■ يمكن معرفة دقة الكاميرا هنا من دقة عين الشاعر، أي بالانحياز إلى سيرة فايز العباس الشعرية، خصيصاً بين» ليكن موتي سعيداً» عملهُ الأول، الحائز جائزة الشارقة 2011 وجديده «5 ميغا بيكسل» الصادر حديثاً 2019، مع التنّبه للعام 2011 المفصلي سورياً بامتياز، وما تلاهُ من آمال وطموحات، ومن ثمّ تيه وانكسارات لم تَخّص الذوات المبدعة وحسب، بل أخذت في فيضها كل الشرائحِ والشرائعِ والنواميس، وصارت موضوعةُ أدبٍ جديدٍ يَتصدى للقيمة الجديدةِ ضرورة، فإن لم يتشكّل نسقه بعد، فالأيام بفعل الغربلة والفرز والحاجة إلى التوثيق كفيلةٌ بنقد الحالات، وهي حالات كثيرةٌ، وفي ما لو توفرت البيئة النقدية المناسبة فقد نكون أمام ظاهرة وليست حالات، ولعلّ من الأهمية وجود قناعة تامة بأنّ الجديد، والفني منه تحديداً يستحق أن يكون حقلاً نقدياً بذاته، وهو إنصاف ـ في رأيي الشخصي ـ لفترة زمنية سورية/عالمية طويلة جداً، فيما لو قيس التأريخ بالأهوال لا بالأيام.
لا تتمايزُ مجموعة 5 ميغا بيكسل عن المشهدِ بالموضوع، أو بالبيئةِ النفسيةِ للكتابة السوريةِ عموماً، ذلكَ أنّ الحدثَ لم يبقَ حكراً على أحدٍ، بل مشاعاً وحقّاً للجميع، وصارت المُمَايزة فقط من خلال الزاوية التي يأخذها الراصد/ القنّاص، ولهذا نجد عمل العباس الأخير، يكاد ينتمي كلياً إلى المفارقة، مفارقة الحرب والحب، الحرب والسلم، الحرب والحياة، وبدا واضحاً أنَّ عيناً ثالثة، أشبه بعدسة كاميرا دقيقة، صارت تعملُ في جوانيات النصوص، ويكادُ الاستهلال يشي بمجموعِ المتونِ أو المشاهدِ الموزعة للكتابِ، المتشابهة في التقانات وطرق الانشغال على الفكرة الشعرية، الشعرية وليست الفكرةِ العامة، التي يقال عنها:» الفكرة على قارعة الطريق»، هذا من حيث المجموعة كذات لناصها وأداة توصيل لتشييد العلاقة مع ما يجري، وتتفارق في الحين نفسه مع مجموع الذوات أو أنوات أخرى تشكل المشهد، وتحيط بالناص، ومن هنا يكونُ الكلام عن المفارقة جائزاً:» واحد/ اثنان/ ثلاثة/(طاخ) أقصدُ فلاش/* يمازحُ قناصٌ أبناءهُ، وهو يأخذُ لهــم صورةً تذكارية».
سأقرأ مجموعة فايز العباس وفق ثلاثة أبواب رئيسة، تتعالقُ مع تقسيمه لكتابه، سأبدأها: بالهامش/ الشكل، الذي جاء جديداً وجريئاً بدءاً من العنونةِ الرئيسةِ (5 ميغا بيكسل) والعنونةِ الفرعيةِ (ذاكرة ممتلئة لعينين) مع الأخذ بأنّ العنوانين يتمازجان ويتماهيان، فالأول موحي بالدقة والتقاط اللحظة المفصلية، والمفصلية ليست بالضرورة أن تكون قضية كبيرة أو حدثاً لافتاً للغاية، وإنّما قد يكون هامشاً أو تفصيلاً يحيلُ إلى العمق الذي سأتطرّق إليه لاحقاً، ثمّ العنونة الثانوية وهي ليست اعتباطية بدورها، وتحيلُ إلى العلاقة بين الآلة ودقتها، والروح التي تحرّك الآلة، فالامتلاء هنا قهري قسري، ومحمّل بالعسفِ الذي تركتهُ الحياة، تحديداً بعد 2011، العسف الذي تمارسهُ الصورةُ على الإنسان، صورة الدمار، وصورة تشظي ابن الحرب، أي دمارهُ الداخلي ورضوضه النفسية، رضوضه التي يمكن أن تصنعَ منهُ مجنوناً أو ناصّاً يتجنبُ البشاعة والجنون بالكتابة وكذلك بالثقةِ بالنفس، تلك الثقة التي تصلّ حدّ التطرف: «لستُ صياداً ماهراً/ لكنني لم أعد من رحلة صيد بشبكةٍ فارغةٍ/ أو بجعبةٍ ممتلئة/ لستُ صياداً ماهراً/ غير أنّ الطرائد تقتفي أثرَ سهامي/ وتقعُ واحدةً واحدة/ كأنّها نجومٌ تائهة».
جملة العباس الشعرية لا تطمئن إلى الشكل وحده، فهو شاعر متمرّس في الوزن والإيقاع، وهنا في نثرهِ يتخلص من الوزن، لكن يخلصُ لموسيقى وإيقاع خاص، تخلقه جملتهُ الرشيقة واشتغالهُ، أو تفكيرهُ الذي يلي فطرتهُ، أو« بيتهُ الأول» بحسب بول فاليري.
يُقسّمُ الكتاب شكلاً إلى: (كاميرا أمامية ـ فلاشات ـ كاميرا خلفية)، والمساحات تتقارب من حيث توزعها على الصفحات، ومن حيث العناوين الداخلية، ولعلّ المتلقي هنا سيلحظ التنبّه الذي يقوم فيه فايز العباس ودرايتهُ وصنعتهُ، كما لو أنَّ فلسفتهُ في منجزه هذا ترتكزُ على إيلاء الشكل أهميتهُ، وبأنَّ علاقةً بصرية لابدّ من توفرها، لاسيما أنّ العمل برمته يستندُ إلى عينٍ أخرى، هي عدسة كاميرا بقوة 5 ميغابيكسل، ويعزّز الاشتغال هنا الانتصار للشعر بوصفه كائناً يمكن تهذيبه وتشذيبه، والمراهنة على قدرته في الحضور، حين تتقدم التقنية أو الفنون السرديةُ، التي رغم اعتمادها عليه، تريد أن تدير له ظهرها متنكرةً، كما لو أني بالعباس هنا يقول: ما عاد كافياً أن يتنزلّ الشاعر المنحدرات صوب «وادي عبقر» فهناك ما يجب أن يفكر بهِ: «يا الله/ هذا الفيلم طويلٌ جداً/ الإخراج مدهشٌ/ النصُّ َوالسيناريو محبوكان/ الأبطالُ أسطوريون/ أما نحنُ أقصدُ قطعُ الديكور الزائدةُ فنحتاجُ بعضَ الرتوشِ كي يستمر العرضُ حتى القيامة».
المتنُ/ العمق: من المؤكد أنَّ جملة العباس الشعرية لا تطمئن إلى الشكل وحده، فهو شاعر متمرّس في الوزن والإيقاع، وهنا في نثرهِ يتخلص من الوزن، لكن يخلصُ لموسيقى وإيقاع خاص، تخلقه جملتهُ الرشيقة واشتغالهُ، أو تفكيرهُ الذي يلي فطرتهُ، أو« بيتهُ الأول» بحسب بول فاليري. لغتهُ غير عصية على الفهم، لكنها عصيةٌ على السهل والمبذول، وهي ليست ملحمية من حيث طول النص، لكنها ملحمية من حيث الأخذ بفكرة الشعر، من حيث صناعة الفكرة/ القضية، ولهذا إذا تتبع المتلقي سيرة هذا الكتاب، سيعثرُ بإيمان مطلقٍ على أنَّ النص الذي يتفلّت من الحرب التي يعيشها الشاعر هو نص متورط في الحرب بامتياز، وهذا يخلق دلالة واضحة أننا ككائنات اجتماعية إبداعية من الصعوبة بمكان مطالبتها بنصّ خالص ينتمي إلى الهامش والتفاصيل اليومية، وتغييب العام والكارثي، ذلك الذي ينسحبُ على الحياة بكليتها، وهنا يجوز لنا أن نقرأ ما هو ليسَ حبّاً في فلاش يرسله العباس لحبيبته، وقد نجدّ الحبّ في نصّ يحتفي بأمثولةِ القنّاص، تلك المفردة المتوفرة بكثافة في «5 ميغا بيكسل»: «كما لو أنَّ أمّاً أضاعت ابنها إثرَ غارةٍ مفاجئةٍ/ تركتُ صوتي هناك/ أنا الثكلى التي يثقبُ السماءُ أنينُها/ والعويلُ هو ابني».
المفارقة: لن نبتعد هنا العمق الذي تناولناه، والقصد بالمفارقة في أحد أوجهها المغامرة، اللعبة المنتهجة من قبل فايز العباس بدءاً من العنوان، مروراً بالتقسيم الداخلي، ومحاولاته التفلّت من النمطية، وإن جاءت في مواضع جمله/ فلاشاتهُ باهتهً، أو جديدة على متلقيها. تتوضح مفارقاتهُ في القفلات شديدة التكثيف والمشاهد العادية كالأحاديث التي يسردها عن أطفاله، الأحاديث التي تحملها اللغة، وتخرجها من العادي إلى الشعري بفعل الاشتغال المدروس في جزء منه، والانشغال الذي تفرضهُ العلاقة مع الوسط/ بيئة الكتابة، والأشخاص المؤسسين والفاعلين فيها: «بابا هدول راح يقوصونا؟»/ ـ لايا بابا لا تخاف/ ـ «لكن ليش حاملين طاخ؟»/* ابني آدم 4 سنوات يسألني عن بارودةٍ على أحد الحواجز».
«5 ميغا بيكسل» صادرة عن دار فضاءات للتوزيع والنشر 2019 والغلاف لـمصطفى سليخ.
٭ شاعر وناقد سوري