فنّد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الأسبوع الماضي، الشائعات حول تجميد التفاوض بشأن اتفاق تطبيع مع إسرائيل، قائلا لمحطّة «فوكس نيوز» بأن «كل يوم يمر يقربنا أكثر إلى التوصل لاتفاق تطبيع مع إسرائيل»، مضيفا: «هناك دعم من إدارة الرئيس بايدن.. وبالنسبة لنا فإن القضية الفلسطينية مهمة للغاية.. ولدينا مفاوضات متواصلة.. نأمل أن تصل إلى مكان تسهل فيه الحياة على الفلسطينيين وتدمج إسرائيل في الشرق الأوسط». بعد هذه التصريحات رجحت التكهنات قرب التوصّل إلى اتفاق تطبيع بين الدولة الصهيونية والمملكة العربية السعودية، وقد زاد من رجحان كفّة هذه الإمكانية، ما صرّح به الرئيس الأمريكي جو بايدن، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، خلال لقائهما في نيويورك، الذي جرى وليس بالصدفة، بعد بث مقابلة بن سلمان، التي كانت مسجّلة سلفا.
الدينامو المحرّك لمسار التطبيع السعودي ـ الإسرائيلي، هو الاندفاع الأمريكي لاحتواء التغلغل الصيني في المنطقة. فبعد أن بدأت الولايات المتحدة انسحابها من الشرق الأوسط، للتفرّغ للملف الأكبر بنظرها وهو مواجهة تعاظم قوّة ونفوذ العملاق الصيني، دخلت الصين لملء الفراغ، فعادت الولايات المتحدة إلى المنطقة لصد التمدد الصيني فيها. باختصار خرجت الولايات المتحدة بسبب الصين، وعادت بسبب الصين. وما نشهده من حراك أمريكي محموم لإتمام صفقة مع السعودية، يأتي بدافع كبح التقارب الصيني السعودي، الذي أخذ أبعادا لم تتوقّعها واشنطن، خاصة بعد زيارة الرئيس الصيني إلى السعودية، ووساطة الصين في إعادة العلاقات بين طهران والرياض، وانضمام السعودية إلى منظمة البريكس، التي تتزعّمها الصين وأقيمت أصلا من أجل مواجهة الهيمنة الأمريكية.
تحوّر معنى كلمة تطبيع في السنوات الأخيرة، فصار يعني في السياسة العربية: إقامة علاقات عربية طبيعية مع الدولة الصهيونية، من غير التفات لجرائمها تجاه العرب الفلسطينيين. وتشمل هذه الجرائم في ما تشمل: الاحتلال والاستيطان والاغتيالات اليومية والتهويد واستباحة المقدسات وحصار غزة وممارسة العنصرية ومحاصرة الوجود الفلسطيني. لقد نصبت إسرائيل فخّ التطبيع للعرب عبر توظيف مبدأ «الذخرية»، الذي يستند وفق الاستراتيجية الإسرائيلية السائدة، إلى ثلاثة أركان: الأوّل، القوة التكنولوجية ـ الاقتصادية، التي تجعل دول العالم معنية بها، والثاني، القوة الاستخباراتية ـ العسكرية، التي تهم دولا كثيرة، والثالث هو القوّة السياسية، النابعة من علاقة إسرائيل الخاصة بعدد من الدول، والولايات المتحدة خصوصا. وتقوم إسرائيل بتسويق نفسها على هذا الأساس، وقد اقترح رئيس الأركان الإسرائيلي السابق الجنرال جادي إيزنكوط، إضافة مبدأ «الذخرية» إلى عقيدة الأمن الإسرائيلية التي ترتكز على أربعة أركان: الردع والإنذار والدفاع والحسم. والرسالة الفعلية لهذا المبدأ هي أن أي دولة تقيم علاقات مع إسرائيل سوف تستفيد كثيرا، فالدولة الصهيونية كما تردد أبواقها هي «ذخر» لمن يربط علاقة بها ويصادقها. نظريا، قد يغري مثل هذا الكلام دولا فقيرة وضعيفة، لكن المملكة العربية السعودية في غنى عن كل هذا، خاصة أن إسرائيل هامشية اقتصاديا بالنسبة للنظام السعودي، وهي بنظره لا تشكّل خطرا على الأمن القومي للمملكة، وبالتالي فإن «التطبيع» لن يسهم قيد أنملة في أمنها، بل قد يعرّضها لمزيد من المخاطر لما يشكّله من استفزاز لإيران، التي تراه موجّها ضدها. وقد سارع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى الرد على احتمال التطبيع قائلا: «التطبيع مع كيان الاحتلال لا يخدم أمن المنطقة ودولها، بل أمن هذا الكيان وحده».
إذا حصل تطبيع مع السعودية، لا سمح الله، فسيكون ذلك نهاية رسمية وفعلية للصراع العربي الإسرائيلي، كما عهدناه، والمراهنة على الشعوب التي ترفض التطبيع رفضا قاطعا
لا بدّ من القول بأن على إيران أن تراجع نفسها، وكيف ساهمت في «دفش» دول عربية للتقارب مع تل أبيب خوفا منها، مع أن لا شيء يبرر هذا التقارب. كما يتحمّل أصدقاء إيران العرب قسطا كبيرا من المسؤولية، لأنّهم لم يقوموا بواجبهم في كبح الانفلات الإيراني، وفي طمأنة القيادات العربية بأن لا خطر يأتي إليهم من جهة بلاد الفرس، ولأنهم قصّروا في العمل لتحقيق مصالحة ولا حتى تعاون عربي إيراني شامل. السعودية ليست بحاجة لإسرائيل لحماية نفسها مما تراه تهديدا إيرانيا عليها، وهي تعي ذلك جيّدا، وهي تراهن على الولايات المتحدة وتطالبها باتفاقية دفاع مشترك، وبتزويدها بأسلحة متطوّرة تشمل طائرات أف 35 المتطوّرة. ومع ذلك يعتقد من يعتقد في السعودية بأن إسرائيل تمتلك بعض التقنيات «النادرة»، خاصة في مجالات التجسّس الإلكتروني ومضادات الصواريخ وأسلحة الليزر، لكن إذا أرادت السعودية هذه الأسلحة ستجد بديلا لها من مصادر أخرى. القيادة السعودية الحالية معنية بالتطبيع مع إسرائيل منذ سنين، والدليل هو مباركتها الفعلية لتطبيع البحرين والإمارات، ولكنّها لم تكن على عجلة من أمرها. الجديد هو الصفقة المطروحة مع الولايات المتحدة، والتي ترى فيها السعودية حماية طويلة الأمد لأمنها القومي، لأنّها تشمل معاهدة دفاع مشتركة مع أقوى دول العالم. وهنا جاء الابتزاز الأمريكي باشتراط الصفقة بالتطبيع مع إسرائيل، بادعاء أن هذا يسهّل تمرير المعاهدة في الكونغرس، ولكن معنى صفقة التطبيع بلغة السياسة الرصينة هو تقديم فلسطين قربانا على مذبح التحالف السعودي الأمريكي. من قال بأن فلسطين سوف تستفيد من الاتفاق؟ وأي معنى للدعم المالي إذا كان ثمن الاتفاق الثلاثي السعودي الإسرائيلي الأمريكي هو على حساب الحقوق الفلسطينية. لقد بدأت الاحتفالات في إسرائيل بانتهاء «الصراع العربي الإسرائيلي» بعد التطبيع المقبل مع السعودية. وعلينا أن نعترف بأن ما يقوله القادة الإسرائيليون في هذا السياق فيه أكثر من قسط من الحقيقة. فقد كانت بداية النهاية في كامب ديفيد، والسلام المنفرد بين قلب العروبة النابض والدولة الصهيونية، وإذا حصل تطبيع مع السعودية، لا سمح الله، فسيكون ذلك نهاية رسمية وفعلية للصراع العربي الإسرائيلي، كما عهدناه. ولكن تصح المراهنة على الشعوب التي ترفض التطبيع رفضا قاطعا، بما في ذلك الغالبية الساحقة من سكّان دول الخليج، وهذا ما جاء في استطلاعات الرأي كافة التي أجريت مؤخّرا. هذا الرفض الشعبي لن يتغيّر بل يزداد حدّة تبعا للتغوّل الإسرائيلي في استهداف القدس والمقدسات وفي ارتكاب الجرائم الفظيعة بحق الشعب الفلسطيني. ما يثير الريبة أن هناك اطمئنانا في إسرائيل، بأن السلطة الفلسطينية لن تعارض التطبيع السعودي، وبأنّها قبلت بالطلب السعودي بأن تكون مطالبها واقعية. وأكثر من ذلك تردد أبواق نتنياهو بأن الحكومة الحالية، التي هي أكثر الحكومات تطرّفا في تاريخ الدولة الصهيونية، تستطيع التعايش مع الجزء الفلسطيني من اتفاق التطبيع. وتشير تسريبات إسرائيلية وفلسطينية إلى أنّه جرى تفاهم مبدئي بين السلطة والسعودية قوامه، أن يكون إطار المطالب الفلسطينية بالنسبة للاستيطان هو اتفاق العقبة واتفاق أوسلو الأصلي بالنسبة لبقية المطالب، مع إمكانية لفتح اتفاق باريس الاقتصادي من جديد. كل ما هو مطروح لا يساهم بخطوة واحدة في طريق إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، ويبدو أن الهم الأكبر هو السلطة القائمة وليس الدولة العتيدة.
التطبيع السعودي، إذا حصل، هو كارثة تاريخية للعرب جميعا وللفلسطينيين جميعا. والواضح أن نتنياهو وبن سلمان وبايدن متفقون في مسعى مشترك لتحقيقه، لكن هناك عقبات قد تؤدي إلى عدم التوصل إليه. فهو قد يفشل إسرائيليا بسبب معارضة تخصيب اليورانيوم على الأراضي السعودية وما يسمى «تنازلات» للفلسطينيين، وقد يفشل أمريكيا لأن الكونغرس لن يصادق على معاهدة دفاع مشترك مع السعودية، بسبب موقف التيار التقدمي في الحزب الديمقراطي وعدم رغبة الجمهوريين في مساعدة بايدن بتحقيق إنجاز عشية الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وربما يحصل تطوّر في السعودية مثل ألّا تكون العروض الأمريكية مرضية لها، أو أن يضع الملك سلمان بن عبد العزيز فيتو عليه. أمّا فلسطينيا فإنّ الأمر الوحيد الذي يمكن أن ينفع في تعطيل اتفاق التطبيع في هذه المرحلة هو نشوب انتفاضة جديدة تردع المطبّعين.
كاتب وباحث فلسطيني