تتوفر في اللغات الأوروبية خارج الأصل اليوناني، عشرات (لأنها في الواقع تقارب الـ200) من الترجمات لمختارات أو أعمال كاملة للشاعر اليوناني الكبير قسطنطين كافافيس (1863 –1933)، أو كافافي في نطق آخر ليس أقلّ شيوعاً؛ بينها، بالطبع، عدد غير قليل باللغة العربية، وكان الشاعر العراقي الكبير الراحل سعدي يوسف أحد روّاد تقديم كافافيس إلى القارئ العربي، حتى إذا كان قد ترجم عن الإنكليزية. ومؤخراً صدرت القصائد الكاملة التي كان أدموند كيلي قد ترجمها وصدرت في طبعات متعاقبة، قبل أن تقرر منشورات جامعة برنستون أنه آن الأوان لإصدارها في طبعة إلكترونية، وهي المناسبة التي حرّضت على كتابة هذه السطور. وهكذا، وفي اللغة الإنكليزية وحدها، بات يتوفر ما لا يقلّ عن 15 إصداراً ضمن نسق الأعمال الكاملة، وأضعافها تحت تصنيف المختارات، وأضعاف أخرى مضاعفة ذات تقسيمات تتبع الموضوعات (بورتريهات متخيّلة، قصائد تاريخية، إيثاكيات، إغريقيات، إيروتيكيات، مخطوطات…).
ثمة موضوع كهيمن، لا تخفي هذه السطور انحيازها إليه بصفة خاصة، هو علاقة الشاعر بمدينة الإسكندرية؛ مسقط رأسه، والحاضرة التي تجسدت بقوّة في العشرات من قصائده، وليست مبالغة أنه اخترق الكثير من أعماق روحها الكونية ومدلولاتها العديدة الحسية مثل المجازية، والواقعية مثل الرمزية؛ وعلى نحو قد يكون مميّزاً تماماً في قصيدة «الإله يخذل أنطونيو»، التي اختار يوسف سطرها الأخير («وداعاً للإسكندرية التي تفقدها») عنواناً لـ120 قصيدة من كافافيس، وكان لها أثر حاسم ومديد في توجيه ذائقة الشعراء والشعر والشعرية منذ صدورها أواخر سبعينيات القرن المنصرم. وأبعد من المدينة، بما تختزنه عناصرها من ثراء فريد، اعتاد كافافيس إجراء مقارنات مع إرث الفراعنة عموماً، وسلالة الملكة كليوباترا الثالثة خصوصاً؛ والمرء يكتشف الكثير من هذه التمارين (لأنها مزجت الجدّ باللهو) في الهوامش التي دوّنها الشاعر على الصفحة الأولى من مسوّدة قوامها أربع صفحات، تعكس قسطاً مدهشاً من حرصه على البحث في بطون كتب التاريخ، للتثبت من تفصيل صغير عابر، في قصيدة لا تتجاوز تسعة سطور!
وكان الناقد والمترجم الأمريكي دانييل مندلسون قد مكّن جمهور كافافيس، من غير قرّاء اللغة اليونانية، أن يستكشفوا 30 من مسوّدات الشاعر، صدرت بعنوان «كافافيس: القصائد غير المكتملة»؛ مع إشارة واجبة على الفور: النصوص ذاتها لا تشغل أكثر من 33 صفحة، في حين أنّ مقدّمة المترجم وهوامشه وشروحاته لا تقلّ عن 75 صفحة! هنالك تسع قصائد تدور حول هواجس ذاتية وإنسانية، مألوفة في موضوعات كافافيس، و21 قصيدة، غنائية النبرة رغم أنها تتناول شخصيات تاريخية؛ أجملها، في يقين هذه السطور قصيدة «زنوبيا»، وفيها يقول: الآن وقد صارت زنوبيا ملكة على أراض شاسعة واسعة/ الآن والأناضول قاطبة تهيم بها عجباً/ وبات الروم أنفسهم يخشون بأسها/ ما الذي يحول دون اكتمال عظمتها؟/ وما الذي يستوجب احتسابها امرأة آسيوية؟». القصيدة آنفة الذكر، ذات السطور التسعة، تتألف من 55 كلمة، لكنها استدعت من مندلسون قرابة 370 كلمة في التعليق على مشكلاتها الطباعية والدلالية، وإسنادها إلى شعرية كافافيس، وإلى لغته ومجازه وتقنياته.
المسودات تغطي جغرافيات شتى، يونانية قديمة وأخرى حديثة؛ لكنها تمرّ ببقاع سورية وهندية وتركية ومقدونية، فضلاً عن مدن مثل مرسيليا وروما وأنطاكيا وقرطاجة، و… لا بدّ من الإسكندرية، بالطبع، على نحو يشدّد السؤال الكبير القديم: أي إسكندرية تلك التي سكنت شعر كافافيس؟ أهي إسكندرية ذلك المنفيّ الهيلليني القادم إليها من القسطنطينية، مثلما تلتقطه قصيدة «المنفيّون»، بعد ألف عام من أوج بهائها في عصور البطالمة، وقبل ألف عام من ولادة كافافيس في شارع شريف باشا، حين كانت الجالية اليونانية السكندرية تعيش عصرها الذهبي؟ أم هي «الإسكندرية التي ما تزال تسير على هواها، إسكندرية»، كما يقول المنفيّ حين يرفع المكان إلى مصافّ مدينة المخيّلة، والمدينة التي تستجيب أكثر للرمز الأعلى وللنمط الكوني؟ أم هي الإسكندرية التي لا يكمن سرّها في ما كانت، أو ما أصبحت عليه في الماضي السحيق، أو الوسيط أو الحديث؛ بل في أنها «مخلوقة مدن شعرية نُحتت على صورتها، وتحاكيها ما أمكن، أو حتى ما يجب أن يكون، في الجوهر»، كما يرى الناقد الأمريكي إدموند كييلي، في كتابه الممتاز «إسكندرية كافافي: دراسة في أسطورة متواصلة»؟
إنها قد تكون هذه التمثيلات كلها، التي لا تطمس البتة ذلك المعطى الأثير الذي عكسته رائعة كافافيس الأشهر «المدينة»، في ترجمة يوسف أيضاً: «لن تجد بلاداً أخرى/ لن تجد شاطئاً آخر./ هذه المدينة ستتبعك./ ستطوف في الشوارع ذاتها./ وتهرم في الجوار نفسه،/ وتشيب في هذه المنازل نفسها./ سوف تنتهي دائماً إلى هذه المدينة./ فلا تأملن في فرار:/ لا سفن لك/ ولا سبيل./ ومثل ما خرّبتَ حياتك هنا/ في هذه الزاوية الصغيرة،/ فهي خراب أنّى حللت». وهذه، أغلب الظنّ، هي الحاضرة التي قادت كافافيس إلى مجازات أخرى عن الساحل السوري، وأنطاكيا، وصيدا، وبيروت… حيث يتضح أنّ بعض السرّ، والسحر، في هذه المدن الكونية يكمن في ترحالها بالمخيّلة إلى مطلق مديد من الاستعارة المفتوحة.
أعتقد أن شرارة “كافافي” الأولى في عالم الأدب العربي الحديث كانت من الراحل إدوارد سعيد حين تحدث عنه في مقاله “القاهرة والإسكندرية” في نهاية الستينيات (على ما أظن) – وقد ضُمَّ هذا المقال مع مجموعة مقالات “تأملات في المنفى” فيما بعد (وبالمناسبة، هناك من قدموا من قمامات اتحاد الكتاب صاروا يتفذلكون لا بل “يتكذبنون” على صفحاتهم “الفيسبوكية” بعنواوين من مثل “تأملات في الحب” إلخ إلخ)..
ما علينا، أعتقد أنه لو لم يتم “اكتشاف” قسطنطين كافافاي من لدن إدوارد سعيد في ذلك المقال وفيما تلاه لما كان الأول معروفا في عالم الأدب العربي الحديث أصلا، ولما ترجم سعدي يوسف نفسه “وداعا للإسكندرية التي تفقدها”، ولما قال حتى محمود درويش في قصيدته الشهيرة “بيروت” مايلي:
/…
وسألتُ كافافاي: لماذا؟
قالَ لي: لا تتركِ الإسكندريةَ باحثًا عن غيرِهَا!
/…
ووجدتُ كافكا تحتَ جلدي نائمًا
وملائمًا لعباءَةِ الكابوسِ – والبوليس فينا!
***
أعتقد أن شرارة “كافافي” الأولى في عالم الأدب العربي الحديث كانت من الراحل إدوارد سعيد حين تحدث عنه في مقاله “القاهرة والإسكندرية” في نهاية الستينيات (على ما أظن) – وقد ضُمَّ هذا المقال مع مجموعة مقالات “تأملات في المنفى” فيما بعد (وبالمناسبة، هناك من قدموا من قمامات اتحاد الكتاب صاروا يتفذلكون لا بل “يتكذبنون” على صفحاتهم “الفيسبوكية” بعنواوين من مثل “تأملات في الحب” إلخ إلخ)..
ما علينا، أعتقد أنه لو لم يتم “اكتشاف” قسطنطين كافافاي من لدن إدوارد سعيد في ذلك المقال وفيما تلاه لما كان الأول معروفا في عالم الأدب العربي الحديث أصلا، ولما ترجم سعدي يوسف نفسه “وداعا للإسكندرية التي تفقدها”، ولما قال حتى محمود درويش في قصيدته الشهيرة “بيروت” مايلي:
/…
وسألتُ كافافاي: لماذا؟
قالَ لي: لا تتركِ الإسكندريةَ باحثًا عن غيرِهَا!
/…
ووجدتُ كافكا تحتَ جلدي نائمًا
وملائمًا لعباءَةِ الكابوسِ – والبوليس فينا!
***
أعتقد أن شرارة “كافافي” الأولى في عالم الأدب العربي الحديث كانت من الراحل إدوارد سعيد حين تحدث عنه في مقاله “القاهرة والإسكندرية” في نهاية الستينيات (على ما أظن) – وقد ضُمَّ هذا المقال مع مجموعة مقالات “تأملات في المنفى” فيما بعد (وبالمناسبة، هناك من قدموا من قمامات اتحاد الكتاب صاروا يتفذلكون لا بل “يتكذبنون” على صفحاتهم “الفيسبوكية” بعنواوين من مثل “تأملات في الحب” إلخ إلخ)..
ما علينا، أعتقد أنه لو لم يتم “اكتشاف” قسطنطين كافافاي من لدن إدوارد سعيد في ذلك المقال وفيما تلاه لما كان الأول معروفا في عالم الأدب العربي الحديث أصلا، ولما ترجم سعدي يوسف نفسه “وداعا للإسكندرية التي تفقدها”، ولما قال حتى محمود درويش في قصيدته الشهيرة “بيروت” مايلي:
/…
وسألتُ كافافاي: لماذا؟
قالَ لي: لا تتركِ الإسكندريةَ باحثًا عن غيرِهَا!
/…
ووجدتُ كافكا تحتَ جلدي نائمًا
وملائمًا لعباءَةِ الكابوسِ – والبوليس فينا!
***