الغموض يعود
قبل يوم من بيان كيري، بدت بيت لحم اهدأ من أي وقت مضى. جدار الفصل ـ البشع والجارح للمشهد ـ يجعل من الصعب العبور من المدينة شمالا الى القدس، مع أنه في منطقة غوش عصيون في جنوب بيت لحم، الدخول بالاقدام الى اسرائيل في ‘مسار الماكثين غير القانونيين’ يريح مثلما كان دوما. في ساعات ما بعد الظهر يسود معبر رحيل، المجاور لقبر رحيل حال اعتيادي مثير للتثاؤب في ايام صوم رمضان. الباعة المتجولون وسواقو السيارات العمومية، رجال الصناعة الصغيرة الذين يكسبون الرزق من واقع الحواجز الذي تفرضه اسرائيل، يتجاهلون مجموعة ضباط الجيش الاسرائيلي وحرس الحدود التي تجتاز المعبر للقيام بجولة قصيرة في الطرف الثاني. حالة طبيعية لا توجد هنا، ولكن المسافة واسعة عن الايام التي كانت فيها الاجواء على الارض تتفجر عداءً.
اعلان كيري يخدم الهدوء، على الاقل في الطرف الفلسطيني. فللافق السياسي، مهما كان رمزيا وطفيفا، يوجد تأثير مهدىء على الجمهور المتماثل مع فتح، رغم خيبات الامل التي اوقعتها السنوات السابقة. ولكن هذا صحيح فقط طالما استمرت المحادثات.
‘اذا ما نفخوا هنا بالون أمل وفشلت المفاوضات ـ فقد يتفجر الوضع ردا على ذلك’، يقول مسؤول اسرائيلي كبير يعنى بمكافحة الارهاب في المناطق. الاطار الزمني الذي حدده الامريكيون، تسعة اشهر، يفترض ان يوفر شريحة حماية لفترة زمنية طويلة نسبيا، دون عنف في الضفة، ولكن الصدمات يمكن أن تندلع في اثناء هذه الفترة ايضا على خلفية أزمات صغيرة في المفاوضات.
يكمن انجاز كيري في واقع الحال في مجرد استئناف المحادثات. فالخطوة الامريكية التي سمحت بذلك استخدمت مناورة من عهد المفاوضات على اتفاقات اوسلو ـ الغموض البناء. بدلا من التزام خطي من الطرفين الواحد للاخر، اكتفيا بوعود كيري الغامضة. في اوسلو كانت للقصة نهاية سيئة: في أعلى الطريق تبين أنه توجد فجوات تفسير كبيرة بين الطرفين بالنسبة للترتيبات الامنية والبناء في المستوطنات. وما بدأ بموجة عمليات الباصات الاولى بين 194 ـ 1996 أدى لاحقا، بعد فشل مؤتمر كامب ديفيد في صيف 2000، الى اندلاع الانتفاضة الثانية.
في اوسلو توجهت اسرائيل الى المفاوضات انطلاقا من توقع، خاب، في أن م.ت.ف بالفعل ستبقى الممثل الوحيد والشرعي للشعب الفلسطيني.
ولكن سرعان ما تبين ان ياسر عرفات وإن كان جلب معه تأييد قسم هام من الجمهور الفلسطيني، ولكن ليس تأييد منظمات فلسطينية عديدة اخرى. فليست المفاوضات وحدها لم تكن مقبولة على الفصائل الاسلامية وعلى الجبهتين الديمقراطية والشعبية بل انه داخل فتح ايضا كان هناك من اختلف مع طريق المحادثات. والان تستخدم الولايات المتحدة تأييد الجامعة العربية كرافعة ولكن لا يشارك في الخطوة حاليا سوى ثلاثة اعضاء فيها. أما الباقون فيتحفظون من الاتصالات مع اسرائيل او ينشغلون جدا بالمشاكل التي جلبها عليهم الربيع العربي.
رئيس السلطة، محمود عباس (ابو مازن) يعود الى المفاوضات في ظل نقص اشكالي في الشرعية، سواء في الداخل، في المناطق، أم في الخارج، في العالم العربي. طريق واحد للتغلب على الفجوة كفيل بان يكون الاعلان عن انتخابات جديدة في المناطق حتى لو عارضت حماس. في جهاز الامن الاسرائيلي يشككون في ان تؤدي محاولات جس النبض بين السلطة وحماس الى مصالحة تفترض تنازلات أي من الطرفين ليس مستعدا لان يخاطر بها.
ان تحرير نحو 80 سجينا امنيا من اصل 104 طلبتهم السلطة ـ كلهم معتقلون من عهد ما قبل اتفاقات اوسلو ـ سيوفر لعباس تفوقا في الصراع الداخلي مع حماس.
هذا انجاز حقيقي يتداخل مع تطورات اخرى تدخل المنظمة في ازمة: استئناف الاتصالات السياسية وبالاساس، الانقلاب العسكري في مصر، الضغط المصري على خلايا الارهاب البدوية في سيناء واغلاق معظم الانفاق من سيناء الى قطاع غزة في رفح. حاليا، تنظر حماس حتى الان بدهشة ما الى التطورات في مصر، لاحقا قد تفكر المنظمة في موضوع استمرار وقف النار مع اسرائيل وهل لا يزال يخدم اهدافها.
بقدر ما يمكن ان نعرف، ليس لحماس ترددات مشابهة في الضفة الغربية. هناك تعتقد التعليمات الثابتة للنشطاء باستمرار الكفاح العنيف ضد اسرائيل في كل مناسبة. غير أنه لا توجد الكثير من المناسبات. فالضغط الوحشي الذي تمارسه اسرائيل والسلطة على نحو منسق في السنوات الست الاخيرة شل معظم نشاط الذراع العسكري لحماس.
فمنذ عدة سنوات ليس للمنظمة رئيسا للذراع العسكري في الضفة، وذلك لان كل نشيط يبرز على المستوى الاقليمي يعتقل فورا من السلطة أو من الاسرائيليين. ولا يزال يتبين من المعطيات التي تعرضها المخابرات أنه منذ بداية السنة يبدو ملموسا ارتفاع في عدد محاولات العمليات بالسلاح الناري: 95 عملية احبطت في النصف الاول من هذا العام، مقابل 128 في كل العام السابق ـ ارتفاع بنحو 50 في المئة. واحبطت 24 محاولة لاختطاف اسرائيليين حتى الان هذا العام، مثل عدد محاولات الاختطاف التي احبطت في كل العام الماضي.
تعريف ‘محاولة اختطاف’ تصاغ بشكل شبه موسع في المخابرات. في السنوات الاخيرة تسود في الضفة النكتة عن الفلسطيني الذي يحلم عن عملية في الليل ويستيقظ في الصباح ليكتشف ان المخابرات تقف على باب بيته. ولا يزال الاهتمام بالاختطاف واضحا وسيوجد طالما بقي السجناء في ايدي اسرائيل.
الى جانب المفاوضات السياسية لا يمكن تجاهل الاثار المحتملة للهزة في العالم العربي على الوضع في المناطق. وفي قائمة العناصر التي تقلق الجهات الامنية يجب أن نحصي ايضا الارهاب اليهودي والاحتكاك المحلي بين المستوطنين في البؤر الاستيطانية وجيرانهم.
. ولكن حاليا، على خلفية استئناف المفاوضات، فان العامل الحاسم في منع الانفجار هو كما وصفه وزير الدفاع قبل عقد الكي في الوعي. اما الزمن فقد اثبت بانه محق: الوحشية الناجعة التي اتخذتها اسرائيل في قمع الانتفاضة الثانية لا تزال تبعد الانتفاضة الثالثة. الغضب الفلسطيني على الاحتلال لا يزال على حاله. ولكن عندما يكون تقريبا لكل عائلة موسعة في الضفة شهيد في الصراع او سجين في السجن الاسرائيلي، فان الشهية للمواجهة المتكررة تبقى ضيقة.
هآرتس 26/7/2013