تتنوع التحيزات وتتعدد مذاق نكهاتها أكثر من نكهات آيس كريم باسكن روبنز، فهناك تحيزات معروفة تعود إلى الجنس والعرق والعمر والطبقة وأيضا للوزن وللوسائط Media، التي يمكنها – بالكاد- خدش السطح الظاهر لوعينا.
ومعلوم أن علماء النفس يصنفون التحيزات ضمن مباحث الإدراك المتأخر والاستبصار، والانتباه والذاكرة، والتفكير والحدس، بالإضافة إلى سلسلة من الأوهام العقلية، والمغالطات والإهمال (لأمور بعينها) إلى جانب الفجوات (المعرفية والفكرية) والنفور(من أشياء ونقاط بعينها). حتى إن هناك ما يسمى النقطة العمياء للتحيز، التي نؤمن فيها إيمانا خاطئا بأننا أقل تحيزا من الآخرين، وهناك ما يطلق عليه «تحيز التحيز» ويعني الميل إلى استخدام مفهوم التحيز بحرية كبيرة عند النظر وإصدار الحكم.
إن المفهوم الأساسي القائل إن التفكير البشري غير معصوم من الخطأ هو السبب وراء انتشار التحيزات الخطأ؛ فنحن نقع فريسة لأخطاء عدة تسحبنا وتدفعنا بعيدا عن المُثُل العليا كالعقلانية والإنصاف، فإذا كان ابتعادنا عن التفكير الجيد والعمل الصحيح نابعا من مثل هذه التحيزات والأخطاء؛ فإن تحديدها ومعالجتها تعد أمورا مهمة، وملحة وواجبة.
ويُعَدُّ كتاب «نهاية التحيز: كيف نغير عقولنا» The End of Bias How We Change Our Minds للمؤلفة جيسيكا نوردل Jessica Nordell» تعبيرا قويا عن وجهة النظر القائلة إن التحيز هو أصل العديد من الانقسامات الاجتماعية وعدم المساواة، وبدلا من مجرد الاكتفاء بهذا التشخيص؛ تقدم نوردل حجة قوية مفادها أن التحيز يمكن اقتلاعه.
ويشكّل كتابها مراجعة علمية جيدة على صعيد علم التحيز، خاصة في كيفية تطبيق الدروس المستفادة منه في تعزيز التغيير الاجتماعي التقدمي. وفي سبيل ذلك، تبدأ نوردل دراستها العميقة بفحص منظور علم النفس الاجتماعي الحديث للتحيز، إدراكا منها باستمرارية العنصرية والتمييز على أساس الجنس، مع أنماط تحيزات أخرى. فعلى الرغم من انخفاض ظاهرة التعصب الصريح، إلا أن علماء النفس توصلوا إلى وجهة نظر مفادها أن العديد من التحيزات الاجتماعية تلقائية أو غير واعية أو معتادة، حيث يمكننا الإعلان بصدق عن التزامنا بقيم المساواة، لكننا لا نزال نميّز ونتحيز في أفعالنا، أو في ردود أفعالنا، في مواقف أو آراء بعينها.
في الفصول الأولى من كتابها نهاية التحيز، تستكشف نوردل سيكولوجية أشكال التمييز، حيث تعرّف القارئ على المفاهيم الحديثة للقوالب النمطية Stereotyping، وعملية التهيئة Priming، وهي التحفيز التلقائي للجمعيات العقلية، وعملية الإدراك خارج الوعي. وتوضح نوردل كيف يمكن أن يكون التمييز خفيا بطبيعته، لكنه قوي في الواقع، وأن أجزاءه تتراكم بمرور الوقت في النفس. وعلى المستوى الطبي، يمكن أن تؤدي التحيزات غير المعترف بها من قبل الأطباء المعالجين، إلى حجب أدوية الألم عن المجموعات المصنفة على أنها عاطفية أو عديمة الشعور، وقد أشارت إحدى الدراسات الحديثة إلى أن بعض المتدربين من الأطباء البيض يعتقدون أن المرضى السود لديهم جلد أكثر سُمكا من المرضى البيض، وفي السياق الطبي أيضا، يمكن أن يؤدي هذا الوعي، إلى فقدان التشخيص الدقيق، وإلى قرارات العلاج القاسية أو الرافضة. على جانب آخر، يمكن للتحيزات اللاواعية أن تدفع ضباط الشرطة (في الولايات المتحدة الأمريكية) إلى المبالغة في تقدير التهديد الجسدي الذي يشكله المشتبه فيهم من السود، ما يدفعهم إلى التعامل المباشر بالسلاح معهم، متوهمين النية العدائية إزاءهم عن طريق الخطأ، وغالبا ما يحدث ذلك، وينتج عواقب مأساوية.
وتجادل نوردل بأن التحيزات اللاواعية تقف وراء الفشل في البيئات المدرسية، في النظر إلى طلاب الأقليات على أنهم غير موهوبين (أو غير أذكياء نابهين)؛ وكذلك في الاستخدام غير المتكافئ في عملية الانضباط المدرسي والصفي، بل إن التحيزات ذات الصلة تعرقل توظيف المجموعات غير الممثلة في الجامعات والمؤسسات الأخرى، وتحدّ من تقدمها في سُلّمها المهني أو الوظيفي. ومن أجل تغيير السلوكيات المتحيزة في العقول والقلوب؛ علينا الأخذ في الحسبان أن التحيز يبدأ بالعلاج في علم النفس، لكن يجب ألا نهمل الأبعاد النظامية والمؤسسية والثقافية لقضية التمييز وعدم المساواة، وفي ذلك، لا تقلل نوردل من التحيز الفردي قياسا على البنية الاجتماعية، بل إنها تناقش كيفية تعزيز التحيزات العقلية (لدى الفرد) والممارسات المجتمعية بعضها للبعض الآخر، ذلك أن نفي اللامساواة لن يحدث بعقد بعض الندوات التوعوية المتنوعة، فالحلول من أعلى إلى أسفل لا يمكن نجاحها دون تغييرات في القلوب والعقول.
هذا التركيز المجسم Stereoscopic focus – من قِبل نوردل – على التفكير الفردي والأنظمة الاجتماعية الأوسع؛ يساهم في إيضاح كيفية التغلب على التحيز، حيث تنصب طروحاتها في كتابها على سبل التدخلات الناجحة في الواقع، عبر تبني برامج متعددة كورش العمل التي تستهدف الأفراد؛ وتجارب الاتصال بين المجموعات، كالفصول الدراسيةJigsaw classrooms ، وما يمكن أن تقدمه للطلاب من ألعاب عديدة، مثل ترتيب الصور وتركيبها، وكذلك المسابقات الرياضية المتكاملة، كما تولي عنايتها إلى التحولات في العمليات المؤسسية والأعراف الاجتماعية. كما تنظر نوردل للتعليم قبل المدرسي، من أجل إزالة كل التحيزات المتعلقة بنوع الجنس، وكذلك التدريب الذهني Mindfulness training لضباط الشرطة، وأهمية وجود نماذج يحتذى بها للنساء العالمات في تخصصات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، وكذلك في مبادرات الشرطة المجتمعية، فبلا شك، يمكن إحداث تغيير عن طريق تعديلات وتنبيهات بسيطة، وأيضا عن طريق التحولات الشاملة للثقافة التنظيمية. فثمة ذخيرة من التدخلات الواعدة الكثيرة والمتنامية، على الرغم من اعتراف نوردل بأن هذه الإجراءات على فعاليتها غالبا ما تكون محدودة، وأن بعض التدخلات يمكن أن تأتي بنتائج عكسية.
وهي تؤكد أن عملية النهوض بالوعي نادرا ما تكون كافية، فإذا كان التحيز في كثير من الأحيان اعتياديا وتلقائيا، فإن الإدراك والنية الحسنة لن يتغلبا عليه. وبالمثل، فعلى الرغم من أن ميلنا لرؤية بعضنا البعض من خلال العدسة المشوهة للصور النمطية الجماعية؛ قد تغرينا بالتخلص من التركيز على الفئات الاجتماعية، فإن نوردل تجادل بأن ذلك ليس خيارا مرغوبا فيه، فعمى الألوان لن يكون طموحا واقعيا في عالم يرى العرق مُهما، بمعنى أنه لا يمكن التغاضي عن لون البشرة في عالم يصدر أحكامه بناء على النظرة العرقية. إن دراسات الحالة التي أوردتها نوردل تأتي من كوسوفو ورواندا والسويد، لكن مرجعها الرئيسي هو الولايات المتحدة، وعلى وجه الخصوص الانقسامات العرقية، فهذا الكتاب يخاطب الجمهور الأمريكي بشكل صريح، على الرغم من أن الكثير من رسائله يمكن ترجمتها في سياقات أخرى. ويبقى التقييم الحقيقي لما طرحته نوردل للتغلب على التحيز أنه في نهاية الأمر حالة عاطفية، قد تبدو مقنعة في كثير من الأحيان، لكن لها حدودها، في أحيان أخرى، حيث تبالغ في التأكيد على صرامة الأدلة التي يبنى عليها علم التحيز. والمثال على ذلك، أن الادعاءات المبكرة التي تدّعي القدرة التنبؤية لفهم مقاييس التحيز اللاواعي مسبقا؛ واجهت تحديات وانتقادات جمّة، فكيف يمكن أن نفسر معنى مثل هذه التحيزات الظاهرة في التصرفات المباشرة في مواقف بعينها؟ هل ينبغي معاملتها على أنها علامات على التحيز التلقائي لشخص ما، أم أنها مجرد دليل على تعرضه للغمط في مجتمع غير متكافئ؟ وبالمثل، فهناك تحفظ على إشارات نوردل إلى «تهديد الصورة النمطية Stereotype threat» التي تعني أداء الأشخاص الضعيف وخشيتهم من أن يتم الحكم عليهم سلبيا؛ بناء على الصورة النمطية للمجموعة التي ينتمون إليها، حيث تتغاضى نوردل عن ذكر التحديات الكبيرة التي تواجه هذه الظاهرة المستشرية.
أيضا، يجب استكشاف مفهوم العدوان الدقيق Microaggression، الذي هو مصطلح تمت صياغته لوصف الأشكال الضمنية أو اللاواعية للسلوك التمييزي، دون نقد له، ودون الاعتراف بإشكالية تعريفه ومواضع استخدامه، أو إذا كان هو بالفعل طريقة مفيدة لفهم الحقيقة التي لا شك فيها عن التحيز الدقيق. وبشكل عام، قد نتساءل عما إذا كان للتحيز مفهوم قوي بما يكفي لتحمل المقصد الذي تقدمه نوردل، فالمشكلة عندها أنه لم يتم تعريف ما يعدّ تحيزا أبدا، إنها تعمل كفكرة لتجميع الأغراض التي يمكن أن تمتد لتغطية أي ظاهرة اجتماعية تقريبا. ففي الواقع، فإن للتحيز نقاط ضعف عديدة، بوصفه حسابا لعدم المساواة الاجتماعية؛ إنه يعني ضمنا أن التحيزات ترتكز على اللاعقلانية، وتعكس في كثير من الأحيان اختلافات حقيقية في المصالح والقيم والموارد المادية. فلا يمكن اختزال هذه الاختلافات إلى أخطاء عقلية من جانب واحد، كما أن مفهوم «تحيز التحيز» قد يبدو ظاهريا خطأ إدراكيا، حيث تأخذه نوردل أحيانا إلى أقصى الحدود، فتصور التحيزات على أنها فواصل شاملة مع الواقع، وتصفها أحيانا بمصطلحات نفسية. وهي تشير أيضا إلى «الذهان الأبيض» وتذكر: أن «هناك، في العقل المتميز، وهمٌ مستمر» فالأفراد المنحازون – في تصور نوردل- «لا يرون شخصا ما، إنهم يرون أحلام يقظة على شكل شخص».
هذه النظرة إلى التحيز تجعله أشبه بالعمى والجنون والخيال والوهم، ناهيك عن الإيحاء بأن هذا التحيز مقتصر (وموجه) على بعض الجماعات أو الأفراد، فهو خروج صارخ عن سيكولوجية التحيز التي يبدأ بها الكتاب. (أي خروج عن الروح العلمية وتصبح النظرة أقرب إلى النمطية). أيضا، فإن التحيز له مشاكل إضافية تتعلق بالمفهوم الأساسي لفهم أوجه الظلم الاجتماعي التي قد تحدث؛ فالميول والأنماط المنهجية تظهر بشكل مجمل وعام وغير محدد، وسيكون من الصعب جدا إرجاع حدوث المظالم الاجتماعية إلى التحيزات، فمثلا من الصعب أن يكون أثر عامل خطير، متعلق بمرض ما بوصفه سببا لحالة شخص معين، وما يحدث غالبا أنه يتم عزو أحداث ونتائج معينة- في الظلم الاجتماعي- إلى التحيز، ويتم هذا بعجلة كبيرة وثقة، قد تكون هناك عوامل أخرى، تقف وراء هذا الظلم، وليس التحيز في أساسه. فعادة ما تكون التحيزات عرضة لتفسيرات بديلة ولعوامل مركبة، فهناك جدل مستمر حول مدى تفسير بعض التحيزات المتعلقة بالعرق على الأقل جزئيا بواسطة الطبقة الاجتماعية والاقتصادية. فمثلا، فإن نسبة كبيرة من فجوة الأجور بين الجنسين، قد تكون بسبب عواقب الأمومة وليس الجنس نفسه.
إذا كانت هذه التفسيرات البديلة لها ميزة، فإن بعض التحيزات المفترضة للعرق والجنس قد لا تتعلق – في الواقع- بشكل أساسي بالعرق والجنس إطلاقا، مثل عدم اليقين حول إمكانية تفسير التحيزات الظاهرة من خلال عوامل أخرى، بما يمثل مشكلة كبيرة لمنظور التحيز أولا. وعلى العموم، فإن التحيز في النهاية يتم طرحه بحماسة كبيرة بوصفه قضية أخلاقية، لذا، ففي بعض الأحيان، يتم استخدام الدين كطريقة لتخليص المرء من تحيزاته (السلبية) وهو ما يبدو غريبا – مثلا- على آذان الأستراليين، بأن يصبح الدين مسعى روحيا أو طريقا للهداية من التحيز، ثم يكتمل بالاعترافات والبوح والتطهير. وقد كتبت نوردل: ربما تكون «هشاشة اللون الأبيض» أو «هشاشة الذكور.. هي في الواقع ذات صلة محسوسة بضرر أخلاقي قديم، ارتُكِبَ من قبل أسلاف المرء» بأن يتم ربط هذه الظاهرة مع تحليلها، باستقطاب مفهوم التحيز، بوصفه عملية ذهان (هوس) غير مستنير The psychosis of the unenlightened، وهو الذي يذكرنا بعالم الملائكة والشياطين، بما يجعل نهاية التحيز ملونة بالتدين الأمريكي.
وختاما يمكن الجزم بأن نوردل تقدم في كتابها صورة متفائلة، توضح قدرتنا – نحن البشر- المتزايدة على تقليل التحيز، حيث استهلّت كتابها بمقدمة قيمة وواضحة عن دور علم النفس الاجتماعي ضد التحيز، وكذلك أنهت كتابها؛ مما سيُعزز التزام بعض القراء بمكافحة التحيز، وقد يتقاعس البعض الآخر عن كيفية تأطير تلك المعركة، لكن الجميع سيتعلمون دون شك.
جيسيكا نورديل