توفي الكاتب المغربي إبراهيم الحجري اليوم الأربعاء في نحو الساعة الرابعة ونصف عصراً، بمستشفى الشيخ خليفة بمدينة الدار البيضاء، عن عمر يناهز الـ 49 عاماً. وكان الفقيد قد دخل في غيبوبة قسرية امتدّتْ نحو أسبوعين، بعد وعكة صحية مفاجئة ألمّتْ به يوم الثلاثاء 22 يونيو 2021، نُقِل على إثرها إلى إحدى مصحات مدينة الجديدة، ثم إلى قسم الإنعاش بمستشفى الشيخ خليفة. وتحكي شقيقته أنّه كان “يعاني من ألم شديد في الرأس، أدخله في غيبوبة تامّة”.
مرض غامض
ظلّت أسباب الغيبوبة مجهولة يكتنفها الكثير من الغموض، وهو ما دعا الطاقم الطبي إلى تشخيص حالته الصحية بغرض تحديد طبيعة المرض بما استلزمه الأمر من إرسال تحليل طبي إلى فرنسا واستكمال الفحوصات والتحاليل اللازمة، كما أنّ تمدُّد فترة الغيبوبة وقف عائقاً أمام تدخّل الجهات المعنية لنقله أو اتخاذ أي قرار حاسم، كما صرح صديقه الكاتب شكيب عبد الحميد. حتى ورد تقرير- حسب ما أفاد به رئيس اتحاد كتاب المغرب عبد الرحيم العلام الذي كان يتابع تطوّر الوضع الصحي تنويراً للرأي العام- يؤكد “عدم توصل الطاقم الطبي إلى تشخيص دقيق للمرض… مفاده أنّ مرضه الفيروسي على مستوى الرأس جدّ معقد، ويطرح احتمالات عديدة”، كما أنه في حال نقله إلى جهة صحية أخرى سيستلزم “إعادة إجراء التحليلات الطبية من أوّلها، ما قد تكون له انعكاسات سلبية على صحته، وتضييع مزيد من الوقت، والطاقم الطبي في أمسّ الحاجة إليه في هذه الظروف العصيبة”. ولم يمرّ سوى يومين حتى فاضت الروح، وطُويت صفحة حياة مشرقة ومؤثرة لكاتب مبدع مُتعدّد المواهب جاء من الهامش، لكن قرّاءه سيتذكّرون عبر أدبه وكلماته روحاً منطلقة أخلصت لقيم الفنّ والجمال والعطاء الإنساني.
نداء استغاثة وتعاطف منقطع النظير
منذ أن عُلِم بدخول الفقيد في غيبوبة قسرية، تعالت أصوات العديد من الأدباء والفنانين والمثقفين من مختلف أرجاء المعمور، معربة عن قلقها عن حالته الصحية، وداعية له بالشفاء. وظلّتْ صفحات الفايسبوك تمتلئ بصوره ومزيج من الأدعية والكلمات المؤثرة في شخصه وإبداعه وأخلاقه الرفيعة وحضوره المستحقّ منذ ثلاثة عقود في فضاء الثفافة المغربية والعربية أستاذاً مربّياً وأديباً وناقداً متمكّناً. ووجّه أصدقاؤه من مثقفين وأدباء وقراء نداء استغاثة إلى وزارة الثقافة والشباب والرياضة، يطالبون فيه بإنقاذه والتحرّك من أجل رفع الوضعية الحرجة عن “سفير حقيقي للثقافة المغربية في الخارج، وطالما شرف المغرب في محافل عربية بكتاباته وإنجازاته الأدبية، وأغنى الخزانة بمؤلفات متنوعة وبحوث علمية وأكاديمية قيّمة”، وشدّدوا على “واجب وزارة الثقافة والمسؤولين الاهتمام بحالة الحجري الصحية، والتدخل لإنقاذ حياته، ومتابعة حالته وإخبار الرأي العام بها”، وقالوا: “فقد مللنا من ترك مفكرينا، ومبدعينا، وفنانينا، وأدبائنا عرضة للإهمال، والمرض ينهش أجسادهم في أوقات المحن؛ لنكتفي في الأخير بقراءة ما دأبنا على قراءته في موقع وزارة الثقافة، من عبارات النعي بعد فوات الأوان لا قدر الله !”
كما “توجهت فعاليات أخرى إلى العاهل المغربي، الملك محمد السادس، ملتمسة منه أن يحفّ بعنايته المولوية الناقد والروائي إبراهيم الحجري (…) لأن في هذا تحفيزاً للأجيال القادمة من أجل رسم صورة حضارية مشرقة لوطننا، وبالتالي استمرار الثقافة المغربية في القيام بدورها الدبلوماسي المعهود”.
حياة حافلة
ولد إبراهيم الحجــري ببلدة أولاد أفرج نواحي مدينة الجديدة عام 1972م، حيث تلقى تعليمه الأولي والثانوي، والعالي بين مدينتي الجديدة والرباط إلى حين حصوله على الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها من جامعة محمد الخامس- الرباط عام 2013م. عمل أستاذاً للغة العربية بالتعليم الثانوي الإعدادي والتأهيلي بين أعوام 1997م و2011م، ثُمّ مفتشاً تربويّاً في مادة اللغة العربية بعد تخرّجه في مركز تكوين مفتشي التعليم، الرباط، عام 2011م. وهو أب لثلاثة أطفال.
ترك إنتاجاً إبداعيّاً متعدد الأوجه والمسارات، فراكم تجربة علمية وإبداعية تحتذى، وأنجز عدداً من البحوث والمؤلفات السردية الروائية والنقدية الرائدة، بعضها ترجم إلى لغات أجنبية، وبعضها توج بجوائز دولية مرموقة، زكت موقعه العلمي، وشرف المغرب في مختلف المحافل الثقافية والعلمية في الخارج. فكان نموذج للشاب المغربي الخلوق، المثقف الباحث الكفء، الذي ظلّ ينحت مشروعه الإبداعي بكفاءة وثقة وتمكّن.
من أعماله الإبداعية والنقدية: “أسارير الوجع العشيق” 2006م، و”صابون تازة” 2011م، و”العفاريت” 2013م، و”رجل متعدد الوجوه” 2014م، و”آفاق التجريب في القصيدة المغربية الجديدة” 2006م، و”الشعر والمعنى”، “شعرية الفضاء في الرحلة الأندلسية”، و”المفهومية في التشكيل العربي: نماذج ورؤى” 2012م، و”المتخيل الروائي العربي” 2012م، و”خطاب الرحلة المغربي الأندلسي: مقاربة سردية- أنثروبولوجية” 2013م، إلخ.
وقد ظلّ الراحل نشطاً يملأ الفضاء الثقافي العربي الواقعي والافتراضي بأفكاره وآرائه الغنية، وكانت الندوة الفكرة والنقدية التي نظّمها “الملتقى الأول لقصيدة النثر العربية في رحاب المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح” بتاريخ 17 يونيو آخر أنشطته، حيث قدّم ورقة نقدية بعنوان (قصيدة النثر: صدى اليومي وتصاهر الخطابات).
شهادات
وكتب الناقد حسن المودن:
“تخونني الكلمات في هذه اللحظة الصعبة.. كان كل شيء مفاجئا وقاسيا: مرضه وغيبوبته وموته… ناقد وروائي في أوج عطائه يختطفه منّا الموت بطريقة تجعلك لا تقبل التصديق… كان لي خير سند في مرضي، ولما علمت بمرضه، تتبعت تطورات حالته التي كانت مستعصية وغامضة.. رحمه الله كان إنسانا لطيفا وخلوقا ونبيلا… أما كتاباته النقدية والروائية، فيكفي أنه شرّف بلده بنيله جوائز من السودان وقطر والإمارات.”
وكتب الشاعر محمد بنطلحة:
“حداد مستحيل :
إبراهيم الحجري، سبق إلى الضفة الأخرى،
بالنظرة الثاقبة ذاتها،
وبالابتسامة ذاتها .
السكينة والطمأنينة !”
وكتب الشاعر عبد الرحيم الخصار:
“إبراهيم الحجري نموذج للمغربي الذي كوّن نفسه بنفسه. جاء من بيت قروي بسيط، محاط بالدوالي وأشجار التين. زرتُ ذلك البيت قبل عقدين رفقة أخيه الراحل مصطفى، الذي كان زميلي في الجامعة. في ذلك البيت الدافئ قبلتُ رأس أمه الطيبة الكريمة. ابراهيم الحجري تحدّى كل الظروف الاجتماعية وكسر أعتى الحواجز. تدرّج في المعرفة والثقافة على نحو رائع. التحق بالتعليم الإعدادي بدايةً، ثم حصل على دكتوراه في النقد. ألف كتبا كثيرة في الأدب ونقده، وشارك في ملتقيات عديدة جدا، وساهم بأوراق نظرية وتطبيقية في الكثير من المحافل. في طريقه الشاق، المهني والثقافي، لم تسنده سوى عزيمته، وروحه الوثابة، وعينيه اللتين تشبهان عيني حصان عربي أصيل.”
وقال الشاعر والباحث صالح لبريني:
“إبراهيم الحجري من أبرز الكتاب والنقاد المغاربة الذين أثروا الثقافة العربية بالعديد من المؤلفات السردية والنقدية، والتي تنم عن تجربة عميقة في الممارستين الإبداعية والسردية. وما حققته هذه التجربة من تراكم وإضافات في الرؤى والتصورات تبرز قيمة المنجز السردي والنقدي لدى الحجري, ونضيف أنه من الأصوات الثقافية المغربية التي تشتغل في صمت وتعيش في الظل بعيدا عن الأضواء والقبائل الثقافية ناحتا تجربة مختلفة وخلاقة”.
وكتب القاص العماني محمود الرحبي:
“نهاية الحكاية، آخر ما حبره العزيز إبراهيم الحجري. خبر حزين جدا وردنا قبل قليل من المغرب العزيز. وفاة الصديق الباحث والمبدع طيب القلب الدكتور إبراهيم الحجري. عزائي للأصدقاء ولكلية آداب الرباط والوسط النقدي في العالم العربي، في انطفاء شمعة إبداعية ما فتئت جذوتها الوقادة تغذينا بالجديد في فجر كل دورية ثقافية وإبدعية. “
رحم الله السي إبراهيم الأديب والناقد القادم من المغرب المنسي، حيث تحالف بؤس الجغرافيا وسوء حظ الأدب فكرسا معا واقعا حاول أن ينفض نقعه بصوت يصدح من القرية والهامش يسمع في الشرق والغرب يحمل أنين الهامش وهم المهمشين، لكن القدر أبى إلا أن يجعل مشيئة الله هي العليا ونعم به، شكرا للأستاذ الورواري الذي أبى إلا أن يحيي روح الحجري من هذا المنبر بكلمة لعلها تكون ذكرى وعبرة واعتبار في وطن يقدس الكمان ويلعن القلم.
رحم الله الفقيد واسكنه فسيح جناته، انا لله وانا اليه راجعون،