حرّاس اللغة تسمية قديمة لمن نصّب نفسه ذائدا عن حمى اللغة العربية لاعتقاد منه أنّها في خطر، وأنّ غزاتها كثر وأرضها المنيعة مهددة، ولذلك يعيش هؤلاء الحماة من وهم لا تعترف به اللسانيّات ولا أيّ تفكير علميّ هو وهم حراسة الإنجاز وتصويب اللحن والتنبيه في كلّ مرّة إلى أنّ ذلك اللحن سيعصف بشراع العربية ويغرق مركبها. اللسانيّات لا تداوي هذا الوهم لأنّها علم، والعلم لا يعطي دواء للسحرة.
حرّاس اللغة الوهميّون معياريّون لا يؤمنون بأنّ هناك علما اسمه اللسانيات، هم لا يؤمنون بأنّ وراء كلّ علم، نظريّات متطورة، هم يعرفون فقط الأمر العاري من التفكير السببي: قلْ ولا تقلْ؛ أو: هذا الصواب فاعرفْهُ. لا سبيل إلى مناقشتهم فهم أهل سماع يروون اللغة عن أعلام يعتقدون أنّهم فوق العلم، وغالبا ما لا يؤمن هؤلاء بتطوّر اللغة، وهم يعتقدون أنّ العربية ينبغي أن تكون في مأمن من التعامل مع اللغات الأخرى، لأنّ في ذلك إضرارا بها، تفكير كهذا لا يحمي اللغة، بل يحرمها لو نُفّذ تعاملها الحيوي مع اللغات المجاورة؛ إذ لا توجد لغة في عزلة. مع هؤلاء الحرس الحامين حرسٌ قدامى هكذا سمّوهم ولم يكونوا غير نحاة ولغويّين كبار حبّروا شيئا مهمّا ورحلوا.
ما زال سيبويه يمثّل عند الناس رمزا للنحو العربي، على الرغم من أنّه كان تلميذا لنحاة كبار روى عنهم، من أمثال الخليل بن أحمد الفراهيدي ويونس النحويّ والأخفش الأكبر أبو الخطاب وعيسى بن عمر الثقفي. وممّا يروى عن سبب تعلّم سيبويه النحو، أنّه كان كاتبا عند من كان يستمليه ذات مرّة، فاعتقد سيبويه أنّ مستكتبه لحن فصوّبه فردّ عليه مستكتبه بما فهم منه أنّه جاهل بالقاعدة. فكسّر سيبويه القلم وأقسم أن يتعلّم العربية علما لا يمكن أن يُخطّأ فيه. وبعد أن ألّف سيبويه الكتاب وصار رئيس مدرسة البصرة في النحو خطّأه الكسائي وتلامذته في قصر الرشيد في المسألة المعروفة بالزنبوريّة.
قبل أن نعيب الخطأ، أو اللحن علينا أن نعرف طبيعة اللغة التي يتكلمها من أخطأ وعلاقته بها، فمن المستحيل أن يخطئ من تكلّم لسانه الأمّ ولا يخطئ إلاّ من أنجز لسانا غير لسانه الأمّ والخطأ في هذا اللسان طبيعي وقابل للإصلاح ذاتيّا أو بواسطة، وهذا ما يحدث للعربية الفصحى.
هذا عن خطأ المتكلم، أمّا خطأ العالم أو ناقل اللغة، فأمر آخر لا علاقة له بخطأ المتكلّم، هو كأيّ خطأ عالم أو ناقل علم، إمّا أنّه راجع عن وهم وهو قابل للإصلاح، أو عن سهو وهو قابل للتدارك. علينا أن نميز في خطأ العالم باللغة بين مستويات ثلاثة لا يفصل بينها: خطأ أن يلحن سيبويه مثلا وهو من هو، أو أن يلحن أستاذ اللغة أو اللسانيّات مثلي في درس. يمكن أن يلحن من ينجز الفصحى عالما بها أم ناقلا هذا وارد، لكنّ العيب ألاّ يصلح نفسه بعد الوعي بالخطأ، وهذا لا يحدث عموما. والخطأ الثاني هو خطأ في النظريّة وهذا ينبغي أن نوضّحه فإن يعتبر الكسائي وتلامذته أنّ في قول سيبويه خطأ هو اتهام غير دقيق لأنّ سيبويه استعمل وجها ممكنا من الأداء اللغويّ وله تخريجه العلميّ فيه وهذا ليس خطأ، بل هو مسألة خلافية كالمسائل التي بين البصريين من النحاة والكوفيين. هذه المسائل الخلافيّة في العلوم القديمة أو الحديثة، ينبغي أن لا يدخل فيها إلاّ من كان في دائرة الاختصاص، لذلك أعجب ممّن يضع اسم الشيخ ابن تيمية في خلافات علميّة مع سيبويه، فليس الجامع بينهما لا الاختصاص ولا الزمان، بل إنّ ممّا ينسب إلى ابن تيمية هو مواضيع قديمة في الخلافات البصريّة الكوفيّة. المستوى الثالث من خطأ العالم باللغة (سواء أكانت نحوا أم معجما) هو ما سنسميّه أخطاء في الرواية العلمية، وهذا ما سنصرف له العناية في القسم اللاحق من الكلام.
مثال ذلك ما أورده أبو منصور الأزهريّ صاحب تهذيب اللغة من إجماع اللغويّين (أي جامعي الوحدات المعجمية) على أنّهم يقولون (أفْرَخَ رَوْعه) بفتح راء (روع) بدلا من ضمّها وهي الصواب في قولهم (أفرخَ رُوعُه). العبارة (أفرخ روعه) التي تعني ذهب روعه أي خوفه وفزعه، تروى عن معاوية بن أبي سفيان ويبدو أنّها من استعمالاته التي تفرّد بها، أو من إبداعاته الاستعاريّة. فقد أورد صاحب لسان العرب أنّ «هذا المثل لمعاوية كتب به إلى زياد، وذلك أنّه كان في البصرة وأنّ المغيرة بن شعبة على الكوفة فتوفّي بها، فخاف زياد أن يولّي معاوية عبد الله بن عامر مكانه، فكتب إلى معاوية يخبره بوفاة المغيرة ويشير عليه بتولية الضحّاك بن قيس مكانَه؛ ففطن له معاوية وكتب إليه: قد فهمتُ كتابَك فأفْرِخْ رَوْعَكَ أبا المغيرة؛ وقد ضممنا إليك الكوفة مع البصرة.»(لسان العرب، 8/ 135).إنّ ما يوقع في الخطأ تقارب الأبنية بين (رَوْع) و(رُوع) فالرَّوْع هو الفزع والرُّوع هو موضع الروع وهو القلب (السابق) فبذلك يعني أفرخ رُوعك أخرج من قلبك ما به من روْع. فهذا الكلام وبعبارة معاصرة استعارة أنطولوجية جُعل القلبُ فيها وعاءً ويمكن تسمية الاستعارة باستعارة (القلب- وعاء)؛ بينما كانت الاستعارة التي فيها خطأ تدور في فلك استعاريّ آخر هو (الجسد- وعاء) وهي استعارة أعمّ لأنّ المطلوب هو إفراغ الروع وإسكان الروح لتكون الاستعارة (الروح – وعاء). أنت ترى أنّه لا يوجد خطأ لغويّ في هذا السياق؛ بل إنّ فيه مسلكين استعاريَّيْن اعتبر الأزهريّ أنّ المسلك الصحيح هو ما رواه. وما يدعمه هو قول على قول الشاعر ذي الرّمة: (جَذْلانَ قدْ أفرختْ عن رُوحِهِ الكُرَبُ). فلكأنّ قرب عهد ذي الرمّة من معاوية يقوّي هذا المعنى تداوليّا. لكن ماذا لو كان ذو الرمّة قد أخذ هذا المعنى من شعر أقدم عهدا؟ نحن لن نستطيع تتبع كلام العرب القدامى تاريخيّا، لأنّ الرواية نفسها يمكن أن تتغيّر. صحيح أنّ العروض يمتّن اللغة فيجعل التحريف قليلا إذا ما كان اللفظان مختلفين في البنية المقطعية، لكنّ ذلك ليس مضمونا في (رَوْع ) و(رُوع) فمقطعاهما الأوّلان طويلان، بل يمكن أن يصل الخلط إلى (أفرخ) التي يمكن أن تروى خطأ (أفرغ) فلها نفس البنية الصيغية والمقطعيّة ولها اشتراك دلاليّ مع (أفرخ). هناك شيء يحفظ الكلام هو المعاني المستعملة ونوعيّة الثقافة في علاقتها بالاستعارة. عبارة (أفرخ عن روعه الكرب) يحفظها استعمال العرب معنى أفرخ في سياق بدوي: أفرخ البيضة إذا خرج الولد منها. هذه الجملة أقرب إلى الاستعمال القديم لأنّها واقعة في نسق تستعار فيه تجربة الخوف من تجربة التفريخ المعلومة. لكنّ جملة (أفرغ عن روحه الكرب) تبدو أقرب إلى الاستعمال اليومي المعاصر؛ فالإفراغ معنى أقرب من الإفراخ والروح أقرب إلى الاستعمال من الروع، ولهذا القرب يمكن أن يحدث تحريف في الرواية (لا نتحدّث عن الشعر) بل عن استعمال الكلام عند المعاصرين لأنّهم أميل إلى حقول إدراكية قريبة من ثقافتهم مثلما كان الكلام عند البدو القدامى أقرب إلى ثقافتهم.
ما دمنا في السياق الثقافي المختلف يمكن أن نترك للقرّاء في خاتمة هذا المقال الحريّة في أن يفهموا هذا البيت القديم (رَائِعَةٌ تَحْمِلُ شَيْخاً رائعَا// مُجرِّبا قد شَهِدَ الوَقَائِعَا). لا تسقط من اعتبارك ما تعرفه عن معان رائعة لكنّها مسندة إلى الفرس؛ ولا تنس أنّ الرائع ما راعك أي أخافك أيضا، وليس من هجم عليك ببهائه فقط. لكلّ عصر رائعته ورائعوه. صعوبة القراءة وروعتها أن تقرأ النصّ بلغته لا بلغتك .. ستحتاج وأنت قلق في القراءة إلى من يفهمك.. احذر أن تتجه إلى من يدّعي أنّه يحمي اللغة فإنّها ربّما تقوّل أيضا على البيت.
أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسيّة