محمد حسين آل ياسين وبعض توصلاته البحثية

حجم الخط
1

كان أستاذه العلامة مهدي المخزومي (توفي 1993) يشفق عليه، وهو يراه يرتقي مرتقى وعرا صعبا، في درسه ظاهرة (الأضداد في اللغة) لكنه اجتاز مرحلته هذه بتفوق، ونال درجة الامتياز، كما أشفق العلامة المخزومي على تلميذه الباحث الرصين والشاعر السيد مصطفى جمال الدين (ت1996) وهو يدرس (البحث النحوي عند الأصوليين) فقد وطّنَ محمد حسين آل ياسين نفسه، على الولوج في عوالم البحث غير الممهدة، فباحث مثله ما خلق للممهد، بل خلق لبحر البحث اللجي، وقد وقفتُ وأنا أجوس خلل أو خلال نحو عشرة من الكتب؛ كتبه على مثابات رصينات، يناقش فيها عديد ما تعارف عليه الدارسون من آراء، تكاد تصل إلى مرتبة المسلمات العلمية، ومنها مسألة الأضداد اللغوية، التي تعني الكلمات المتحدة أو المشتركة لفظا، والمتضادة معنى مثل: التعزير، التي تأتي بمعنى التوقير والتحقير، والجون، وتعني الأبيض والأسود، والمولى أي السيد والعبد، والمفازة وهي الفوز والنجاة أو الهلكة، والبصير وتطلق على الأعمى والمبصر، والسليم ومن معانيها اللديغ الملدوغ والسالم، إلى غير ذلك من الكلمات المتضادة، وقد تضاربت آراء اللغويين القدامى والمحدثين في هذه الظاهرة اللغوية، واختلاف الآراء دلالة على حيوية العقل العربي، لكن الباحث آل ياسين يحسم الأمر، في عدم وضوح المدلول الشامل للمعنيين المتضادين، أي أن الضدية لم توضع أصلا في اللغة، فلا يعقل أن يتكلم قوم بعبارة فُهِمَ مدلولها، ويغايرونها إلى ما يخالفها ويضادها، لكن الضد جاء من أنك هدفت إلى معنى معين في لغة من لغات قبائل الجزيرة العربية، لكنه جاء بما يخالف هذا المعنى في لغة قبيلة أخرى، ومن ذلك القصة التي قرأتها في أكثر من مصدر ومرجع، ورواها لنا أستاذُنا في فقه اللغة العربية، أيام الدرس الجامعي (1970-1975) حسام سعيد النعيمي – وإن كنت لا أميل إلى صحتها، ولعلها رويت للتدليل على صحة اللفظة الضدية، وأنها من مبتدعات الرواة – ومفادها أن رجلاً من بني كلاب، اطلّع إلى سطح بناء والملك عليه، فلما رآه الملك قال له: ثِبْ، وهي بلغة حمير واليمن تعني: اجلس، وهي في لغة الجزيرة وبني كلاب تعني: الوثوب، فوثب الرجل وتحطمت عظامه، فاستغرب الملك من فعلته، فأوضحوا له إن الوثب لديهم يعني القفز والطفر، فقال الملك: ليست عربيتنا كعربيتهم، ومما يؤكد عدم صحتها، أن الرواية لم تذكر اسم الملك ولا زمنه، ولا مكان ملكه، فضلا عن أن من المستحيل أن يطلب شخص من ضيفه الوثوب الذي يعني التكسر والموت!
وتطور هذا المعنى، وتزيّد فيه اللغويون والإخباريون والرواة، للدلالة على علو كعبهم في هذا المجال، وأنهم توصلوا إلى ما لم يصل إليه غيرُهم، وربما أخذوا بالحوشي والضعيف لبيان المكانة، وربما قالوا ما لم يقله الناس، ونحلوهم أقوالهم للتزيد فقط، وهو ما نص عليه الباحث آل ياسين في خلاصة بحثه: «الإيمان بقلة الأضداد الحقيقية، وبعدم أصالة الضدية فيها عند وصفها الأول، وضرورة البحث بدقة عن الألفاظ التي قيل إنها من الأضداد، والتأكد من عددها في اللغة، وصحة ورودها عن العرب، وتنقية اللغة باطّراح الألفاظ التي جرى التعسف في عدها من الأضداد».
وقد مرّ على الناس حين من الدهر وما زالوا، وهم يقولون إن الأخفش الأوسط؛ سعيد بن مسعدة، هو الذي تدارك على الخليل بن أحمد الفراهيدي، عروض بحوره الخمسة عشر، تدارك عليه بالبحر السادس عشر الذي سمي (المتدارَك) وما هو إلا بحر الخَبَب، فيأتي العلامة آل ياسين برأي جديد، وذلك في بحثه الرصين (الأخفش وعروض الخليل) من كتابه «أبحاث في تاريخ العربية ومصادرها» الصادرة طبعته الأولى عن دار الكتب عام 1417ه‍ -1996، وبعد مدارسة مضنية للنصوص، يقرر أن هذا الذي ينسب للأخفش- وآل ياسين لا يحدد أي أخفش هو، ترى هل هو ينكر وجود أخافش أخر، مع إن عبد الأمير الورد في دراسته القيمة لنيل الماجستير، عن الأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة، يرتفع بأعدادهم إلى ما يتجاوز العشرة أخافش.
إن هذا الذي ينسب إلى الأخفش، ما هو إلا أوراق الخليل، انتحلها الأخفش ونسبها لنفسه، بعد أن أودعها سيبويه لديه، فضلا عن كتابه النحوي الشامل، الذي يعد دستور النحو العربي، الذي سماه «الكتاب» وقد ازمع رحيلا عن البصرة نحو بلاده؛ بلاد فارس، بعد تلك الخيبة التي مني بها في مجلس الخليفة العباسي الرشيد، في المناظرة التي أفاض الدارسون بذكرها بينه وبين الكسائي، في ما عرفت بـ (المسألة الزنبورية) ومات سيبويه في رحلته تلك، وما أراه إلا مات هما وغما، بسبب ذلك الانكسار، فيعقد العلامة آل ياسين مقارنة ذكية تدل على تتبع وبحث ومدارسة بين نصوص مما ورد في «لكتاب» لسيبويه ونصوص من كتاب «القوافي» المنسوب للأخفش ليصل إلى نتيجة علمية مفادها: هذه الأمثلة من النقل المباشر وغير المباشر من «الكتاب» كافية لإثبات أن الأخفش استقى علمه في العروض من سيبويه، لا من أحد سواه، خصوصاً أنه ليس في أيدينا ما هو أقدم من كتاب سيبويه يمكن أن يكون مصدرا للأخفش، ويخلص أخيرا إلى أن الأخفش تلمذ في العروض لسيبويه لا للخليل، وإنه تلمذ له في النحو واللغة كذلك. فسيبويه هو أستاذه المباشر، وهو الطريق إلى الخليل، أو بعبارة أخرى، هو الحلقة المفقودة بين الخليل – مستنبط العروض ببحوره الستة عشر جميعاً – والأخفش طريق الدارسين إلى هذا العروض».
كما أن لآل ياسين رأيا علميا مقبولا في مقتلة أبي الطيب المتنبي، إذ تعارف الدارسون على أنه قتل لدى منصرفه من بلاد فارس نحو العراق، في منطقة قريبة من مدينة النعمانية الحالية، وقد خرج عليه فاتك الأسدي في ثلة من قومه للثأر منه، لأشعار في الهجاء قالها فيه وفي قومه، وقد هرب المتنبي إلا أن خادمه ذكرّه ببيت يفخر فيه بنفسه.
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فرجع وقاتل حتى قتل مما تعورف عليه! غير أن لآل ياسين رأيا مغايرا ومقبولا في هذه المقتلة، وتاريخ أدبنا العربي مكتظ بمثل هذه المرويات المتهافتة، ولولا الإطالة لذكرت بعضها، آل ياسين ينسب المقتلة للصاحب بن عباد، فالمتنبي بعد منصرفه من مصر حيث كان كافور الأخشيدي هاجيا إياه، ذهب إلى بلاد فارس، ومدح عضد الدولة بن بويه، وكذلك مدح ابن العميد، لكنه لم يمدح الصاحب بن عباد – وللأندلس صاحبها بن عبادها – كذلك- وهذا من غرائب وعجائب المصادفات، أن يحمل شخصان اسما واحدا مع فارق الأوطان والأزمان- فالمتنبي لا يمدح من يطلب المدح ويتطلبه، بل يرغب في إطلاق مديحه أنى شاء، لذا أضمرها في نفسه الصاحب بن عباد، فدس له في طريقه من يقتله، لا كما اكتظت مراجع الأدب العربي ومصادره بهذه الرواية المتهافتة؛ أي هاجم فاتك بن الجهل الأسدي ركب المتنبي الآيب من بلاد فارس، يوم الأربعاء لست بقين وقيل لثلاث وقيل لليلتان بقيتا من شهر رمضان المبارك عام 354 ه‍.

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول د. حسين جبار ابراهيم:

    تحياتنا لكم ولكاتب هذه المقالة الشيقة والممتعة والمفيدة الناقد العراقي شكيب كاظم

إشترك في قائمتنا البريدية