في استعادة الراحل الكبير إدوارد سعيد (1935-2003)، وقد مرّت يوم 25 أيلول (سبتمبر) ذكرى غيابه؛ أتوقف عند واحد من الأبحاث الرصينة والمعمقة التي تستلهم منهجياته الجبارة في قراءات نقدية لظواهر معاصرة تخصّ الاستشراق، أو دراسات التابع، أو نظريات ما بعد الاستعمار، أو القضية الفلسطينية؛ فضلاً، بالطبع، عن مسائل الأدب عموماً والرواية بصفة خاصة، وموقع المثقف النقدي من الحياة المعاصرة ما بعد الحداثية والمعولَمة، وسوى هذا وذاك من ملفات سياسة الثقافة. والباحث الذي يسعدني التعريف به، على عجالة يقتضيها المقام بالطبع، هو الهندي محمد عبد المقتدر خان، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة ديلاوير الأمريكية؛ وبحثه يحمل عنوان «ما بعد الاستشراق والجيو ـ سياسة: ثلاثة سجالات تتناول الإسلام والسياسة الخارجية للولايات المتحدة»، نُشر في فصلية Insight Turkey، ربيع 2020.
أطروحته المركزية ليست لافتة بمعنى أنها تأتي بجديد يخصّ موقع سعيد المتميز في ريادة حقل الدراسات الاستشراقية، وقد سال حول هذا الموضوع حبر كثير منذ أن أصدر الراحل كتابه الرائد «الاستشراق» سنة 1978؛ بل بمعنى أنّ عبد المقتدر خان ينصف شخصية أخرى بارزة في مضمار آخر من الحقل إياه، هو أستاذ العلوم الإسلامية الأمريكي جون إسبوسيتو؛ إلى جانب عدد من زملائه وتلامذته. وبينما سلّط سعيد أضواء نقدية كاشفة على سلسلة انحيازات موروثة في باطن خطاب الاستشراق وفكره، فإنه في الآن ذاته سعى إلى تبيان ما هو ليس بالإسلام كما كرّسته مناهج عدد من المستشرقين في المخيّلة الجماعية للغرب؛ ولكنه لم يضع على عاتقه إيضاح ماهية الإسلام الحقّ الفعلي، لأنّ مهمة كهذه لم تكن تدخل في اختصاص سعيد، ولم يكن يملك لها عدّة معرفية ولا استعداداً بحثياً. هذه، في المقابل، هي الرسالة التي تنطح لها إسبوسيتو على وجه التحديد؛ وبذلك فإنه، حسب عبد المقتدر خان، يكمل رحلة استكشاف الإسلام كما بدأها سعيد مع «الاستشراق» و»تغطية الإسلام»، 1981، ضمن ثلاثة أنماط من المساجلة بين المستشرقين وما بعد المستشرقين: 1) أطروحة صدام الحضارات، بين الإسلام والغرب؛ و2) قابلية الإسلام للتطابق مع الحداثة، كما تتمثل جوهرياً في طواعية الإسلام للديمقراطية؛ و3) سياسة الولايات المتحدة تجاه مختلف تمظهرات الإسلام السياسي.
الخطاب الغربي عن الإسلام لم يعد سردية استشراقية كبرى لا يأتيها الباطل، لأنّ ميادين البحث الأكاديمي ووسائل الإعلام وحتى الكثير من دوائر صنع القرار باتت، راضية أم مجبرة، أقلّ تجاسراً على إعلان الثقة المطلقة بتلك السردية
وهكذا فإنّ سعيد «لا يعرّفنا على إسلام قائم خارج السرديات الاستشراقية أو بالاستقلال عنها، أو ذلك الإسلام الذي أتجاسر على القول إنه ‘إسلامات فعلية’ تخصّ ممارسات مسلمة في مجتمعات متنوعة. جون إسبوسيتو ونفر من الباحثين ما بعد الاستشراقيين، وعبر أبحاثهم وأنشطتهم الأكاديمية، أدخلوا إلى جمهور غربي ثمّ عالمي بعدئذ، فهماً للإسلام يعتمد على مصادر إسلامية، يقرّ بها المسلمون أنفسهم، وهي ذاتها التي خرّبتها الخطابات الاستشراقية»؛ يكتب عبد المقتدر خان. وليست مفاجأة أنّ كتابات المستشرق البريطاني/ الأمريكي برنارد لويس هي محور القراءات النقدية التي عكف عليها هؤلاء، وهي كذلك موضوع السجالات الثلاثة المذكورة آنفاً.
ومن المعروف أن لويس كان السبّاق إلى صياغة فكرة استحالة اللقاء بين الإسلام والغرب، وأنّ صمويل هنتنغتون تلقفها منه فبشّر بصدام الحضارات في المقالة الشهيرة التي نشرتها مجلة فوريين أفيرز» سنة 1993، ثمّ طوّرها الأخير إلى كتاب فيما بعد. غير معروف على نطاق واسع، في المقابل، أنّ إسبوسيتو في كتابه «التهديد الإسلامي: خرافة أم حقيقة» كان قد سبق هنتنغتون في كشف زيف فرضية صدام الحضارات عموماً، وبين الإسلام والغرب خصوصاً؛ وفعل هذا ضمن منهجية بالغة الفعالية تفضح قصور المقاربة الجوهرانية للإسلام، غير التاريخية وغير الجدلية، والتي أرسى لويس ركائزها وكان فيها الأستاذ والقدوة والمعلّم للعشرات من جيل المستشرقين اللاحق.
الفارق الكبير، في نظر عبد المقتدر خان، بين مستشرق مثل لويس وباحث ما بعد مستشرق مثل إسبوسيتو، هو أنّ الأخير «مكّن الأصوات الأهلية والأصيلة أن تتحدث عن نفسها وثقافتها». فالمستشرقون الغربيون «تصرّفوا مثل حرّاس بوّابات الشرق»، وسمحوا للغرب أن يرى ما رغبوا هم أنفسهم في عرضه؛ وأمّا أمثال إسبوسيتو فإنهم لم يكتفوا بإعادة تأويل الإسلام، بل وفّروا للمسلمين فرصة مشاركة الغرب في تشكيل الخطاب عن الإسلام. والمرء يلمس هذا الجهد في أعمال إسبوسيتو الكثيرة، مثل «أصوات إسلام منبعث»، و»موسوعة أكسفورد للعالم الإسلامي الحديث»، و»مسلمون على درب الأمْرَكة» بالاشتراك مع إيفون يزبك حدّاد؛ حيث يتبدى الحرص على منح الباحثين أبناء الشرق منبراً للحديث عن عن تراثهم كما يرونه، ومن زوايا نقدية أيضاً.
خلاصة بحث عبد المقتدر خان تنتهي إلى أنّ الخطاب الغربي عن الإسلام لم يعد سردية استشراقية كبرى لا يأتيها الباطل، لأنّ ميادين البحث الأكاديمي ووسائل الإعلام وحتى الكثير من دوائر صنع القرار باتت، راضية أم مجبرة، أقلّ تجاسراً على إعلان الثقة المطلقة بتلك السردية، كما كانت عليه الحال سابقاً. منظورٌ أطلق سعيد أولى معطياته المنهجية النقدية، وتوجّب أن يستكمله أناس من أمثال إسبوسيتو؛ وفي هذا «سبيل بالغ القوّة نحو تفكيك الاستشراق، وتمكين الشرق من الحديث عن ذاته، وفتح أفاق الميدان الدراسي على وسعها».
.. وللحرّاس القدماء المحترفين أطيب الحظّ في ملازمة البوّابات!
/وتوجّب أن يستكمله أناس من أمثال إسبوسيتو؛ وفي هذا «سبيل بالغ القوّة نحو تفكيك الاستشراق، وتمكين الشرق من الحديث عن ذاته، وفتح أفاق الميدان الدراسي على وسعها»./…
ما زلت أشكك، وإلى حد كبير، في هذا الاستعمال الأكاديمي المعاصر لاصطلاح «التفكيك» بهذا المنظور الاختزالي بأحسن أحواله – وهو الاصطلاح الفلسفي المأخوذ عن جاك ديريدا في الأساس… ذلك لأن تفكيك الاستشراق، بالتأكيد بحسب مفهوم ديريدا نفسه، ليس المقصود منه تمكين الشرق من الحديث عن ذاته، بهذه البساطة… !!!
أحسنت بهذه الملاحظة التشكيكية باصطلاح «التفكيك»، عزيزي ثائر المقدسي.. وأنا بدوري أشك بأن أولئك «الباحثين» الأكاديميين المعاصرين من أمثال أوسبوسيتو يدركون حقَّ الإدراك فحواءَ التمثيل المفهومي الحقيقي لهذا الاصطلاح، كما رامه ديريدا نفسه، بنحو أو بآخر.. على الأقل إدراك كونه /كون هذا الاصطلاح/ منهجا في سبر العلاقة بين النص والمعنى، وفي سبر تلك الاحتمالية التي تتغيَّر فيها هذه العلاقة تغيُّرا تزمُّنيًّا /بالمفهوم الدوسوسوري لمصطلح «التزمُّني» Diachronic، في حدِّ ذاته/.. فالمنهج «التفكيكي» يرى بأن منظومةَ اللغة، حتى اللغة /وعلى الأخص من منظور مفاهيمَ مثاليةٍ، كمثل مفاهيم «الحق» و«الحقيقة» و«العدالة»/ إنما هي منظومةٌ شائكةٌ عائصةٌ لا تقبل الاستقرار ولا تقبل التحديد بأي نحوٍ اختزاليٍّ كان.. حتى النصُّ السعيدي الذي رامَ «تفكيك» النصَّ الاستشراقي، وقد مضى عليه الآن أكثر من ثلاثين عاما، حتى النصُّ السعيدي ذاته لا يقبل هكذا استقرارا ولا يقبل هكذا تحديدا بأي نحوٍ اختزاليٍّ كان.. !!
** وقد مضى عليه الآن أكثر من ثلاثين عاما
** وقد مضى عليه الآن أكثر من أربعين عاما
أعتقد أن محمد عبد القادر خان هو إبن عبد القادر خان. و إستعمال الإسمين معا فيه ربما إرباك للقارئ، خصوصا على وقع آخر جملة في المقال. لأن عبد القادر خان كان طالبا لدى طه حسين وهو مؤلف كتاب الأساطير والخرافات عند العرب. وعندما رفض طه حسين رسالة الدكتوراه التي تقدم بها البهبيتي عن أبي تمام، إحتج أحمد أمين، والعهدة على البهبيتي، لأن عميد الأدب ينعم على شخص من بلاد تركب الأفيال بينما يقسو على مصري نجيب.
الاسم المذكور في المقال هو (محمد عبد المقتدر خان) وليس (محمد عبد القادر خان، كما تذكر أنت !!؟
أحسنت!معرفة الإسلام معرفة مجردة بمعزل عن مقتضيات الإيمان مهمة مستحيلة وتسقط بالضرورة في التأويل والانحياز.
واضح ان اسلوب ثائر مقدسي وىصال ابسال من قلم واحد.ومفهوم التفكيك ( لديكما ) غير صحيح.وبساطة فالتفكيكية هي عملية فهم
اسلوب العلاقة بين النص والمعنى.