كان هذا العام مليئاً بالأحداث المفصلية التي كانت المنطقة مسرحها، والتي ستمتد تفاعلاتها في الغالب إلى سنوات مقبلة. أبرز الأحداث التي يمكن أن ترسخ بالذاكرة هي عدوان جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، واستفحال الصراع في السودان بعد مرور أكثر من ثمانية أشهر على اندلاع الحرب. ورغم ما لهذين الحدثين من أهمية، إلا أنني أريد أن أخصص هذا المقال لتسليط الضوء على موضوع أحسب أنه لم يجد المتابعة الكافية.
هذا الموضوع هو النيجر، التي كانت قد شهدت انقلاباً عسكرياً في يوليو/تموز الماضي. الأهمية هنا تنبع من زاويتين، زاوية فلسفية تتعلق بسؤال الديمقراطية، وما إذا كان مجرد الإعلان عن الانتخابات ووجود صناديق، يكفي لتشكيل نظام يعبر بشكل حقيقي عن رغبة الشعب، وزاوية أخرى سياسية تتعلق بتدخلات القوى الدولية، التي لم يكن من مصلحتها أن تشب النيجر، ولا أي بلد آخر من البلدان الافريقية، أو عموم دول الجنوب، عن الطوق. هذه القوى ظلت تنافح للحفاظ على مصالحها في نيامي عبر استخدام ضغوطات كبيرة ومكثفة من أجل إعادة السلطة إلى الرئيس المعزول محمد بازوم.
بعد شهور من الشد والجذب والتهديدات الصريحة والعدائية، التي أطلقتها دول على رأسها فرنسا، المتضرر الأكبر من التغيير السياسي، فإن النظام المتشكل الجديد كان يبدو مع الأيام أكثر ثباتاً، وكأن تلك التهديدات كانت تمنحه دوافع جديدة للصمود والمقاومة. اليوم يظهر أن النيجر تجاوزت تهديدات المستعمر القديم وحلفاءه من دول الإقليم، ففي اجتماع في العاشر من هذا الشهر بالعاصمة النيجيرية أبوجا، كانت دول مجموعة «إيكواس» تعلن فتح صفحة حوار جديدة مع نيامي مبنية على المتابعة من أجل العودة إلى «المسار الديمقراطي»، والعمل بشكل تدريجي على إنهاء العقوبات.
النيجر صارت مثالاً معاكسا لما أريد له، حيث بات البلد فقير الموارد يمثل دليلاً على أن الشعوب المستضعفة، مقارنة بالقوى المتجبرة، يمكن أن يكون لها أيضاً كلمة
كان ذلك مطلوباً منذ البداية. القيادة العسكرية النيجرية لم تدخر وسعاً في إعلان نيتها إعادة الحكم للمدنيين عبر انتخابات شفافة، بل إنها سارعت لاختيار رئيس وزراء والبدء في تشكيل حكومة مؤقتة. كان الهدف هو إرسال رسالة بأنها ليست ضد حكومة مدنية، بل ضد إعادة الرئيس محمد بازوم إلى الحكم. «إيكواس» لم تلتفت لكل تلك الرسائل وأضاعت وقتاً طويلاً في التلويح بالحرب وإعلان الاستعداد لها بجيش إقليمي قادر على تغيير النظام بالقوة.
النيجر بدورها استغلت ذلك الوقت الضائع في التشكيك بمنظمة «إيكواس» واستقلالها، وفي التساؤل عما إذا كانت تتحدث فعلاً باسم شعوب المنطقة، أو أنها صارت مجرد أداة بيد فرنسا. هذه التساؤلات شارك في طرحها زعماء كل من مالي وبوركينا فاسو، اللتين سبقتا في مسار تقويض النفوذ الفرنسي في الساحل والمنطقة.
أضعف التنمر العنيف، الذي تعرضت له النيجر من جيرانها، من دون مبرر واضح، سوى شعارات هلامية من قبيل استعادة الديمقراطية، صورة تجمع «إيكواس» بشكل كبير، أما المتحمسون للتغيير في نيامي فكانوا يتساءلون عما إذا كان المقصود بالحكم المدني هو رهن مقدرات البلاد لفرنسا، أو وجود حكام مدنيين فاشلين لا يترددون في منح ثروات البلاد للغربيين. من ناحية الحسابات المادية تبقى النيجر دولة ضعيفة، ليس فقط بالمقارنة مع الدول الغربية، أو الجيش الفرنسي، ولكن حتى بالمقارنة مع جيرانها، الذين كانوا يلوحون بإعلان الحرب عليها. هذه الحسابات، التي كانت تجعل من مقارعة الدول الكبرى عملية أقرب للانتحار، لم تمنع القادة الجدد من المضي في برنامج كان محبباً للجماهير مبنيا على التعهد بإنهاء عقود من الهيمنة الفرنسية والسيطرة شبه الكاملة على موارد البلاد. لم يكن طرح هذا العنوان بما يشمله من عناوين أخرى جانبية كضرورة خروج الجنود الفرنسيين مع الإلغاء التام للمعاهدات، التي كان فيها انتقاص لسيادة البلاد أمراً بسيطاً، بل كان الأمر أشبه بالرهان على الشعب، الذي لعب دوراً مهماً في تثبيت قيادته، والذي أعلن منذ البداية استعداده لخوض معركة كرامة تاريخية ودفع ثمن الحصول على استقلال حقيقي.
بالنظر إلى مجموعة الانقلابات، التي سبقت الانقلاب النيجري يمكن أن يقرأ الحدث في إطار موجة السخط العامة من النفوذ الفرنسي في افريقيا وبلدان الساحل، لكن ما منح النيجر الكثير من الخصوصية هو كونها دولة باقتصاد صغير وإمكانيات محدودة، لذلك كانت التحليلات الأولى للانقلاب تفترض أنه مصنوع بأياد غربية، حيث كان من المستبعد أن يجرؤ نيجيريون مستقلون على القيام بهذا التحدي. الذي حدث هو أن فرنسا تعاملت مع الأمر وكأنه إهانة شخصية لها، حيث جاء رد فعل باريس الرسمي شديد الانفعال، أما البيانات والتصريحات الفرنسية التي صدرت في الأيام الأولى وما تزامن معها من تحركات شملت عقد اجتماع لقيادات الأمن والدفاع فكانت توحي بأننا نتحدث عن أرض ما تزال تابعة لفرنسا.
أحد أسباب ردود الفعل الغاضبة والمطالبة بتوقيع أقسى العقوبات على نيامي هي أن المستفيدين من الخيرات الافريقية أرادوا أن تكون النيجر مثالاً، وأن تتم معاقبة المسؤولين عن هذا الخروج عن السياق، حتى يكونوا عبرة لغيرهم. كان الجميع يدرك أن نجاح هذا البلد في نيل حريته يحمل في طياته تشجيعاً لآخرين، ما يمكن أن يساهم في تقويض الهيمنة الغربية والفرنسية بشكل خاص. النيجر صارت مثالاً فعلاً، لكنه مثال معاكس لما أريد له، حيث بات البلد فقير الموارد يمثل دليلاً جديداً على أن الشعوب المستضعفة، والتي يمكن وصفها بأنها عزلاء من السلاح مقارنة بالقوى المتجبرة، يمكن أن يكون لها أيضاً كلمة. إذا اعتبرنا تراجع «إيكواس»، ومن ورائها فرنسا، عن مخطط الاجتياح والحرب انتصاراً، فيمكننا أن نقول إن هذا الانتصار كان يرجع لعدة عوامل، أهمها استفادة القيادة العسكرية الجديدة من المناخ الدولي متضارب المصالح، فبعكس الحماس الفرنسي لم تكن الولايات المتحدة، التي لم يشملها الرفض الشعبي، مستعدة لفتح جبهة جديدة في المنطقة، حيث كان ذلك سيكلف الكثير، كما أنه برزت تساؤلات عما إذا كان بقاء النفوذ الفرنسي يمثل مصلحة أمريكية. في القارة الأوروبية، التي تعيش أزمات اقتصادية وسياسية مختلفة، كان الاختلاف في وجهات النظر كبيراً أيضاً، فعلى الرغم من التضامن مع الخطاب الفرنسي، المبني على أهمية الديمقراطية واحتياج البلاد للقوات الفرنسية من أجل متابعة الحرب ضد الجماعات الإرهابية، إلا أن دولاً مثل إيطاليا كانت لا ترغب في تكرار فوضى التدخل الأممي في ليبيا. ذلك التدخل، الذي أغرق القارتين الإفريقية والأوروبية بمشكلات ما تزال مستمرة أبرزها أزمة اللاجئين وفوضى السلاح، التي أنتجت بدورها مجموعة من الجماعات، التي أضرت باستقرار القارة وبالمصالح الأوروبية. في إقليم الساحل وعلى صعيد «إيكواس» كانت مسائل مثل الموارد اللازمة للحرب والتداعيات على أمن المنطقة وما يمكن أن يقود إليه تدخل عسكري من تعقيدات، خاصة إذا كان أساسه من دولة نيجيريا، المرتبطة مع النيجر بروابط قبلية وثقافية، ما أضعف الحماس لخيار الاجتياح العنيف.
على صعيد آخر، فإن تمرير باريس لانقلاب الغابون، الذي تزامن مع حملة التصعيد ضد النيجر، وعلاقة الرئيس إيمانويل ماكرون الشخصية بقادة في المنطقة يصعب وصفهم بالزعماء الديمقراطيين، كرئيس المجلس العسكري التشادي محمد إدريس ديبي (كاكا)، جعلا من الحديث عن وجوب الدفاع عن الديمقراطية في النيجر مثار سخرية.
كاتب سوداني