في 9 ديسمبر 1948 صوتت الجمعية العامة بالإجماع على «الاتفاقية الدولية لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها» التي دخلت حيز النفاذ في 12 يناير 1951. وقد وصل عدد الدول الأعضاء المنضمة للاتفاقية بعد التصديق عليها 152 دولة من بينها إسرائيل والولايات المتحدة. وكانت هذه أول وثيقة دولية تتعلق بحقوق الإنسان، فقد سبقت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، واتفاقية مناهضة التعذيب واتفاقيات جنيف الأربع. في خلفية هذه الاتفاقية أهوال الحرب العالمية الثانية، وعمليات الإبادة الجماعية التي تعرض لها اليهود والغجر والألمان في دريسدن واليابانيون في هيروشيما وناغازاكي عدا عن نحو ستين مليون قتيل.
تم تفعيل الاتفاقية بعد مذابح رواندا عام 1994، التي صنفت إبادة جماعية، حيث حاول الهوتويون أن يقضوا تماما على جنس التوتسي، وفي مذابح المسلمين في البوسنة والهرسك 1995، خاصة ما جرى في سربرنيتسا، إذ حاولت عناصر الصرب إبادة المسلمين جزئيا أو كليا.
بعد هذه التجارب المريرة تم إنشاء منصب دولي خاص تحت مسمى «مستشار الأمم المتحدة الخاص لاتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها»، ثم أضيفت إلى المنصب، الوثيقة التي اعتمدتها الجمعية العامة عام 2005 تحت مسمى»مسؤولية الحماية»، والمقصود حماية المدنيين. وقد تبوأ هذا المنصب المهم برتبة وكيل أمين عام، أولا الأرجنتيني خوان مانديس (2004-2007) ثم فرنسيس دنغ من جنوب السودان (2007-2012) ثم السنغالي أداما ديانغ (2012-2020)، ثم اختيرت الكينية أليس واريمو نديريتو عام 2020. في مذابح رواندا إنشئت محكمة جنائية دولية خاصة وأصدرت أول حكم عام 1998 ضد جان أكايسو، وفي مذابح البوسنة والهرسك أنشئت محكمة جنائية دولية خاصة بيوغسلافيا السابقة وصدر أول حكم يدين مجرم الحرب مالديتش عام 2007. لقد أنشئت المحكمتان الخاصتان برواندا ويوغسلافيا السابقة، لأن محكمة الجنايات الدولية لم تكن تأسست بعد. ومن المفروض أن أي جريمة تصنف إبادة جماعية تصبح بشكل آلي من اختصاص المحكمة الجديدة، التي ينص نظام روما الأساسي المنشئ للمحكمة على الجرائم التي تقع تحت صلاحيتها القانونية وهي أربع: جريمة العدوان، جرائم الحرب، الجرائم ضد الإنسانية، وجريمة الإبادة الجماعية.
منذ بداية حرب الإبادة على غزة تهرب جميع المسؤولين الأممين بلا استثناء عن وصف ما يجري بأنه حرب إبادة. بعضهم تحدث عن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ووصف قطع الماء والغذاء والدواء بأنه «قد» ويؤكدون على كلمة «قد»، يرقى إلى جريمة ضد الإنسانية، لكن مصطلح «جريمة الإبادة الجماعية» ظل المسؤولون يتهربون من استخدامها، فهل ما يجري في غزة حرب إبادة؟ أولى شروط حرب الإبادة، توفر النية أو القصد بهدف التدمير الكلي أو الجزئي، لجماعة قومية أو إثنية (عرقية) أو دينية، أو إلحاق الأذى الجسدي أو العقلي بأفراد هذه الجماعة، أو «إخضاع الجماعة لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا» (البند 2- نقطة ج). ويصبح قيد المساءلة كل من ارتكب عمليات الإبادة أو تآمر مع القتلة أو حرّض على القتل أو حاول ارتكاب الإبادة أو اشترك فيها. إذن توفرت النوايا في تصريحات المسؤولين الكبار، خاصة رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير الدفاع ورئيس الأركان. فقطع الماء والغذاء والدواء واضح أن هذا يستوفي شروط الإبادة، والقصف العشوائي واستهداف المدارس والمستشفيات وأماكن اللجوء والتهجير القسري ينطبق على تعريف الإبادة الجماعية. بدأنا نسأل عن أسباب عدم تصنيف ما يجري في غزة جريمة إبادة جماعية من كل المسؤولين الدوليين، علما أن المسؤولية تقع أساسا على عاتق مسؤولين اثنين، ولكن هذا لا يعفي الآخرين بمن فيهم الأمين العام أنطونيو غوتيريش. سألت مراراً المتحدث باسم الأمين العام متى سيصف الأمين العام ما يجري في غزة بأنه جريمة إبادة جماعية ألا يكفي مقتل 18000 إنسان، 70% منهم نساء وأطفال، وجرح أكثر من 50000 واختفاء أكثر من 7000، لوصف مجازر غزة بأنها جريمة إبادة جماعية؟ والجواب كان يتكرر، «نحن لسنا الجهة التي تقرر ما إذا كان ذلك إبادة أو لا، هذا من اختصاص محكمة مؤهلة لذلك». إذن لنرى مواقف المختصين: مستشارة الأمم المتحدة لجريمة الإبادة، والمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية. المكتب المتخصص في مسألة الإبادة الجماعية هو «مكتب المستشار الخاص للأمم المتحدة حول الإبادة الجماعية ومسؤولية الحماية». وترأس هذا المكتب أليس واريمو نديريتو، التي أصدرت بيانا ضد عملية 7 أكتوبر تجعلك تعتقد أن الفلسطينيين أطلقوا حرب إبادة على الدولة المسكينة المسالمة إسرائيل. وجاء في بيانها «تدين المستشارة الخاصة بأشد العبارات الأعمال الإرهابية المتعددة والمنسقة، التي وقعت صباح السابع من أكتوبر والهجمات التي شنتها حركة حماس، والتي تستهدف بشكل واضح المدنيين في الأراضي الإسرائيلية، وتعرب عن تعازيها لعائلات جميع الضحايا. كما تدين أخذ رهائن إسرائيليين من قبل حماس. وتشعر المستشارة الخاصة بقلق خاص إزاء استمرار حماس في إطلاق الصواريخ بشكل عشوائي داخل الأراضي الإسرائيلية، وإزاء الخسائر في أرواح المدنيين نتيجة القصف الإسرائيلي لقطاع غزة». ولاحظ الجملة اليتيمة التي ألحقتها بعد كل تلك التفاصيل في إدانتها للجانب الفلسطيني، حيث تشعر بالقلق إزاء الخسائر في الجانب الفلسطيني، بعد ذلك اختفت تماماً ولم يسمع منها. كتبت لها رسالة قوية أتساءل عن هذا الانحياز الصارخ في بيانها حول أحداث 7 أكتوبر وفي الوقت نفسه تتجاهل ما يجري في غزة وطبعا لم ترد. وسألت المتحدث باسم الأمين العام «كيف يضع الأمين العام ثقته في مسؤولة أممية بهذا التعصب الأعمى لصالح الرواية الإسرائيلية؟»، إلا أنه أكد أن الأمين العام غوتيريش ما زال يثق بها. وعندما بلغ عدد الضحايا بين شهيد وجريح ومفقود أكثر من 70000 حذفت بيانها عن أحداث 7 أكتوبر وإدانتها القوية لحركة حماس. يبدو أن هناك من نصح هذه المسؤولة أن تحذف بيانها المنحاز حتى لا تصدر بيانا حول ما يجري في غزة ولا تصفه بأنه حرب إبادة.
الشخص الثاني المعني بجريمة الإبادة الجماعية هو المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان. بعد صمت مطبق على ما كان يجري في غزة قام بزيارة شخصية يوم 29 أكتوبر 2023، لمعبر رفح بعد 22 يوما على حرب الإبادة على غزة. وبدل أن يتعاطف مع الفلسطينيين وما لحق بهم من دمار، راح يتحرق على ما لحق بإسرائيل من جرائم. قال: «إن ما شاهده من صور مرعبة من إسرائيل يوم السابع من أكتوبر، تتعلق بالحرق والاغتصاب والذبح، وأخذ الرهائن لا يمكن أن تمر من دون عقاب، وهي جرائم خطيرة بموجب القانون الدولي الإنساني» وقال: «لا يمكننا العيش في عالم يتم فيه تطبيع عمليات الإعدام والحرق والاغتصاب والقتل، أو حتى الاحتفال بها». ويا ليته توقف هنا، بل قام بزيارة لإسرائيل يوم 30 نوفمبر استمرت ثلاثة أيام بدعوة من عائلات إسرائيلية لبعض الأسرى فقبل الدعوة على الفور، علما أن إسرائيل ليست عضوا في المحكمة. ثم أطلق تصريحات قوية مستبقا التحقيقات قائلا، إن لديه «سببا للاعتقاد» بأن الأعمال التي تم تعريفها على أنها جرائم وفقا للقانون الدولي قد ارتكبتها حماس يوم 7 أكتوبر. وأبدى تعاطفه مع أسر المختطفين والمحررين الإسرائيليين وزار المستوطنات في غلاف غزة والقاعة التي شهدت الحفل الموسيقي ليعبر عن تضامنه. وقال خان حول ما حدث يوم 7 أكتوبر: «لم تكن هذه جرائم قتل عشوائية، فحماس طاردت الناس والأطفال اختطفوا من أسرهم». وقال خان إنه يتعامل بجدية مع كل كلمة يسمعها في إسرائيل. وأوضح: «نحن بحاجة إلى التصرف بناء على الأدلة وليس العاطفة»، ثم قام بزيارة مجاملة لرام الله فقاطعته جميع منظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان وأطلق كلاما عاما حول غزة ولم يتطرق لفظائع إسرائيل في غزة، وتدمير أكثر من ثلاثة أرباع المنازل، وتشريد أكثر من ثلثي سكان غزة، وقتل ما يزيد عن 17 ألف فلسطيني فيها.
هذه حالة المسؤولين الدوليين المعنيين بجريمة الإبادة. فإذا كان القاضي غريمك فلمن تشكو مصيبتك؟
كاتب فلسطيني