو الهلاك كسائر أنظمة الاستبداد والفساد. فقد بات من الجليّ تماماً أن ما بدأ قبل تسع سنوات هو سيرورة ثورية طويلة الأمد، دخلنا في سنتها العاشرة، السنة الأخيرة من عقدها الأول. وسوف تتواصل السيرورة لعقود عديدة، طالما لم يحصل التغيير الشامل والجذري الذي لن تخرج المنطقة العربية بدونه من دوّامة صدام الهمجيات وتعود إلى سكّة التقدّم التاريخي.
وكل عام وأنتنّ وأنتم بألف خير.

كاتب وأكاديمي من لبنان

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول مراقب عن كثب:

    “يشترك النظامان السائدان في الجزائر وسوريا وغيرهما من الدول العربية بسمات كثيرة تنتمي إلى خانتيّ الفساد والاستبداد. غير أن الجزائر دولة تحكمها مؤسستها العسكرية على غرار مصر والسودان، ولا تمتلكها عائلة على غرار الأنظمة الملَكية و«الجملوكية» السورية” … وفسر الماء بعد الجهد بالماء منذ أيام “الشعب يريد” !!!؟؟؟

  2. يقول أسامة كليّة:

    شكراً أخي جلبير شقور. وصف ناعم لكنه تحليل صحيح للواقع ولا أدري ماذا يريذ مراقب عن كثب أن يقول. وكل عام وانت والقدس العربي جميعاً وانتن وانتم جميعاً بخير.

  3. يقول آصال أبسال:

    رغم الخلاف المبدئي في التحليل حول عدد معين من نقاط هذا المقال..
    جميل أيضا أن نستشف منه بعضا من الأصداء الغياثية هنا وهناك في هذه الزاوية الماركسية.. !!

إشترك في قائمتنا البريدية