نشكو في كثير من الأحيان ولاسيّما في المواقف العاطفية الحميميّة من قصور الكلام ومن عجزه عن التعبير عمّا يجيش داخلنا من فيض المشاعر تجاه شخص أو موقف. نتّهم اللغة هكذا وبلا تردّد وبلا خجل بأنّها قطعت عن مشاعرنا السّبل ولم تحمل سيولا جارفة من العواطف. والأغرب من هذا أنّ من يستمع إلى شكوانا يعذرنا ويتفهّم قصورنا، ويلعن معنا كلمات عطّلت كثيرا من مواجيدنا، ولربّما تخيّل هول ما ينتابنا من مشاعر قد تكون ضاعت في طريقها إلى الكلمات، ولم تجد في اللغة الشائعة ما يحتويها أو هي ظلّت حبيسة النفس المفردة.
حين يقول زيد أو هند «أحبّك» لمن يحبّان، هل تنقل العبارة نفسها المشاعر ذاتها، سواء أكانت جيّاشة أم معتدلة، كاذبة أم صادقة؟ في حالة فيضان الحبّ يشكّ قائل «أحبّك» أنّ هذه العبارة ستحمل درجة اللّهيب العاطفي الذي يكاد يجرف كيانه، إذ حين تخرج العبارة ستخرج باردة أو معتدلة هكذا يشعر ولن تخرج بحرارة يريدها.
نحن نستعمل لغة مشتركة أو شائعة في مواقف مختلفة لنعبّر عن دلالات واحدة. وهذا لا يجعلنا نستعيد عبارات واحدة فقط، بل جملا تصبح كالمضروبة ضرب السكّة من نوع «أحبّك» أو «أهواك» أو «أعشقك» عند الحبّ؛ و«أكرهك» و«أمقتك» و«أبغضك» عند الكره. وهذه جمل مكرّرة معادة يقولها النّاس آلاف المرّات للتعبير عن معنى واحد، إن حبّا أو كرها. غير أنّ الحبّ والكره ألوانٌ متعدّدة أكثر تعدّدا من العبارات الدالة عليهما، لأنّ أسباب الحبّ والكره مختلفة، وتفاصيلهما لا يعلم إحصاءها إلاّ محصي المشاعر؛ ولأنّ الناس أصلا لا يحبّون في الشكل نفسه. وتُنوّع الحضارات والثقافات طرق حبّها، وتظلّ العبارات واحدة تنقل دلالة واحدة وتعطّل الفروق بينها. العبارات المعطِّلة هي إذن عبارات تكاد تخلو من معناها من فرط تداولها ويصبح ذلك المعنى الذي تدلّ عليه شائعا باهتا لا روح فيه وعادة ما تكون العبارات المعطِّلة في اللغة الشائعة.
اللغة الشائعة استعملناها في هذا السياق المخصوص للدلالة على طريقة في بناء الكون باللغة متَّفَقٍ فيها اتفاقا يصل حدَّ الشّيَعَانِ. وتدخل في هذا الضرب من اللّغة الجمل التي تقال وتكرّر في سياقات متشابهة. حين تنجح تقول «نجحتُ» وتقول «سأسافر» حين تعزم على السّفر وحين تقسم تقول «والله»، فهذا الضرب من الكلام الذي يُعاد ويستعمل في وصف أكوان متشابهة هو عندنا اللّغة الشائعة. لكنّ الإشكال في بناء الأكوان هو أنّ لكلٍّ رؤيتَه للكون الذي يبنيه من زاوية. هذه الزاوية المختلفة قلّما تراعيها اللغة الشائعة، فحين تقول «أحبّك» لمن تحبّ تكون قد بنيت بهذه الجملة كونا مخصوصا، ولكن بالاعتماد على كلام شائع، فيذهب في إدراكي أنّك بنيت تجربة عامّة بلغة شائعة، والحقّ أنك تضمر في نفسك وأنت تبني هذا الكون تجربة فريدة في الحبّ هي تجربتك الحميمة.
اللغة الشائعة هي النواة اللغوية الأساسية التي نستعملها كلّ يوم وإليها يذهب كلامنا مباشرة عند تنشيط الذاكرة اللغوية، لذلك لا يمكن أن نجهد الذهن كثيرا في تذكّرها. لهذا اليسر في المعالجة الذهنية نلجأ في بناء أكواننا المتشابهة إلى لغة شائعة؛ لكنّ الخصوصيّة تظلّ شيئا ناقصا في ذلك الشائع، فنتمّه بالوصف وتفاصيله أو بالتّخصيص وعناصره، أو نلجأ في بعض الأحيان إلى العُدول عن تلك اللغة الشائعة بابتداع كلام جديد نريد به أن نبلّغ تجربتنا الحميمة ونبني كوْنَنا المخصوص بكلام مخصوص.
الرّغبة في التفرّد تخلق اللغة المختلفة التي عادة ما يكون وراءها موقف من اللغة الشائعة. نحن لا ننزعج في العادة من أداء شائع، ولذلك ترانا نقبل عليه ونكرّره لأنّ الجهد العلاجيّ في إدراكه قليل؛ لكن أن نكسره ونجنح إلى تجديدٍ فيه بعلاج يكون جهده الإدراكيّ أكبر، فذلك يعني أنّ لنا موقفا سلبيّا منه؛ وهذا ينطبق على اللّغة وعلى أيّ نشاط بشريّ غيرها. ففي مقهى عموميّ نشرب القهوة عادة بالطريقة نفسها؛ لكن أن يُجوّد شارِبٌ مَا طريقته في شربها بأن يحمل الفنجان بلطف ويطبق شفتيه بحِلم على حافّة الفنجان: أي أن يجعل طريقة شُرب القهوة موضوع مهارة وتدبّر، فهذا يعني أنّه لا يوافق مبدئيّا على طريقة الشرب الشائعة بقطع النظر عن نيّته من وراء ذلك. كذلك الأمر في اللغة حين يقود المتكلم المخاطب بتراكيب غير مألوفة إلى المعنى القديم كأن يقول «أكرهك» ويقصد «أحبّك» أو يقول بالتونسية «نموت عليك ونفنى»؛ بالجملة الأولى ألبس المعنى نقيضَه تنَكُّرا وتشويقا، وفي الجملة الثانية ألبس أحلى معنى حيوي لبُسا دلالية قاسية عن القتل والفناء .الشّعراء هم أظهر المتكلّمين هدما للّغة الشّائعة؛ لكنّهم ليْسُوا أكثرَهم فعلا لذلك. يهدم الشعراء لغة شائعة لكنّهم يبنون بطول الوقت لغتهم الشّائعة حتى يأتي غيرهم ليهدمها.
تعيش العبارات المعطّلة في بيئتها المفضلة: اللغة الشائعة. لكن ليست العبارات المعطّلة ما يعرف في اللسانيّات بالعبارات المسكوكة أو المتلازمة كقولهم في العربية «ماتَ حَتْفَ أنْفِهِ» وإن كان في هذه العبارات تعطيل لدلالتها القديمة. العبارات المعطِّلة هي عبارات تستعمل في اللغة الشّائعة العاديّة في معنى شائع، وخالية من أيّ إشارة لخصوصية المعنى الذي تحيل عليه. صحيح أنّ قدر الكلم أن تكون جميعا كذلك لكنّها تصبح في الكلام الشائع أكثر عطلا. ومن سمات هذه الكلم أنّها تتلبّس بمعناها الشائع ويصعب أن يعاد شحنها بدلالة جديدة.
في كلمة «أكل» مثلا يمكن أن يُزال عن الدال لباس الأكل الفيزيائي ويُشحن بمعنى جديد، بدون أن ينفى المعنى القديم كلّيا كقوله تعالى (تأكلون التّراث أكلا لمّا: الفجر، 19) أو كقول ابن زيدون وهو يعرّض بولادة وبابن عبدوس: «أكْلٌ شَهيٌّ أصَبْنَا مِنْ أطَايِبِهِ* بَعْضًا وبَعْضًا صَفَحْنَا عَنْهُ لِلْفَارِ». فعبارة «أكَل» ومشتقّاتها ليست من العبارات المعطّلة لأنّ دلالتها الأصليّة تُهدم وتشحن بالمعاني الجديدة. بيد أنّ العبارات المعطّلة هي عبارات استحوذت عليها دلالة مهيمِنة استحواذا عطّل فيها قابلية أن يعاد إفراغ دلالتها القديمة وشحنها بجديدة. عبارات المشاعر من نوع أحبّ وأكره وأحقد وأحسد وأغار وأعشق وأحزن وأفرح هي من هذا النوع: لا يمكن أن تهدم دلالتها القديمة وتبنى لها دلالات جديدة؛ لا يمكن ذلك بالاشتراك فلا شريك لها يمكن أن يعدّد دلالتها؛ ولا يمكن ذلك بالمجاز فهي معاني أحوال لا تردّ إلى الملموسيّة؛ ولا يمكن خلق دائرة شعورية أعلى منها ولا أكثر تجريدا نعدّها وجها مجازيّا لها. هذا لا يدخل فيه الرّمز مثل استخدام أحبّك في السياق الصوفي. فهذا الحبّ هو وجه من العاطفة يعطّل خصوصية الحب الذي للمتصوفة، كما يعطّل لفظ الحبّ خصوصيّة شعور الحبّ لدى المحبين المختلفين. إنّ التعطيل الذي في عبارة «حبّ» هو ما جعل ايجين إيشار وهو جنرال فرنسيّ يقول: « يا حبّ، أيّها الحبّǃ إنّ اسمك الحقيقيّ هو الغيرة».
٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
توفيق قريرة
ألا بارك الله هذا الجهد الإبداعي المتواصل من الأستاذ توفيق قريرة في قراءاته السيمائية المفيدة والممتعة لعدد من المفردات والتراكيب اللغوية، ولا أعرف إذا كان من حقي أن أقترح عليه أن يلتفت إلى نصوص قصيرة من المدونة النصية العربية ، قديمها أو حديثها ، فيقاربها مقاربة سيمائية كالتي عهدناها منه، وليكن مقطعا من قصيدة أو جزءا من خطبة أو توقيعا من التوقيعات ، أو مثلا من الأمثال ، أو قصة قصيرة جدا، مع الدعاء بالتوفيق الدائم والإبداع المتواصل.
نحن في أجواء العولمة والاقتصاد الإليكتروني، دخول الآلة بين الأنا والآخر نبهتنا إلى أن الحوار وجها لوجه، يختلف عن الحوار بالتدوين من خلال الآلة، فنبرة الصوت، وطريقة الإلقاء، وتأثيره على الحواس الخمس، يدخل من ضمن مفاهيم لغة الحوار بطريقة صحيحة وبعيدا عن سوء الفهم، وهذا ما لا وجود له في حوار لغة التدوين، ومن لا ينتبه لذلك، يقع في مطبات عاطفية وخسائر اقتصادية في كل المجالات، أدت إلى أن شبح الإفلاس إن لم يكن تهديد الموظف (دلوعة أمه) رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب، لو حاول أي أحد نزع كرسي الوظيفة منه، في عام 2018 ستنهار العملة وأسواق الأسهم العالمية.
الإشكالية في دولة الحداثة ليست عقلية الفرعون، الإشكالية في دولة الحداثة التي فضحتها العولمة والاقتصاد الإليكتروني (الأتمتة) هو المزاجية الانتقائية في طريقة تأويل نص القانون، وأفضل دليل عملي ما حصل مع المواطن محمد محمد مرسي العياط بعد 3/7/2013، الذي تم اعتبار حواره مع حماس أو قطر خيانة؟! بل وتم اعتبار عدم دفع ضرائب لمدة 18 عام في أمريكا بواسطة دلوعة أمه (دونالد ترامب) رغم اعترافه اثناء المناظرات بينه وبين هيلاري كلينتون وفي بث حي مباشر في عام 2016، حرية رأي، وفضح للنواب في كشف تقصيرهم في طريقة صياغة نص القانون، فاستطاع بذكائه دونالد ترامب، ضرب القانون عرض الحائط، كما هو حال مؤسسات الدولة العميقة في مصر من المؤسسات والشركات والمصانع العسكرية والأمنية والقضائية في عدم دفع الضرائب والرسوم والجمارك، والفضيحة بعد ذلك يسأل أحدهم كيف أن شبج الإفلاس يطارد دولنا في عام 2018؟!
ما يميز طريقتنا في الأتمتة للوصول للحوكمة الرشيدة، التي فرضها البنك الدولي ومعهد الحوكمة الكندي بشروطهم الخمسة، هو أننا نبدأ من خلال أصغر موظف من بالعمل على زيادة دخله، لزيادة دخل الأسرة، وبالتالي الدولة وليس العكس، كما هو حاصل في كل حلول الأتمتة بغض النظر كانت أمريكية أو صينية أو روسية أو أوربية أو يابانية، لأي دولة تعيش على الضرائب والرسوم والجمارك لتمويل ميزانيتها، بعد أن قام جورج بوش الأب في عام 1991 من مدريد في الذكرى الخمسمائة لطرد اليهود والمسلمين من دولة الحداثة، فقط لأنهم يمثلون ثقافة الـ آخر (الترتيب الجديد للعالم، تحت قيادة صندوق النقد والبنك الدولي، ورقم سويفت الأمريكي في نقل الثروات)، بغض النظر كانت أمريكية أو أوربية هي سبب تقصير الموظف بوظيفته.
ياأستاذ أنت طبيب ليسانيات ( تخصص لم يظهربعد حسب علمي المتواضع..)؛ وليس أستاذ اللسانيات..كل كلمة من الموضوع عدت قراءتها مرات؛ ومرات..كل مرة أحس بحلاوة جديدة؛ ورونقا؛ وطلاقة؛ وطلاوة…فيزيد تعلقي بالمضوع؛ وكأنه يجذب أنتباهي؛ وتركيزي أليه جذبا مغناطيسيا..فققرت . نسخ الموضوع؛ وتحنيطه؛ ووضعه كقلادة في رقبتي ألجأ أليه كل حين.يا طبيب زدنا من مثل هذه الواضيع الشيقة التي
تخرجنا؛ وتبعدنا عن تلك الخربشات المنحطة التي لبعض أشباه الكتاب ..وماهم بكتاب ؛ وماهم باعلاميين فلولا أنها مكتوبة بحرف عربي لوصفتها بشيئ آخر.. لايليق بالمقام..شكرا مادام مثل هذه المواضيع تقرأ..