الانتحار… شهقة اليائسين

حجم الخط
2

كم من المرات وقف الكثيرون منا على حافة بناء شاهق، أو جرف صخري أو مفيض سد مائي، وهمسنا لأنفسنا ماذا لو رميت بنفسي من هنا؟ أراهن أن الكثيرين ممن يصفون أنفسهم أصحاء نفسيا، راودتهم تلك الفكرة، فكرة التخلص من الحياة!
أي رسائل تصلنا ولا تصلنا من المنتحرين؟ رسائل خلاصهم مما نحن به جاهلون، رسائل عتب ومناجاة، وتوسل لتغيير حياة، لكنهم يتركوننا ونحن نفرد أوراقهم في حيرة وصدمة وتعاطف، قد نصل إلى الشماتة والاستنكار والتكفير ربما. لكن في تلك اللحظة تتربع العتمة الحزينة على عرش المبررات والتحليلات، لأننا نحيا لحظة أخيرة معهم، لحظة التناقض بين مشاعر الحبّ والكراهية.
عندما نسمع بخبر انتحار أحد ما، نردد كلمات اتهام وشفقة: «يا حرام!» «مجنون!» لكن هل عانى المنتحرون من اضطرابات عقلية حقيقية؟ لا يمكن تبيان أثر الاضطراب العقلي داخل كل حالة انتحار، ولا يمكن التعميم، وإن تم إثبات أن الانتحار عبارة عن جنون، سيبدو كل منتحر مجنونا. لكن هل يوجد جنون الانتحار؟

الميل إلى الانتحار

إذا ما شكل الانتحار نوعا من الجنون، سيكون جنونا جزئيا وقاصرا على حقل وحيد، ما يميز الجنون هو الهذيان. وفي الطب العقلي يعتبر الهذيان نوعا من الهوس الأحادي، وهو مرض يكون فيه وعي المريض سليما تماما إلا في جانب واحد: إنه يظهر آفة محددة بجلاء.

الهوس الأحادي

الهوس الأحادي هو انفعال مفرط ضمن نسق الميول. يتميز بحدة بالغة تستحوذ على الذهن وتجرده من حريته. مثلا، يغدو الطموح مرضيا وينشحن بهوس العظمة. ونتذكر هنا فالريت وهو مهووس أحادي ديني، حيث يقول عن نفسه إنه موحى إليه من الرب، وبأنه مكلف برسالة إلهية، وهو يحمل للعالم دينا جديدا. هذه الفكرة غاية في الجنون. عند سؤاله بمزيد من العناية، سرعان ما نكتشف أن لديه أفكارا مرضية أخرى، سيكون لديه ميل إلى التعاظم، فيجد نفسه مدعوا إلى إصلاح الدين والمجتمع. وإن لم يكن لديه ميل إلى التعاظم ستجد لديه أفكارا وميولا إلى الجبن والفزع والتذلل.
لنرى ما يقوله العلماء عن أنواع الانتحار:
الانتحار الهوسي: يعزى هذا الانتحار إما إلى هلوسات أو تصورات هذيانية، فالمريض ينتحر تخلصا من خطر أو فضيحة متخيلة، أو استجابة لنداء خفي آمر تلقاه من أعلى. الأفكار والمشاعر تتابع في ذهن المهووس بسرعة خارقة، على غرار دوامة متواصلة.
الانتحار السوداوي (الاكتئابي): يرتبط بحالة شاملة من الكرب والضيق. تؤدي بالمريض إلى فقدان التقدير الصحيح للعلاقات التي تربطه بالناس والأشياء من حوله، لا تغريه الأفراح، يرى الدنيا سوادا كالحا. تبدو له الحياة باعثة على السأم والألم. يتميز الهوسي بطابعه المزمن والعنيد. يظهر المرضى دأبا ومثابرة في سعيهم وراء أهدافهم، ويظهرون دهاء لا يصدق.
الانتحار الوسواسي: يحدث بسبب فكرة ثابتة عن الموت تستحوذ على ذهن المريض، ويطلق عليه الانتحار الحصري، لأن المريض يكون ضيّق الصدر شاعرا بحصر يتفاقم كل يوم. حين يقدم المريض على قتل نفسه، يتوقف الحصر وتعاوده السكينة، وإن أخفقت المحاولة فإنها تكفي أحيانا في تسكين الرغبة المرضية فترة زمنية.
الانتحار الاندفاعي: ينتج عن نزوة مفاجئة يتعذر كبحها على الفور. يتميز بتلقائية حقيقية، مثل المشي على حافة جرف صخري تولد فكرة الانتحار فورا، وحتى عند السليمين منا، فكم مرة وقفنا على حواف كثيرة ونطقنا عبارة تجمعنا، «ما بدي انتحر».

رغبات السلوك الانتحاري

يحمل المنتحر في نفسه قاتلا وقتيلا، وتتنازعه القوتان، وتتناهبه مشاعر الإثم والخلاص، الراحة والكرب، الجريمة والعقاب، إنه يحمل في نفسه قابيل وهابيل، وتتغلب عليه في كثير من الأحيان جينات القاتل (قابيل) وهنا ينطوي الجناح أو ينكسر ويرحل، حاملا سرا رهيبا ننبري نحن في الكتابة عنه. في الموقف الانتحاري تتنازع الإنسان قوتان: قوة القاتل وقوة القتيل. يُرجع كارل مننغز السلوك الانتحاري إلى مجموعة من الرغبات:
1. الرغبة في القتال (عدوان)
2. رغبة الفرد في أن يقتل نفسه (عقاب)
3. الرغبة في أن يموت (استسلام)

أسباب الانتحار

وكم هي كثيرة ومن نحن لنصنف عذابات الآخرين؟
وفق إميل دوركايم يُقدِم الأشخاص على الانتحار نتيجة تكسّر الروابط الاجتماعية والانعزال. الصراع بين الداخل والخارج، وسيطرة المجتمع على الفرد. ويقسم دوركايم حالات الانتحار وفقا للموقف الاجتماعي:
1. الانتحار الأناني: المنتحر معزول ليس له ارتباطات. يغرق في القلق والخوف، فما من دعم اجتماعي. الشعور القهري بالعزلة والاغتراب هو عامل أساسي غالبا في الدفع في اتجاه السلوك الانتحاري.
2. الانتحار الإيثاري: المنتحر شديد الانتماء لمجموعته. يضحي بنفسه من أجلها، مثل الجندي الذي يضحي بنفسه فداء لتراب وطنه، أو قضيته، أو عقيدته، ينبثق من تكامل اجتماعي وروابط اجتماعية صلبة.
3. الانتحار الفوضوي: نتيجة الخلل الذي يعم النظم الاجتماعية، نتيجة تغيرات اجتماعية مفاجئة وسريعة، تهز الأعراف والقيم والمعايير الاجتماعية السائدة.
إن ابتعدنا عن مواقفنا الشخصية التي قد نصرح بها إن كانت مقبولة ونخفيها أغلب الأحيان إن كانت تعارض السائد، فما هو موقف المجتمع باعتباره حاضنة لذلك البائس؟ تسامح؟ أم تكفير؟ شجب ورفض؟ أم تعاطف شره مجاني؟ نعم نرى التسامح في صدى العمليات الانتحارية، فمنا من يسمي المنتحر «شهيدا» ومنا من يسميه «قاتل نفسه» ببساطة وتنطبق عليه أحكام المنتحر. وقد يمسي رمزا مثل البوعزيزي، الذي أصبح رمزا لانتفاضة المضطهدين ضد فساد الطبقة الحاكمة. أشيد به واعتبر عمله بطوليا وسموه الشهيد. لكنه شكّل ظاهرة انجرف وراءها الكثيرون في الجزائر ومصر على وجه الخصوص، هل كان الأمر استعراضا أم استعطافا؟ احتجاجا أم انتقاما؟ أم محاولة لأخذ فترة استراحة ونقاهة تحت أعين الصحافة؟ لكن هل يمكن أن نسمي ما حدث في الجزائر ظاهرة أيضا؟ أم أنها محاكاة؟ في الجزائر عام 2012، فُجع أهالي قرية في الريف الجزائري بانتحار 15 حدثا لا يتجاوز أكبرهم 14عاما، خلال 3 أسابيع. والسبب في ذلك كان المسلسل الكرتوني «المحقق كونان» الذي أبرز كيف يمكن لشخص أن يقتل نفسه ويعود بعدها للحياة. «مجلة السفير» 26 إبريل/نيسان، 2012» لماذا نتسامح مع شعوب مختلفة عنا؟

نقرأ بإعجاب واضح وتسامح أوضح عن الانتحار لدى الرومان والإغريق ونزخرف قول أفلاطون: «الفلسفة تأمل في الموت». «أن أموت، إذن أنا موجود». وبجانب تلك العبارات الموغلة في القدم والوضوح نكتب أيضا ما يعارض ذلك متفقين مع المنفلوطي في كتابه النظرات: «الانتحار منتهى ما تصل إليه النفس من الجبن والخور».

نحن نقدر شعب الأسكيمو حيث يُقدِم المرضى وكبار السن الذين يشعرون بأنهم أصبحوا عالة على ذويهم على الانتحار، بأن يدفنوا أنفسهم في الثلج. نتسامح مع اليابانيين الذين يرون أن الانتحار شرف يحترمونه كوسيلة للتكفير عن الأخطاء والفشل، وكنوع من الاحتجاج وهذا عائد إلى حقبة الساموراي. نقرأ بإعجاب واضح وتسامح أوضح عن الانتحار لدى الرومان والإغريق ونزخرف قول أفلاطون: «الفلسفة تأمل في الموت». «أن أموت، إذن أنا موجود». وبجانب تلك العبارات الموغلة في القدم والوضوح نكتب أيضا ما يعارض ذلك متفقين مع المنفلوطي في كتابه النظرات: «الانتحار منتهى ما تصل إليه النفس من الجبن والخور».
إلا أن الكثيرين منا يصطف مع تحريم الأديان له، فالكنيسة التي حرمت الانتحار ووصفته عام 452 بأنه من عمل الشيطان. كذلك الإسلام حرمه بعبارات صريحة: «يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم، ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بعباده رحيما». (سورة النساء-الآية 29). لكن لا ننسى أن الدين يتطلع إلى الهيمنة على الضمائر ويطالب العقل بالخضوع الأعمى.

جمالية الانتحار

غريب أن أضع هذا العنوان لفعل يوصف بالشنيع، لكننا نستمتع بحزن وندخل حالة وجدانية نظن معها بأننا قادرون على إنقاذ حياة أحد المبدعين عندما نقرأ ماذا كتب قبل انتحاره، وعندما تُنشر أسراره نخبئها بسذاجة طفل يخفي بطيخة بيده الصغيرة. لكن الجمال يكمن في ما يلي الحدث الرهيب، أي الإخراج الجميل نثرا وشعرا وقصصا ورسما وأفلاما. كلوحة تجرع سقراط للسمّ، الشهيرة بألوانها الجميلة. نقرأ ونعيد قراءة فرجينيا وولف علنا نكتشف أكثر، ونثقل جيوبها بالحجارة ونغرق معها. تحملنا أفلام الساموراي اليابانية على الانحناء احتراما لمن ينهي حياته للتكفير عن الخطأ والفشل، بعيد عنا كوكب اليابان! وقد تعجبنا قصص المحاربين الدنماركيين الذين يرون أن الموت في الفراش عار، لذا تراهم ينتحرون كي ينجوا من هذا العار. ألا يشبهون قصصا قُرأت لنا في التاريخ العربي؟ تصبح الأرملة التي تنتحر طواعية في الهند لتوافي زوجها أيقونة في الإخلاص! وسلفيا بلاث وكلماتها الجميلة:
«الموت فن
على غرار كل ما عداه
وإني أمارسه بإتقان…
أمارسه حتى يصير جهنم
أمارسه حتى يبدو حقيقة
في وسعكم القول إنه دعوتي»
وصل الانتحار إلى الكوميديا، ففي إحدى لوحات مسلسل «بقعة ضوء»: شابان مقدمان على الانتحار يخطان بيانا انتحاريا، لكنه أشبه ببيان صحافي… خطا وصية مترعة بالخوف من البوح بكلمات لا يرضى عنها رجال الأمن… فالخوف من رجال الأمن أكبر من الخوف من الانتحار!
ألا يُقدّم الانتحار مخرجا من ورطة الحياة؟
قد تكون الحرية الوحيدة التي مارسها المنتحر هي تنفيذه حكمه بنفسه أو توقيع صك تحرره من هذا العالم، ستبقى أسئلتنا معلقة بلا إجابات لأن كل ما لدينا هو إحصاء لآراء كونها المهتمون والمحققون حول هذه القضية، ويبقى بطلها صامتا. وتبقى شهقة اليأس لياسر ثابت تعنون الموضوع بخط عريض.

كاتبة من سوريا

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول حسين عبدالجليل:

    ليس هنالك رومانسية في الإنتحار ياسيدتي , و لندع الأديان التي تحرم الإنتحار لكون “الدين يتطلع إلى الهيمنة على الضمائر ويطالب العقل بالخضوع الأعمى.” كما إدعت الكاتبة, ولننظر لبعض الدراسات العلمية الغربية حول ظاهرة ماياشاهده المنتحرون المقتربون من الموت .

    حسب ماذكره مؤلفوا كتاب/دراسة “العقل اللأمحدود Irreducible Mind” وهم مجموعة من أستاذة علم النفس بجامعة فرجينيا فان نسبة نادرة ممن مروا بتجربة مقاربة الموت NDE نتيجة محاولتهم للأنتحار يعاودون محاولة الانتحار مرة أخري وذلك مقارنة بأؤلائك الذين تفشل تجربة أنتحارهم الاولي دون أن يمروا بتجربة الاقتراب من الموت.

    يقول الطبيب الأمريكي رمون مودي في كتابه (حياة بعد حياة) أن بعض المقتربين من الموت أخبروه أنهمهم في ذلك العالم العالم البرزخي الذي وجدوا أنفسهم فيه بعد مقاربتهم للموت بعد محاولة الإنتحار شاهدوا و عرفوا أن المنتحرين هربنا من ألما ما أو عذابا ما, فان ذلك الالم والعذاب الذي هربوا منه أنتحارا لن ينتهي في ذلك العالم البرزخي, بل سيزداد و سيشاهدوا نتيجة فعلتهم تلك علي الآخرين . قالوا أن سبب عذابهم هناك كان لأنهم هربوا من مهمتهم الدنيوية التي كات عليهم أكمالها و أنهم كانوا كمن يقذف او يرمي الهدية التي منحها له الرب .

  2. يقول حسين عبدالجليل:

    في كتاب آخر له بعنوان “النور الماورائي” The Light Beyond يقول ريمون مودي أن دكتور بروز جريسون , والذي يعمل كطبيب نفس طواريء بجامعة كونتكيت الامريكية, قام باجراء دراستين علي من حاولوا الانتحار من قبل (باعتبار أن نسبة عالية ممن يفشلون في محاولة أنتحارهم الاولي, يعاودون المحاولة مرة أخري. ) فوجد أنه لاأحد ممن مر بتجربة الاقتراب من الموت في محاولة انتحاره الاولي قد عاود المحاولة مرة أخري . يحكي مودي عن تجربة رجل حاول قتل نفسه حزنا علي زوجته التي ماتت وبعد أن تم أنقاذه حكي بعض ماحصل له في العالم البرزخي حيث قال: لم يأخذونني للمكان الذي ذهبت اليه زوجتي ولكنهم أخذوني لمكان بشع , وهناك ندمت ندما شديدا علي أنتحاري.

إشترك في قائمتنا البريدية