بداية، أردت تسمية هذا المقال: فرنسا ومصر ورهاناتهما، لكن اختيار مثل هذا العنوان كان سيقودني إلى حديث عن سياستنا الخارجية التقليدية، من دون جديد يذكر. فالتركيز على الدعائم التقليدية بين صفقات توقع بإعداد هائلة (أكثر من ثلاثين) في مجالات لا تقل تنوعا، ليس جديدا يذكر في السياسية الدولية.
اجل، فـ”تحت إغراء المكاسب”، كما يقال، يكون زعماؤنا مستعدين للكثير، وفي الغالب أكثر استعدادا للاستجابة للاغراء منه لإعلاء شأن مكارم الأخلاق، مرفوقة بعدد كبير من أرباب شركات تنتج في مجالات شتى، انخرطت فعلا “الساعات المصرية” للرئيس الفرنسي في نسق تقليدي، اقتصادي، من شأنه أن يدفعنا، مرة أخرى، إلى التسليم بأن السياسة الدولية يغيب عنها عنصر الإبداع. لكن…
لكن هذه المرة، لغة الرئيس الفرنسي المباشرة التي اعتدنا عليها، يمكن أن تسعفنا، أولا لأن حديثا مثل الذي سمعناه في المؤتمر الصحافي المشترك في موضوع حقوق الإنسان تجاوز، خلافا لتشخيص أخالفه، محض الحديث العرضي المعتاد، المهذب المدلل، والمرتب لإسكات الشكاوى المحتملة والمعروفة للمنظمات الحقوقية. هذه المنظمات الحقوقية، التي أعلن الرئيس الفرنسي انه سيقابلها وأعلن ذلك على الملأ، في سابقة لاحظها مراقبون واعتبروها خطوة قلما يخطوها مسؤول سياسي رفيع المستوى. قد يقول قائل، في نهاية المطاف، لا يعدو الأمر كونه عرضيا، وإن بقالب أكثر مباشرة وتهييجا للانبهار هذه المرة.. وقد يقول قائل إن حوالي الثلاثين اتفاقية التي تم توقيعها بين مصر وفرنسا، والعقود التي تصل قيمتها إلى مئات الملايين من اليوروات في مجالات النقل والطاقة والصحة ومنتجات الأغذية الزراعية، لا يمكن التفريط بها في وجه كلمات متواضعة عن حقوق الإنسان، لن تقدم ولن تؤخر. وقد يضيف قائلنا إن أي مخاطرة أو مجازفة في هذا المجال خليقة بتفريط الأهم، أي ركيزة التعاون الفرنسي المصري المتمثلة في مجال الأسلحة، وسط رغبة القاهرة في استكمال أسطولها من مقاتلات رافال، بعد حصولها على أربع وعشرين طائرة بموجب عقود بلغت قيمتها ستة ملايين يورو، في غضون ثلاث سنوات. وماذا عن صفقات التنقيب عن الآثار أو ترميم المواقع الأثرية والمشاركة في تجديد المتحف المصري؟
لكن مهلا.. لا يمكن لدولة مهما كانت صراحتها الأخلاقية أن تلغي بجرة قلم مصالح اقتصادية تمثل
لا يمكن لدولة مهما كانت صراحتها الأخلاقية أن تلغي بجرة قلم مصالح اقتصادية تمثل عصب الإشعاع العالمي
عصب الإشعاع العالمي، التي تحاول استرجاعه قوة انتقلت من مرتبة العظمى إلى المتوسطة مثل فرنسا، وأي مراقب ينظر إلى الواقع بعين مجردة وجدية لا يملك إلا ان يسلم بهذا الواقع. لكن واقعا آخر لا بد من التسليم به أيضاً، وهو أن الأسلوب الجديد لرئيسنا الجديد يعمل عمله على المدى البعيد. نعم، أسلوبه الواضح والمباشر، جرّ عليه مآخذ السترات الصفراء، وسيلا عارما من الاعتراضات. نعم، الفرنسي ليس معتادا على استقبال نبرة التشدد والتحدي، فالعقلية السائدة هنا أن المرء ضحية أيامه لا صانع مستقبله. لكن، أي تغيير وأي دعوة إلى التغيير مشروع لا يتحقق إلا على أمد يطول.. أمد جيل جديد من القياديين ينظرون به إلى المستقبل بعيدا، لكن ليس الجميع مستعدا لينظر معهم بهذا البعد.
*باحث وإعلامي فرنسي