القاهرة ـ «القدس العربي»: يعتبر الفنان المصري عز الدين نجيب من أكثر الأصوات حضوراً ـ إنتاجاً وزمناً ـ على ساحة الفن التشكيلي المصري، بداية من المعارض التي يقيمها، وكذلك الأنشطة الثقافية التي أشرف عليها، ثم متابعته النقدية الدؤوبة والمستمرة منذ سنوات طويلة للحركة الفنية المصرية بشكل عام. من ناحية أخرى أصدر نجيب العديد من المؤلفات النقدية المهمة والكاشفة في مسيرة التشكيل المصري، ربما أهمها «فجر التصوير المصري الحديث» 1985، و»التوجه الاجتماعي للفنان المصري المعاصر» 1997. وفي هذين المؤلفين لا تغيب عن الرجل الرؤية السياسية والاجتماعية التي ترتبط بالفن والفنان، وإنتاج العميلة الفنية بدورها، فلا فن خارج سياق اجتماعي وسياسي، ومن هنا يتسق نجيب مع إنتاجه ككل، فناً أو نقداً.
أضف إلى ذلك أنه لم يتحدث أو ينتهج هذه الرؤية كمتابع أو قارئ أو مُستَنتِج نظري، بل خاض تجربة السجن، التي وثقها من خلال كتاب بعنوان «رسوم الزنزانة» 2014، وهي رسومات تحمل لقطات للعديد من الزنازين ووجوه مَن شاركوه السجن في فترات مختلفة في عهدي السادات ومبارك. ولم يكتف نجيب بالرسم والنقد، بل اتجه للكتابة الأدبية، فأصدر عدة مؤلفات منها.. «عيش وملح» 1960، «أيام العز» 1962، «المثلث الفيروزي» 1968 و»مشهد من وراء السور» 2002.
وقد تم الاحتفاء مؤخراً بتجربة الرجل من خلال معرض استعادي بعنوان «60 عاما بين المقاومة والبعث» في «غاليري ضي» في القاهرة، يستعرض تجربة فنية تمتد لأكثر من ستة عقود، إضافة إلى اسكتشات للوحات لم تكتمل، أو لبعض اللوحات في أطوارها الأولى، إضافة إلى كتاب توثيقي نقدي للرجل بعنوان «الفنان المصري وسؤال الهوية بين الحداثة والتبعية». يستمر المعرض حتى نهاية الشهر الحالي، حيث يتم عز الدين نجيب عامه الثاني والثمانين، فهو من مواليد 30 إبريل/نيسان 1940.
سؤال الهوية
نبدأ بالكتاب الذي أصدره نجيب في المعرض، مستعرضاً الحالة الفنية في مصر منذ جيل الرواد وحتى الجيل الجديد، وكان سؤال الهوية هو نهج الكتاب، فكيف كان الفنان وكيف أصبح. فما بين الكفاح الوطني من أجل الاستقلال، وصولاً إلى المد القومي وقضايا التحرر الوطني في الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الفائت، كان سؤال الهوية هو الشاغل الأكبر لفناني تلك الفترة، لكن تحوّل الأمر بعد ذلك، فهذه الرؤية غامت والتبست لدى جيل آواخر الثمانينيات، خاصة مع إنشاء (صالون الشباب) حيث توجهات سياسة الدولة وقتها وحتى الآن، وحيث التقليد الغربي، والدوران في فلك العولمة السياسية والثقافية، دون نسيان المد الديني الذي يُحرّم التصوير، فانفصل الفن عن الناس، وأصبحت الأعمال الفنية تدور في تهويمات لا تمت للواقع المصري أو الفن المصري.
الاتجاه القومي
منذ البداية انتهج عز الدين نجيب رؤية وموقفا، حيث الربط الدائم بين الفن والسياسة، فحضرت بقوة القضايا الوطنية والقومية، التي وإن بدت بشكل تعبيري في اللوحة، كما في (الحصار) (المقاومة) (الاستنهاض) (البعث) حتى أنه لا يجد تجسيداً لـ(حواء) إلا في لوحة تمثل (إيزيس) لكن هناك بعض اللوحات وقعت تحت وطأة الفكرة، فجاءت في شكل مباشر، وإن حاولت الحفاظ على الروح التعبيرية، كذلك لم يكتف نجيب بأعمال تخص الحالة المصرية، بل جسد الكثير من القضايا العربية، على رأسها القضية الفلسطينية.
الطبيعة وتشكلاتها
وتأتي لوحات الطبيعة لتمثل التجربة الأكثر ثراء لدى الفنان، هنا تصبح الطبيعة سيرة أخرى غير ما هي عليه بالفعل، ليست واقعا شكّله الزمن، بل من خلال روح الفنان ووعيه.. صخور ورمال وجبال ومخلوقات، حاول الفنان من خلالها التعبير عن دلالة أكثر من وجود هذه التكوينات، هناك حالة من الاحتفاء بالحركة، حتى إنه من الممكن أن تسمع الأصوات المحيطة بهذه الأماكن، كذلك استطاع نجيب أن يؤنسن هذه الطبيعة، كما في لوحات (سر الصحراء) (العمالقة) و(صحوة الأمجاد) فمن الحجر تتشكل الأجساد، وتصبح الصخور بديلاً بلاغياً لحالة إنسانية ترتبط بالوعي، هناك وجود قائم رغم مرور الزمن، هناك قوة راسخة على هذا الشعب الانتباه إليها، مهما نسي أو تناسى في بعض الأوقات.
من ناحية أخرى لا يفصل نجيب بين الطبيعة والإنسان، فهناك حركة تناغم كبيرة بين حالة كل منهما، الجبال والرمال والنساء، وكأنها حالة واحدة يصوغها المكان، سواء في أسوان أو واحة سيوة أو الأقصر.
الحِس السردي
وبما أن نجيب مارس الكتابة الأدبية بالفعل، فالحِس السردي والبُعد الدرامي لا يغيب عن اللوحة، بداية من رومانتيكية أسماء اللوحات.. «حصار الجبل» «ثمن الحرية» «ميلاد جديد» «أشجار مقاتلة» «سائرة على الصراط» «المحاكمة» و»أنفاس البيوت». فهناك دائماً حكاية أو بمعنى أدق (مشهد مسرحي) تجسده اللوحات، أو يقترب من لوحات تيترات المسلسلات القديمة، التي يتم من خلالها التعبير عن العمل الدرامي ككل.
الأسلوب
ونظراً لرحلة الرجل الطويلة، فإن هناك عدة أساليب ينتهجها، دون المساس بالمنهج الفكري الذي اختاره، فهناك الطبيعة الصامتة، الأسلوب التعبيري، التجريد، وقبلهما البورتريه، وفي الأخير حاول نجيب التواصل والتعبير عن الناس العاديين.. العمال والطبقة الدنيا، كما في لوحتي (شمس) و(على الطريق).