تيسير عمليات التجارة الدولية عن طريق تجنب الحروب التجارية، هي الوظيفة الأساسية لمنظمة التجارة العالمية. وجميع الدول الأعضاء داخل هذه المنظمة يتعهدون بعدم فرض حواجز أمام أي بضائع، أو خدمات من أي نوع، أو فرض رسوم تمييزية ظالمة ضد البضائع المستوردة.
ولكن موقف الولايات المتحدة من التجارة الحرة تجلى من خلال الخروقات العديدة، وهي الموقعة على الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة بتاريخ 1 يناير 1948، وانضمت أوائل سنة 1995 إلى منظمة التجارة العالمية، وفرضت ما يزيد عن 120 حالة حظر وحصار منذ الحرب العالمية الثانية.
ومن خلال اعتمادها على سياسات من هذا النوع كأسلحة تستخدمها ضد الدول، خاصة من تراهم أعداءها في العالم الثالث، فإنها تنتهك حرية التجارة التي «ليست بتجارة وليست بحرة « كما وصفها تشومسكي.
ورغم أن هذه الوسائل المعتمدة أمريكيا يتم انتقادها من أغلب دول العالم، وأيضا من مجلس منظمة التجارة العالمية، والمحكمة الدولية، إلا أن الولايات المتحدة ماضية في تجاهل الجميع، ولا تعير اهتماما للقوانين النظرية ذات الصلة بالاتفاقيات التجارية، التي إن طُبقت يمكن أن تكون ملاذا لضحايا الإجراءات الأمريكية، وتعويضا منصفا للأطراف المتضررة، ولكن لا أحد يطالب واشنطن بتعويضات، ويواجه التهديد الأمريكي بتهديد مماثل، يمكنه أن يحجم مُضِيها في مثل هذه البلطجة الدولية. وقد فاقمت مرحلة ترامب الرئاسية، جرّ العلاقات التجارية إلى قنوات غير اقتصادية، وفي سياق حصارها الاقتصادي والتجاري لإيران، قامت الولايات المتحدة في الأيام القليلة الماضية، بفرض غرامة مالية على الإمارات قدرها 400 ألف دولار، بسبب تحليق المطبّع الجديد مع حليفتها إسرائيل فوق المجال الجوي الإيراني، المحظور من وجهة نظر أمريكية، رغم أن هذه الدولة كانت إلى أمد قريب مصدر خير بالنسبة لأمريكا، وأصبحت في نظرهم مارقة، بعد أن انسحبت من النظام الامبريالي عام 1979. ولم تعد تنفذ توصيات واشنطن أو تتبع الأوامر. ومنذ ذلك الحين وهي تُعد «شرا» في سياق النظر إلى تهديد القومية الاستقلالية من زاوية عدائية. وربما تتمنى أمريكا أن تعود إيران إلى زمن الشاه محمد رضا بهلوي، الذي أعادته إلى الحكم سنة 1953 بعد أن دبرت سي آي إيه، انقلابا للإطاحة بحكومة مصدق المحافظة، واعترفت المخابرات الأمريكية بمسؤوليتها عن ذلك عام 2013، وإن كانت العملية قد تمت بمشاركة المخابرات البريطانية.
هوس المضاربة والاحتكار التجاري كشف عن اقتصاد عالمي تعمه الفوضى، وأصبح مسرحا لنزاعات جيوسياسية عظمى
وفي سياق لجم القوميات التحررية، أوصى مجلس الأمن القومي الأمريكي منذ 1958 بضرورة قيام واشنطن بالتحضير لاستخدام القوة، سواء بمفردها أو بالتعاون مع بريطانيا، لضمان الوصول إلى نفط العرب. واعتبِر نفط الخليج ضرورة لا غنى عنها، لاستمرار التقدم الاقتصادي لأمريكا، ولأوروبا الغربية تحديدا، ولأجل ذلك قدمت الولايات المتحدة الدعم والمساعدة لبريطانيا، لاستعادة سيطرتها على الكويت والخليج الفارسي. وحرصت القوى الاستعمارية التقليدية على ضرورة إبقاء شعوب المنطقة أسارى لنمط اقتصادي بدائي، مع ضمان بقائهم في جهل وتأخر، يعانون الفقر والمرض والصراعات الإثنية والعرقية. ومن ثم المشاكل الحدودية. وبالنظر إلى طبيعة العلاقات الدولية، تتحول النزاعات التجارية إلى حروب عقابية. والسلطة المحلية صارت مرتبطة بالسلطة الاقتصادية ضمن تركيب الحكم في الدولة في العقود الأخيرة. وحقيقة التنافس المؤلمة بين أمريكا والصين، تحولت إلى حرب تجارية متواصلة، رغم أن تعامل واشنطن مع بكين في ما يخص العقوبات التجارية دائما ما كان يتم بمكر، حتى لا تُمَس الأرباح الأمريكية بعد أن فتحت الصين أبوابها للاستثمار الأجنبي، وانضمت إلى نادي الرأسمالية والسوق الحرة، وهما يخوضان صراعا جيوسياسيا بعناوين اقتصادية، وإن تجاوز التنافس مداه، سيخلف آثارا مدمرة. ومن الممكن فعليا أن تصل الصين إلى تغيير موازين القوة عالميا، والقطع مع الطريقة التي يتم بها توزيع القوة الاستراتيجية على مستوى العالم منذ عقود. وهي تدرك أن إضعاف الدولار كعملة الاحتياطي العالمي، هي المقدمة لإضعاف القوة الجيوسياسية لأمريكا، ووجود تغير في الهيئة الحالية للاحتياط النقدي هو بمنزلة المعادلة الحاسمة. وعلى الأسواق أن تقبل بأي عملات احتياط جديدة. حتى لا تبقى تحت سيطرة الولايات المتحدة، مُعرضة للأزمات بشكل دوري، ويتواصل في سياقها ارتطام الحاجيات البشرية بأيديولوجية متغطرسة.
الظروف الدولية دفعت باتجاه فقدان الدول النامية لشخصيتها السياسية والاقتصادية، أمام زحف ما يسمى بالنظام العالمي الجديد مع بداية القرن 21. والمؤسسات المالية العالمية، كالبنك الدولي وصندوق النقد، تحولت إلى مجرد هياكل مالية لدعم الدول الصناعية الكبرى، التي تهيمن اقتصاديا على حساب الدول الفقيرة، بما جعلها مؤسسات غير ديمقراطية. تتشدق بمبادئ بدون تطبيقها، وتتحجر فيها الرؤية الأحادية. والعيوب العميقة للسوق الحرة العالمية، أحدثت بالفعل معاناة هائلة بغير موجب، وهذا المشروع لم يكن سوى مشروع سياسي. وهوس المضاربة والاحتكار التجاري كشف عن اقتصاد عالمي تعمه الفوضى، وأصبح مسرحا لنزاعات جيوسياسية عظمى. وعلى أرض الأخلاق، توجد على الدوام مشكلة المعايير المزدوجة، وليس هناك تصور لضرورة إحداث إصلاح جذري للاقتصاد العالمي وللعلاقات التجارية. والإخفاق المتواصل هو مدعاة تشاؤم بالنسبة للإنسان الذي لم يوجد لخدمة السوق، وإنما الأسواق تُصنع لخدمته. والعولمة حتى الآن، جعلت الأمور أسوأ في أغلب الحالات، فنظام الحكم المعاصر «ما بعد السيادة» كما يسميه ألفريد إيكس، مصاب بفجوات كثيرة من مظاهر العجز الديمقراطي. ويبدو أن الصرح الهش سيبدأ في التفكك، والسؤال المتجدد: هل تشكل الديمقراطية مصدرا رئيسيا للسلام؟
كاتب تونسي
يتاجرون في الوباء. النظام الليبرالي في انهيار والكساد عم الجميع. “الصرح الهش سيبدأ في التفكك” كما قلت أستاذ.
قد يشهد العالم كذبة اخرى مشابهة لكذبة الدولار التي أظل بها نيكسون الجميع في سبعينيات القرن الماضي.
الولايات المتحدة دولة مارقة وتتجاوز دائما القانون وليس لها من رادع الى الآن
مقال رائع. شكرا لكاتبنا العزيز في القدس العربي.
من وجهة نظري حتى منظمة التجارة العالمية مثلها مثل بقية المؤسسات – صندوق النقد الدولي والبنك الدولي- جميعهم أذرع بيد امريكا والنظام الاقتصادي الذي وضعته الدول المنتصرة اثر الحرب العالمية. ولا تنتظر الدول الضعيفة شيئا من هذه المؤسسات.
ننظر فنرى لمن تمنح جوائز نوبل. للآداب خاصة اليس لدينا ادباء كبار يستحقون. هذه السنة منحت لكاتبة امريكية من اصول يهودية . واضح التسييس أستاذنا. ولا ننتظر من هؤلاء خيرا .هم فقط يهيمنون ويواصلون عقلية الاستعمار التاريخية. وليس باليد حيلة مادام وضعنا هش وحكامنا فاسدون ويهرولون نحو العدو الصهيوني. ولا تشجيع على الابداع في اي مجال. فقط يكممون الافواه وزادت كورونا في توفير الكمامات.
دام حضورك. وشكرا على جرأة القدس العربي المتواصلة حتى في هذا الزمن الحالك.
للشعوب التي في طور الترهل والرثاثة يمكن أن ينصح بالحرب كوسيلة للعلاج. على فرض أنّ لديها حقا رغبة الاستمرار في الحياة. ذلك ان هناك ايضا علاجا بالصدمة لمداواة وهن الشعوب. عجيب ان الشعوب العربية لم تداوى لا بالحرب ولا بالصدمة. اذا المشكلة في الحكام الذين ابقوا على هذه التعاسة وسلموا الأوطان بثمن رخيص. صحيح ان الدول النامية فقدت شخصيتها الاقتصادية والسياسية والسبب حكامها. على الشعوب العربية ان تثور وتسقط هذه الاصنام التي خذلتنا وضيعت احلامنا وقصفت اعمارنا.
ابن تونس الكاتب لطفي العبيدي . شكرا على اسهاماتك القيمة جدا.
القدس العربي تجل قراءها الأعزاء. شكرا على تفاعلكم.
فعلا تيسير المتاجرة بالوباء بدأت منذ الأيام الأولى لاتشار الفيروس اللعين. ورأسمالية السوق تعاني أزمات حقيقية تنذر بانهيارات وشيكة في منظومة العولمة .
الأخ العزيز مصطفى نشاركك الرأي في أن مثل هذه الجوائز تحمل ابعادا سياسية وأيديولوجية، وفي رأيي أدونيس أو غيره من المبدعين في العالم العربي والاسلامي يستحقون جائزة نوبل أكثر من لويز غلوك الشاعرة الأمريكية من أصول يهودية .
أتحفتنا بمداخل نيتشوية أخ شهاب. ولكن “شعب يحيا ويشعر على هذا النحو لا يكون بحاجة إلى الحرب”. ربما على الشعوب العربية أن تبحث عن وسائل لتغيير واقع الأنظمة التي تكبل إرادتها وتكتم أنفاسها وتكرس الجمود والتخلف. وهذه الأنظمة هي بمثابة المأساة في حق شعوب تنشد الحياة .
دام حضوركم ولكم أفضل تحيات أسرة القدس العربي . أهلا بكم دائما