إن استطعنا فك أسرار الوحدة الأساسية المكونة للحياة وهي الخلية، ربما يصير بإمكاننا أن نفهم طبيعة الحياة ذاتها، بل طبيعة التاريخ البشري كله، فالخلايا تكوّن الأنسجة، والأنسجة تكوّن الأعضاء، والأعضاء تكوّن أجسادا بشرية، والبشر ينشئون مجتمعات يعيشون فيها، والمجتمع الواحد قد يضم ملايين الناس.
هذا ما يقوله جمال أبو الحسن في كتابه « 300.000 عام من الخوف.. قصة البشر من بداية الكون إلى التوحيد» الصادر عن الدار المصرية اللبنانية في القاهرة، وفيه يروي الكاتب قصة البشر لابنته في عشر رسائل من بداية الكون إلى التوحيد، ويستهله بمقولة لنجيب محفوظ يقول فيها: أطبق الشر على الإنسان من جميع النواحي، فأبدع الإنسان الخير في جميع المسالك.
الكتاب الذي يبدأ برسالة من ليلى تشكو لوالدها الكاتب من قلقها سائلة إياه عن امتلاكه علاجا للقلق، وهل لديه شيء مُسلٍّ يرويه لها يبعد عنها الأفكار السوداء؟ طالبة منه ألا يقول لها كلمته المشهورة «لا تقلقي» التي ترفع لديها منسوب القلق إلى الذروة، يتحدث فيه الكاتب بداية، عن جائحة كورونا ونتائجها على الأفراد والمجتمعات، مارًا بالحديث عن الفيروسات وما صنعته بالبشرية على مدار تاريخها الطويل.
أفضل علاج للقلق
أبو الحسن يخبر ابنته هنا، ومعها القارئ بالطبع، أن أفضل علاج للقلق هو أن تواجه أسبابه، محفزا إياها على أن تهاجم القلق قبل أن يفعلها القلق ويهاجمها، ذاكرا أن بذرة القلق نشأت قبل أن يظهر البشر على مسرح الأحداث بمليارات السنين مع الانفجار الكبير الذي يُعد هو بداية كل شيء، بداية الزمن نفسه، معلنا أن القلق يصبح مع الوقت صديقا لنا، لكنه صديق مزعج وثقيل، مُعرّفا القلق بأنه شعور بالتوتر والانزعاج بسبب حدث مستقبلي نتائجه غير مؤكدة، مضيفا أن الأشياء التي تقلقنا يتعلق أغلبها بحوادث وأمور ليست موجودة أمامنا الآن، وإنما يبنيها خيالنا في المستقبل.
أبو الحسن يخبرنا هنا أيضا، عبر رسائله إلى ابنته ليلى، أن السفر إلى المستقبل له ثمن وهو الإحساس الدائم بانعدام اليقين، وهذا هو السبب العميق لنوبات القلق والهلع التي تداهمنا، وهذا هو الأصل البعيد لمعاناتنا جميعا مع الخوف مما يحمله الغد، خاصة أننا نعيش أسرى لانعدام اليقين، وما يفاقم حالة القلق التي نعيشها هو أن وجودنا كان دائما مهددا وهشّا، مشيرا إلى أن الإنسان كفرد ضعيف للغاية، صغير إلى أبعد الحدود، لكن هذا الإنسان نفسه يصير عملاقا بلا مثيل عندما يكون جزءا من الإنسانية بأسرها، وأن المجتمع هو أعظم إنجازاتنا ومنبع قوتنا التي مكنتنا عبر رحلتنا من السيطرة على الكوكب الذي نعيش عليه. كما يحاول المؤلف عبر رسائله إلى ابنته أن يُعرّفها على أسرتها الكبيرة العتيدة التي خاضت مغامرة مدهشة من الكهوف الحجرية إلى الذكاء الاصطناعي، مغامرة مليئة بالأفكار والخيالات والصراعات والانكسارات والنكبات والخيانات والانتصارات. هنا يبدأ الكاتب هذه الرحلة من أولها، لكنه لن يصل إلى محطتها الأخيرة، مُنهيا رسائله مع صعود الأديان التوحيدية، خاصة اليهودية والمسيحية، إذ هي النقطة التي ينتهي عندها الجزء القديم من تاريخنا، وهو الجزء الذي يحمل الجذور العميقة لطريقة حياتنا العجيبة التي كثيرا ما تصيب بعضنا بالحيرة، متسائلا لماذا عاش أغلب البشر لا يملكون شيئا، بينما ظلت قلة قليلة، عبر رحلتنا الطويلة، تملك كل شيء تقريبا؟ لماذا قبلت الأغلبية بهذا المصير؟ ولماذا تظهر أفكار معينة في وقت بعينه؟ ولماذا تختفي أفكار أخرى وتذوي؟ ولماذا يقتل بعضنا بعضا؟
أن تكون إنساناً
أبو الحسن الذي يقول لليلى إنه لن يقول لها: لا تقلقي، وإنما سيقول لها مرحبا بكِ في عالم القلق، يدعوها إلى الدفاع عن إنسانيتها، أن تساعد الآخرين، أن تحب أسرتها الكبيرة، أن تدافع عن كل معنى نبيل وجميل تركته هذه الأسرة، أن تتعاطف معها حتى في كبواتها، حاثا إياها على أن تفعل بحياتها ما تريد، شرط أن تكون إنسانة، مخبرا إياها أنها ربما تدرك بعد قراءة رسائله إليها كم هو صعب ومضنٍ أن تكون إنسانة تحمل في داخلها قصة عمرها 300 ألف عام. جمال أبو الحسن يقول هنا إن الفيروسات تهاجمنا لسبب بسيط وهو رغبتها في البقاء، ذاكرا أن الفيروسات تموت بموت عائلها، لكن الأخرى التي لا يموت عائلها تنتشر وتنتقل من جسد لآخر عن طريق العدوى، وخلال انتشاره يتعلم الفيروس مهارات عجيبة. هنا يكتب أبو الحسن قائلا، إن حياتنا نحن البشر تعتمد على المعلومات والشيفرات، ذاكرا أن الطفرات التي قام بها فيروس قاتل كالإيدز خلال أربعة عقود تتجاوز الطفرات الجينية التي حدثت للبشر خلال تاريخهم كله، مضيفا أن جينات البشر قد تطورت بشكل محدود خلال ثلاثمئة ألف سنة.
في إحدى رسائلها إلى والدها تقول له ليلى إنها على قناعة بأن العالم سوف ينتهي يوما بسبب المنافسات القاتلة بين البشر، خاصة أنه على الأرض من القنابل النووية ما يكفي لتدميرها عدة مرات، وبيننا عدد كافٍ من الأشرار والحمقى ممن لديهم استعداد للقيام بهذا الفعل، كما يحدث في أفلام الرعب، ويرد عليها الكاتب متسائلا: هل فكرتِ يومًا لماذا نحب أفلام الرعب؟، ويجيب لأنه قد يخالجنا شعور بالارتياح لأن ما يجري على الشاشة لن يحدث معنا كما يحدث مع أبطال هذه الأفلام.
الإنسان العاقل
هنا، وهو يحكي قصة البشرية، يحاول الكاتب ألا يفوته شيء في ما يخص البشر وحياتهم وما حدث على الأرض منذ آلاف السنين، مؤكدا أن الكراهية بين البشر ليست وحدها المسؤولة عن كل هذا القتل، بل إن الحب والتعاطف والتضحية مسؤولة كالكراهية وأكثر، مشيرا إلى أن علم الآثار القديمة يقول بأن البشر تناثروا في المعمورة كلها، بينما ظهر الإنسان العاقل لأول مرة في افريقيا، ومنها زحف إلى كل أرجاء الدنيا، ذاكرا حقيقة مهمة للغاية هي أن الإنسان كائن متحرك، يحركه عطشه المستمر للطاقة والسعرات الحرارية، كما أن هناك قانونا سحريا للتاريخ وهو حركة الجماعات البشرية التي لا تستقر في مكان.
كذلك يقول أبو الحسن، إن الذاكرة البشرية لها حد أقصى في حفظ الأشياء، وعند نقطة معينة يفقد الدماغ البشري قدرته على اختزان المعلومات، خاصة الأرقام، ولهذا سعى الإنسان إلى اختراع الكتابة ليسجل بها ما يخشى نسيانه واندثاره، واصفا الكتابة بأنها اختراع عبقري يتيح تضخما لا نهائيا لذاكرة الإنسان، والكتابة ذاكرة خارج الدماغ، ذاكرا أن الكتابة ظهرت على يد السومريين، وربما في مصر القديمة في الوقت نفسه.
كذلك يتحدث المؤلف، في كتابه الشيق والممتع والمهم هذا، عن الحضارات الإنسانية، عن استقرار الإنسان بعد معرفته بالزراعة، عن تطور الحياة الإنسانية، عن اكتشاف الكتابة، عن الآثار التي خلفتها الحضارات الإنسانية المختلفة، عن تكوين الإمبراطوريات، وعن السياسة والفلسفة والديانات والتوحيد، مؤكدا أن الأفكار الكبرى غالبا ما تتعلق بأسئلة جوهرية عن العالم، وهي أسئلة شغلت تفكير البشر في كل زمان ومكان، وهي الأسئلة التي تشغل كثيرين منا اليوم، متسائلا لماذا هناك عالم من الأصل؟ ولماذا نحن هنا؟ وهل هناك وجود واحد؟ أم هناك أكثر من وجود؟
كاتب مصري