ثلاثة أرقام خاصة بإيران أتتنا في الأيام القليلة الأخيرة: أولها متعلق بالانتخابات النيابية التي شهدتها إيران يوم الجمعة الماضي. فبالرغم من الرقم القياسي في عدد المرشحين الذي فاق 15 ألفاً، فإن رقم المشاركة في الانتخابات جاء قياسياً هو أيضاً، لكن في الاتجاه المعاكس، إذ لم يبلغ سوى 41 في المئة حسب المصادر الرسمية، وقد تدنّى إلى 24 في المئة في العاصمة طهران. وحيث كانت قوى المعارضة بمعظمها وعلى اختلافها قد دعت إلى مقاطعة الانتخابات، فأن يكون حوالي 60 في المئة من الناخبين في عموم البلاد و75 في المئة من الناخبين في العاصمة (الذين يناهز عددهم عشرة ملايين) قد فضّلوا الامتناع عن التصويت، إنما يشكّل صفعة سياسية قوية لنظام الملالي القائم.
والحال أن النظام اضطرّ إلى تمديد فترة الانتخاب لمدة ساعتين بعد أن تبيّن أن نسبة الناخبين مع اقتراب موعد الإقفال الرسمي، لم تبلغ سوى 27 في المئة في عموم البلاد و12 في المئة في العاصمة. وقد بذلت أجهزة النظام جهوداً حثيثة لجرّ الناس إلى الاقتراع خلال فترة التمديد بحيث وصلت النسبة النهائية إلى ما هو أدنى بقليل فقط من المشاركة في الانتخابات السابقة في عام 2020 التي بلغت 42 في المئة، وكانت الأدنى في تاريخ «الجمهورية الإسلامية». هذا ويمكن قياس هبوط شعبية النظام في أعين الشعب خلال الأعوام الثمانية المنصرمة بالالتفات إلى نسبة المشاركة في انتخابات 2016 التي بلغت 62 في المئة. وقد شهدت إيران خلال هذه الأعوام الثمانية احتجاجات شعبية متكررة إزاء شروط المعيشة واحتجاجات أخرى ضد القمع والاضطهاد، كانت أبرزها حركة الاحتجاج التي عقبت مقتل الشابة مهسا أميني إثر توقيفها من قِبَل «شرطة الأخلاق» قبل أقل من سنتين.
وقد أدّى تعاظم الاحتجاجات الشعبية إلى تفاقم الوجه القمعي لنظام الملالي الذي شدّد خنقه للحريات، بما في ذلك تشديد الخناق على المعارضة الإصلاحية العاملة من داخل النظام. وقد استأثر المتشدّدون بالسلطة ممثلين بالرئيس الإيراني الحالي إبراهيم رئيسي بدعم من «الولي الفقيه» و«القائد الأعلى للثورة الإسلامية الإيرانية» المعروف باختصار بتسمية «المرشد الأعلى» علي خامنئي. وتزامن ذلك مع تشديد القمع بصورة خطيرة تجلّت في بلوغ رقم الإعدامات خلال العام الماضي 834 إعداماً، وهو الرقم الأعلى الثاني بعد الرقم القياسي الذي بلغ 977 إعداماً في عام 2015.
لا يستطيع الشعب «إسقاط النظام» وفق شعار الانتفاضات العربية الشهير، بطريقة سلمية، سوى إذا تمكّن من تفكيك الأجهزة القمعية المتربّعة على رؤوسه باختلاف أصنافها وأشكالها وتسمياتها
طبعاً، من الإنصاف أن نذكّر بأن العديد من الأنظمة العربية إما إنها لا تنظّم انتخابات على الإطلاق، أو إنها تنظمّ انتخابات صورية بحتاً، لا مصداقية لأي من أرقامها. كما أن ممارسة الإعدامات ليست حكراً على النظام الإيراني، بل تتميز المملكة السعودية أيضاً (على سبيل المثال، لا الحصر) بعدد مرتقع منها. بيد أن رقم الإعدامات في إيران فاق بكثير العدد السعودي، الذي بلغ في العام الماضي 172 إعداماً، أي خُمس العدد الإيراني. أما العبرة الأولى من كل ما سبق فهي أن القاعدة الاجتماعية والسياسية لنظام الملالي في إيران تضيق بصورة متزايدة، وهو ما يضعفه بالتالي.
وقد عزا المراقبون إلى هذا الضعف المتزايد خنوع طهران في وجه التصعيد الأمريكي الإقليمي المرافق لحرب الإبادة الجماعية التي تخوضها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في غزة. فقد أوعزت طهران إلى قواها وحليفاتها في العراق وسوريا، قبل ثلاثة أسابيع، في الامتناع عن شنّ العمليات الهجومية ضد القوات الأمريكية في المنطقة. هذا ويلتزم «حزب الله» في لبنان بخط أحمر لا يتعدّاه، بالرغم من تهديده ووعيده كلّما صعّدت الدولة الصهيونية هجماتها عليه. أما «أنصار الله» الحوثيون في اليمن، فقد انخفضت أيضاً وتيرة هجماتهم على السفن في البحر الأحمر، علماً أن لهم أجندة خاصة بهم، إذ يوظفون تلك الهجمات في صراعهم مع أخصامهم اليمنيين ومع المملكة السعودية.
أما العبرة الثانية والأعمّ مما سبق ذكره، فتحيلنا إلى الحالة البائسة السائدة في منطقتنا حيث لا يستطيع الشعب «إسقاط النظام» وفق شعار الانتفاضات العربية الشهير، بطريقة سلمية، سوى إذا تمكّن من تفكيك الأجهزة القمعية المتربّعة على رؤوسه باختلاف أصنافها وأشكالها وتسمياتها. وينذر هذا الأمر بالمزيد من المآسي على غرار الحروب الأهلية التي شهدتها المنطقة منذ «الربيع العربي» في عام 2011 في كل من سوريا وليبيا واليمن والسودان، إلّا إذا ظهرت قوة سياسية لها من الشعبية ما يجعلها قادرة على شلّ الأجهزة القمعية، بل وجذب قاعدتها إلى الثورة، مثلما حصل في إيران في عام 1979، وهي الحالة الفريدة في تاريخ المنطقة الحديث حتى الآن حيث تمكّن الشعب بذاته من «إسقاط النظام» بغير الحاجة إلى اندلاع العنف على نطاق واسع.
٭ كاتب وأكاديمي من لبنان