تتخبط باريس في خياراتها تجاه انقلاب النيجر، الذي يهدد مصالحها في البلد الافريقي الفقير، خاصة أن الانقلاب يؤذن بتوسع للجانب الروسي يقضم جزءا جديدا من الكعكة الفرنسية في افريقيا، ويحرك مزاجاً عاماً مناهضاً لفرنسا، ويكشف أوراق نسختها الاستعمارية (الدايت) الخالية من المسؤولية والذنب وقليلة التكلفة.
الفرنسيون ينظرون إلى انقلاب النيجر بوصفه حادثاً عارضاً، ويحاولون فهمه بمعزل عن تقييم أخطائهم، مع أن الأمر يستدعي فقط أن يتوجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى أقرب مرآة في قصره ليشاهد المشكلة في أوضح تجلياتها، فهو يشكل جانباً كبيراً منها، بسياسته وفكره وعقليته والطبقة التي يمثلها.
الافارقة أدركوا أنهم أمام عالم واسع وديناميكي، وأن الفرنسيين سرقوا بجانب ثرواتهم عقوداً من الزمن من رحلة التقدم التاريخي التي كان يفترض أن يعايشوها
في جامعة واغادوغو في بوركينا فاسو، وقف الرئيس الفرنسي سنة 2017 إلى جانب مضيفه الرئيس البوركيني، ومع وجود مشكلة في تكييف القاعة تحدث الطلبة إلى ماكرون يطالبونه بحل لمشكلة الكهرباء، فما كان منه إلا أن بدأ بتقريع الطلبة، ليذكرهم بأن فرنسا لم تعد دولة مستعمرة (هكذا ببساطة) وأن هذه مسؤولية رئيسهم، وبعد أن غادر مضيفه غاضباً، انتقل ماكرون من العصبية إلى السخرية، وعلق على ذلك: لقد غادر.. يبدو أنه يذهب لإصلاح التكييف!
يفتقد الرئيس ماكرون لأمور كثيرة، ولكنه يعايش حالة عوز شديد في خفة الظل، ولذلك أثارت تعليقاته غير الدبلوماسية وغير المهذبة غضباً بين الأفارقة بشكل عام، فالتنصل من المسؤولية يتناقض مع الواقع الذي يشهد تدخلاً فرنسياً ممنهجاً يتحصل على مزايا كبيرة من العقود المجحفة تجاه الأفارقة، التي تعمق الحالة السيئة التي يعيشها معظم المواطنين، خاصة في بلد مثل النيجر التي تقبع بين أفقر دول العالم مع دول مثل بروندي وافريقيا الوسطى، والتي كانت أيضاً مستعمرات فرنسية، بل باستثناء رواندا، لا توجد مستعمرة فرنسية في افريقيا سابقة استطاعت أن تحقق شيئاً من الاستقرار أو التنمية الحقيقية، والمفارقة، أن رواندا بدأت تحقق مشروعها بعد أن حولت لغة الدراسة في مدارسها وجامعاتها من الفرنسية إلى الإنكليزية، هذه مجرد ملاحظة تستحق التأمل. بقيت علاقات فرنسا سيئة بافريقيا، فالفرنسيون واصلوا التشويه المستمر للثقافات المحلية، وشكلوا حالة من انعدام الثقة بين سكان مستعمراتهم، وأفقدوهم هويتهم الخاصة، ليخرجوا إلى العالم بعد الاستقلال من غير مؤسسات مستقرة ومن غير توجهات أو رؤى، وبعد مغادرة الجنود الفرنسيين وصلت مكانهم الشركات التي تحظى بالامتيازات الخاصة، فتراجعت تكلفة الاستثمارات في الثروات المعدنية والطبيعية في المستعمرات، وأصبح الوكلاء المحليون يتحملون المخاطر التي كانت يتعرض لها الفرنسيون المستوطنون في السابق، وفي أفضل الأحوال، أعطى الفرنسيون بعضاً من الاهتمام بالممثلين المحليين في مرحلة ما بعد الاستعمار، فاستقبلوهم بوصفهم رؤساء دول أو سياسيين على مستوى رفيع، وظلوا يركزون على الثقافة الفرنسية التي تطبع تعاملهم، حتى الثائرون على هذا النموذج، عبروا عن ثورتهم وغضبهم ورفضهم باللغة الفرنسية، وبالتقاليد السياسية والفكرية الفرنسية نفسها. بعد ثورة المعلومات والاتصال والانفتاح على العالم لم يعد ممكناً الإبقاء على الافارقة في القميص الضيق نفسه الذي أسسته تقاليد فرنسا الاستعمارية وعملت على صيانته حقبة الاستعمار غير المباشر، فالافارقة أدركوا أنهم أمام عالم واسع وديناميكي، وأن الفرنسيين سرقوا بجانب ثرواتهم عقوداً من الزمن من رحلة التقدم التاريخي التي كان يفترض أن يعايشوها، وتزايدت المشكلة مع التنصل الفرنسي المستمر من المسؤوليات الأدبية التي تحملتها باريس لبعض الوقت، وبأقل تكلفة تجاه المستعمرات السابقة، فالنيوليبرالية أصبحت تركز على الربح المتحقق في المدى القصير وتختزل الدولة الافريقية في صورة منجم يمكن ردمه بعد استنفاد ثرواته.
السياسة النهمة والخالية من أي محتوى أخلاقي، حتى الكاذب والمراوغ، أطلقت موسم الحصاد المر لفرنسا في افريقيا، وفتحت الطريق أمام القوة التي تستطيع أن تعبر عن نفسها على الأرض بصورة عاجلة، لتنقل جزءاً من المعركة مع فرنسا إلى الحدائق الخلفية في افريقيا، بصورة يمكن أن تستنزف فرنسا في المدى البعيد الذي لم تفكر فيه سياسة ماكرون قصيرة المدى بطبيعتها، فالرجل لا يعمل من أجل فرنسا بالمعنى الشمولي الذي يمكن أن يستشرفه أي شخص عندما يسترجع ديغول أو ميتران أو شيراك في ذاكرته، ولكنه يعمل بوضوح من أجل طبقة معينة تتعامل بعقلية منجم المعادن مع كل وأي شيء. لا تعني أحداث افريقيا بعد انقلاب النيجر أن روسيا أو أي قوة أخرى تتقدم بالمعنى الحقيقي، ولا أن فصلاً جديداً من التاريخ سينفتح في افريقيا، لأن النخب نفسها المستعدة لتأجير بلدانها بشكل أو بآخر قائمة، وفعل التأجير بشروط أفضل لا يعني أي شيء بالنسبة لتحقيق التنمية وتحسين معيشة الناس، والمعنى الرئيسي لما يحدث في افريقيا هو وصول فرنسا إلى زاوية حرجة للغاية في وجودها السياسي والثقافي، وهو ما سينعكس على قارة أوروبا بأكملها وعلى تشكل أمزجتها وتعاطيها مع أزماتها الداخلية والخارجية، وهو ما ينذر بأن يكون انقلاب في بلد متواضع وفقير مثل النيجر مفتتحاً لفصل جديد من صراع القوى حول العالم، أو الكلمة البارزة التي يمكن أن توضع بوصفها علامة في مسيرة التطور التاريخي في افريقيا، وأوروبا وبقية العالم.
كاتب أردني