قُبَيْل تدشين العلاقات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة والصين في أوائل السبعينيات من القرن المنصرم، كان تبادل الزيارات بين فريقين من البلدين في مباريات لكرة الطاولة مناسبةً لإطلاق تسمية «دبلوماسية كرة الطاولة» على تلك العلاقات الرياضية التي رأى المراقبون آنذاك أن القصد منها هو التمهيد لعلاقات سياسية علانية. فكم بالأحرى أن تُطلَق تسمية «دبلوماسية الرقص» على ما يبدو أنه بات وسيلة سياسية تفوق بالأهمية والرواج ما مثّلته مباريات كرة الطاولة قبل نصف قرن.
فقد دشّن الرئيس الحالي للولايات المتحدة سياسته الشرق أوسطية في مايو/أيار 2017، خلال أول زيارة له خارج بلاده بصفته رئيساً لها وكانت للمملكة السعودية، دشّن سياسته رمزياً بإنجاز عرضة نجدية، وهو الاسم الذي يُطلق على الصنف النجدي من رقصة السيوف التقليدية في منطقة الخليج. رقَص دونالد ترامب في الرياض مع مضيفيه السعوديين، وما لبث أن تبيّن أن قطر كانت أول المستهدَفين بتلويحهم جميعاً بالسيوف، إذ ما كاد يمضي أسبوعان حتى شنّ المحور السعودي-الإماراتي حملة شعواء على الجزيرة، لا زالت مستمرّة إلى الآن بالرغم من إخفاقها في تحقيق أي من أهدافها.
ولا شكّ في أن رقصة الفالس التي أنجزها فلاديمير بوتين قبل عشرة أيام مع وزيرة خارجية النمسا التي دعته إلى حفل زفافها، تلك الرقصة كانت خطوة سياسية بامتياز. بل إن المغزى السياسي لتلبية بوتين دعوة الوزيرة، وهي دعوة جرى تصويرها على أنها «خاصة»، إنما هو ما يبرّر استخدام الطرفين الروسي والنمساوي للأموال العامة في تنفيذ الزيارة. هذا لأن بوتين، ناهيكم بالوزيرة، لم يبلغ بعد مستوى من الاستبداد يسمح له بالتصرّف علانية بالمال العام لأغراض شخصية على طريقة الحكّام الذين لا يميّزون بين جيوبهم الخاصة وخزينة الدولة، وهم كُثْر في منطقتنا. فمثلما قام بزيارته «الخاصة» مصطحباً جوقة موسيقية قوزاقية وطاقم كامل من الحرّاس والمستشارين على نفقة الدولة الروسية، تحمّلت الخزينة النمساوية هي أيضاً تكاليف عالية من جرّاء الزيارة، وذلك من أجل ضمان حراسة الرئيس الروسي جوّاً وبرّاً أثناء تواجده في النمسا. وإنه لأمرٌ جليّ أن الزيارة في نظر الحكومتين كانت حلقة بارزة في مسار دبلوماسيتيهما (ولا يُعقل أن تكون الوزيرة النمساوية قد قرّرت دعوة بوتين بدون استشارة حكومتها)، بما برّر في نظرهما استخدام المال العام في تحقيقها.
فما هو إذاً القصد السياسي من رقصة الفالس في النمسا؟ إنها تندرج في الحقيقة في إطار الحملة السياسية التي تخوضها موسكو بوتيرة متصاعدة في المدّة الأخيرة من أجل قطف ثمار النصر الذي حقّقته في سوريا، وبالتواطؤ مع بعض الأطراف الأوروبية. ولا بدّ من عودة قصيرة إلى الوراء لفهم مغزى الفالس من خلال إدراك دوافع تدخّل روسيا العسكري المباشر في الساحة السورية. فيا ترى، ما الذي حدا بوتين على اتخاذ قرار التدخّل في خريف عام 2015؟ صحيح أن القرار جاء في وقت كان فيه نظام آل الأسد يواجه صعوبات ميدانية متزايدة في مواجهته للمعارضة السورية، وبالرغم من تدخّل إيران وأعوانها الإقليميين إلى جانبه منذ ربيع عام 2013. لكنّ موسكو لم تتدخّل مباشرة لإنقاذ النظام في المرة الأولى، بل تدخّلت في الثانية بينما كان بإمكانها الاكتفاء بتصعيد تسليحها للنظام، بما في ذلك تعزيز قواته الجوّية حتى لو تضمّن الأمر مشاركة طيّارين روسيين بصورة مستورة.
تحيل الإجابة عن السؤال الذي سبق إلى ما تبدّل بين التاريخين وجعل موسكو تقوم بالمجازفة. فثمة أمران تبدّلا بين عامي 2013 و2015 بما يؤثّر على القرار الروسي: أوّلهما احتدام الصراع على أوكرانيا والقُرم في عام 2014 بين روسيا والاتحاد الأوروبي مدعوماً من الولايات المتحدة. وقد واجهت الدول الغربية سلوك موسكو التوسّعي بفرضها عقوبات اقتصادية عليها، أدّت إلى أزمة مالية حادة في روسيا في عامي 2014 و2015. هذا وقد جاء تجديد مجموعة الدول السبع لتلك العقوبات في حزيران/يونيو 2015 ليحثّ بوتين على إيجاد ورقة يواجه بها الضغط الأوروبي والغربي. فبانت تلك الورقة في عام 2015 ذاته مع التصاعد المفاجئ لموجة نزوح اللاجئين السوريين إلى أوروبا إثر النقلة النوعية في النزاع السوري الناجمة عن انتشار تنظيم «داعش» على منطقة شاسعة من الأراضي السورية والعراقية، ومن ثمّ بدء حملة القصف التي شنّها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة.
فالأمر الثاني الذي طرأ على المعادلة هو بالتحديد الأزمة السياسية الكبرى التي أثارها النزوح السوري إلى أوروبا. وقد رأى بوتين كيف خلقت فورة الهجرة أزمة سياسية حادّة في عموم القارة الأوروبية، انتهزتها قوى أقصى اليمين العنصري والكاره للإسلام لتصعّد دعايتها الديماغوجية وتحقّق قفزة نوعية في نفوذها، بما ساهم بدوره في مفاقمة الأزمة. فأدرك الرئيس الروسي أن إمساكه بمفتاح الوضع في سوريا، وبالتالي مفتاح النزوح منها والعودة إليها، سوف يشكّل ورقة بالغة الأهمية بيده. وهو ما دفعه إلى المجازفة بالتدخّل، بادئاً بحذر وهو يعلن أنه تدخّلٌ محدود ولوقت محدود، الغاية منه المساهمة في «الحرب على الإرهاب». وكان بوتين يرصد ردّ فعل واشنطن كي يرى إن كان يستطيع المضي قدماً أو يضطر إلى الانسحاب بعد حين كما أعلن.
أهمّ ما كان الرئيس الروسي يرصده هو موقف واشنطن من تسليم صواريخ محمولة مضادة للطيران للمعارضة السورية، وهو ما كانت إدارة الرئيس باراك أوباما قد منعته منعاً باتاً عن حلفائها الإقليميين منذ نشوب النزاع المسلّح في سوريا. ولو بدّلت واشنطن موقفها من التسليم، لكان من شأنه أن يجعل مخاطر تدخّل الطيران الروسي أكبر من الفوائد المرجوّة من مواصلته. فلم ينسَ أحد كيف أن تسليم واشنطن لذلك النوع من السلاح للمجاهدين الأفغان في الثمانينيات لعب دوراً حاسماً في إنهاك الاحتلال الروسي لأفغانستان. بيد أنه ما لبث أن تأكّد لبوتين أن باراك أوباما مزمعٌ على التمسّك بمنع حلفاء واشنطن من تسليم ذلك النوع من السلاح، الذي تصنّعه تركيا على أراضيها بترخيص أمريكي.
والآن وقد أشرف النظام السوري بدعم من روسيا وإيران على استرجاع سيطرته على معظم الأراضي السورية، يسعى بوتين وراء قطف ثمار تدخّله الذي كان له الدور الحاسم في ترجيح كفّة النظام. فهو يقترح على كافة الدول التي تأوي لاجئين سوريين إرجاع هؤلاء إلى سوريا في ظلّ حكم آل الأسد وتحت رعاية موسكو. وهو يعلم أن أكثر المتحمّسين لمثل هذا العرض في أوروبا هم تحديداً قوى أقصى اليمين التي تنتمي إليها وزيرة خارجية النمسا وحكومتها، مثلما ينتمي إليها كلٌ أو قسمٌ من حكومات إيطاليا والمجر وبولندا. وقد توقّف بوتين في النمسا ليس حبّاً بالرقص مع الوزيرة بالطبع، بل للإشارة إلى تأييد أصدقائه داخل الاتحاد الأوروبي لمقترحه، وهو في طريقه إلى لقاء المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل. هذا وهو يدرك أن هذه الأخيرة تواجه ضغطاً شديداً من يمين الائتلاف الحاكم الذي تترأسّه، ناهيكم بأقصى اليمين المعارض، حول مسألة اللاجئين السوريين في ألمانيا.
أراد بوتين إذاً إبراز الأصوات المتصاعدة داخل الاتحاد الأوروبي التي تدعو إلى وقف العقوبات المفروضة على بلاده والتعاون معها في الملف السوري، بما في ذلك التعاون مع النظام السوري التابع لها. وهو يقترح على الأوروبيين تخليصهم من وزر اللاجئين بشرط إنهائهم للعقوبات المفروضة على روسيا وتمويلهم لإعادة بناء المناطق السورية المهدّمة، التي تنوي روسيا، بشركاتها العامة والخاصة، جنيَ أرباح طائلة من إشرافها عليها. وقد قدّم وزير خارجية لبنان قبل أيام صورة نموذجية عمّا تصبو موسكو إليه: فهو يشاطر أقصى اليمين الأوروبي إرادة التخلّص من وجود اللاجئين السوريين بأسرع وقت ومهما كان المصير الذي ينتظرهم في بلادهم. وفضلاً عن ذلك يأمل أن موسكو ستتيح للسماسرة اللبنانيين حصد فتات مائدة إعادة الإعمار السورية، وهو ما جعل الوزير اللبناني يتناغم مع زميله الروسي بدون حتى أن يحتاج إلى رقص الدبكة معه…
كاتب وأكاديمي من لبنان