الفنان هو رئة المجتمع ومتنفس له، نابض بالحياة والتغيير، يعايش حالات أفراده وحاجاتهم، ويتفاعل معهم كحبكة نسيج لا تستقيم من دون حياكة. فيصوغ أعماله الفنية وفق قراءته لما يدور حوله، وما يلامس أحاسيسه، لكن من خلال تفكيك هذه المعطيات والأشياء، وإعادة تركيبها مجددًا، وهذا بالمبدأ يحتاج إلى عزلة بين فترة وأخرى، لإطلاق هواجسه وأفكاره بطريقة مختلفة ومتمردة على الواقع، وإن كانت تجاريه.
هذه العزلة الاختيارية تقود إلى الإبداع، وهي حاجة ملحة له، فالظاهرة الإبداعية أقرب إلى الحوار والتفاعل في بداية المطاف، مع الغوص في التكوين النفسي للفرد المبدع، الذي يعايش مجمل الأوضاع الثقافية والاجتماعية والسياسية، وأنماطا من الحياة مختلفة، من أجل العثور على المعاني الممكنة كافة، التي تقوده إلى عملية الإبداع وتحقيق حاجاته الداخلية. من هنا تبدو اللحظة الإبداعية ليست فقط لحظة انفعالية تتماشى مع السائد، بقدر ما هي مزيج يربط بين انفعالات وأبعاد روحية وجدانية حسية، تفاعلت مع مرجعيات بصرية، وتبلورت في عزلة اختيارية. لكن يبقى السؤال أين نحن اليوم من الإبداع في عزلة قسرية، إجبارية لحالة صحية هددت مكامن النفس الإنسانية؟
فيروس صغير (كورونا) لا يرى بالعين المجردة، أشاع الرعب في النفوس، ناهيك مما أثارته التخمينات بشأنه من التوتر والتردد، والاحتمالات المنقوصة أحيانا، والمبالغ فيها أحيانا أخرى، بالطبع هذا الوضع يحلينا كل يوم إلى شرح جديد. هذا الوباء العالمي كشف المستور بتقاذف التهم من حرب بيولوجية إلى التغاضي عن الاهتمام بصحة الإنسان، إلى صراع السيطرة على العالم.. وخلاصة طغى عليها مفهوم واحد هو العزلة.. هي عزلة ليست حقيقية لحالات المبدعين، يخترقها زمن بطيء متردد، يحاكي هذا الكون برمته، سيطرت فيها وسائل التواصل الاجتماعي على المشهد بأكمله، فكان الفن جزءًا من هذه المنظومة، فشهدنا الكثير من منصات العروض الفنية، تحت عناوين مختلفة، من تغيير للواقع بمفهوم جمالي، فكانت الأعمال تعرض تباعًا لقاء دعوات من منظمين، أو من قبل الفنانين أنفسهم، على اعتبار أن ذلك وسيط جيد، وبديل للمعارض، لتداول الأفكار الفنية، فشهدنا التكرار والتسطيح، من دون عمق للأفكار والتقنيات في الغالب، فكان هدف البعض توعية المجتمع من أخطار الفيروس أو مواجهة الخوف بالتحدي. يقول توماس أديسون: “أفضل التفكير يكون في العزلة، أسوأه يكون في الزحام”. فهل تستطيع عزلة وبائية قسرية في زمن متردد أن تقود إلى الإبداع؟
استطاعت هذه العزلة أن تقودنا إلى عمقنا الإنساني نستلهم منه ما فاتنا خلال زمن توالى بسرعته التكنولوجية، وحربها المستمرة بالتطوير، ونحن نجري لاهثين خلفها، بحيث بات عالمنا في الغالب غير حقيقي وافتراضيا، وبتنا في ألفة معه، لدرجة اغترابنا عن أنفسنا. كذلك الطبيعة في هذه العزلة علمتنا درسًا فكانت أقوى من البشر جميعًا، بحيث استطاعت في وقت قصير الشفاء من جروحها إزاء الممارسات البشرية ضدها على مدى سنوات.
لا شك في أن هذه العزلة أثارت الارتباك في النفوس والعادات، ولكن في جزء منها قادتنا إلى التحديات، إلى التأمل في كل ما يجري حولنا، وإمكانية التغيير في بعض المفاهيم السائدة التي لا نلحظها إلا إذا ارتفع جدارها ووقفنا لا خيار أمامنا إلا بهدم هذا الجدار. أما طريق الإبداع فلا يكتفي بالعزلة، بل يحتاج أيضًا إلى صخب الحياة وجنونها، إلى الحركة في العمل، إلى التواصل الحسي، إلى السفر.. كل ذلك يحفز الطروحات في داخلنا، فالوقت المتراكم الذي نلهث فيه وراء فسحة، هي اختيارنا للعزلة بمزاجنا، والخروج منها حين يحلو لنا. هي عزلة حرة ملونة نحن أسيادها، نختارها للهرب من الضجيج، لا أن يقذفنا ضجيج العالم المتهالك إليها، وأنا على قناعة بما قاله فرناندو بيسوا: “الحرية هي امتلاك العزلة، حرّ أنت إن استطعت الابتعاد عن الناس، من دون أن تُجبر على اللجوء إليهم”.
عزلتنا اليوم لا لون لها، رغم سحرها المتخفي في حالتها القسرية، التي أعادتنا إلى ذواتنا في موقف حائر، نتلمس مكامن التحدي داخلنا، في ضجيج كوني يتردد فيه صدى الخوف المقبل، والرهبة من التفاعل مع النسيج البشري، هو فقدان الإحساس بالواقع.. ربما هذا سيقودنا إلى إبداعٍ وتحدٍ من نوع آخر.
*فنانة تشكيلية وأستاذة في الجامعة اللبنانية