‘يوم خذلتني الفراشات’ عنوان رقيق لرواية شديدة القسوة في كثير من مفاصلها. عنوان مخادع يبشر بشيء، وينتهي إلى أشياء لا صلة للفراشات بها من الوهلة الأولى، ولكن نتبين لاحقاً أن الفراشات خذلته صغيراً، وكبيراً. فالفراشات هذه الكائنات الجميلة الفاتنة، رمز الرقة والجمال، لا يمكن أن تكون ظهيراً للساسة من أي لون ومستوى، فكل الساسة على النقيض مع الفراشات. لأن الفراشات قرين الطفولة والبراءة، ولم تكن يوماً مرادفة لدهاليز السياسة وأوكارها وقذارتها!
‘يوم خذلتني الفراشات’ رواية مدهشة في الأدب السياسي، كتبت بإتقان وحرفية عالية، ولعل من أهم عوامل تميزها يكمن كون الأحداث تسرد لنا بلسان الراوي نفسه الذي تقلبت به الأحوال، ثم تقلب في المناصب حتى وصل إلى رئاسة الوزراء، فنقل على لسانه كل ممارساته ومعلوماته، فجاءت الأحداث مقنعة جداً، حقيقية، واقعية. بل ونجح الكاتب في استدراج القارئ ليتعاطف أحياناً مع الراوي على الرغم من فساده وظلمه وجبروته، ويتلمس له بعض العذر أحياناً. فرئيس الوزراء إنسان له مشاعره وهواياته ومخاوفه ولحظات ضعفه.
الرواية باختصار حكاية شاب متميز متفوق منذ طفولته، وقف له ماضي والده المعارض حجر عثرة أمام الحصول على عمل، وحصل على فرصته الأولى في المجلس الثقافي البريطاني، وهذا له دلالته التي لا تخفى. وبعد حدوث الانقلاب، تاجر الانقلابيون بالرموز الوطنية التي كانت ضحية للنظام السابق، فاقتنص الشاب الفرصة بذكاء ودهاء، واستطاع أن يتاجر بتضحيات والده ويستغلها، فاصطاد أكثر مما توقع أو تخيل. ووضع خطته طويلة المدى، وأنضجها على نار هادئة، فتوسعت شبكة علاقاته مع أصحاب النفوذ في الداخل والخارج، وكانت المرأة أهم هذه المفاصل. وعندما اقتربت نهاية النظام، تخلص من ربقته، بالسفر إلى أمريكا في دورة تدريبية، ثم عاد بعد سقوط النظام، فكان المنقذ وأمل الشعب. واستطاع بعبقرية سياسية خبيثة، وبمساعدة السفارة الأمريكية أن يوطد أركان حكمه، ويخدع الشعب، ويقصي المعارضين. ولم ينس أن يسمن أرصدته في البنوك الأجنبية، فتضخمت، وكان لا يدري من أين تأتيه الملايين، فبكل صفقة أو مشروع له فيه نصيب. وانتهى عهده، عندما مرض مرضاً شديداً، ألزمه الفراش، ثم حمله إلى القبر، بعد أن ترك خلفه زوجه وولداً وحفيداً، وشعباً مخدوعاً.
نجحت الرواية في إرسال مجموعة من الرسائل والبرقيات ومنها:
– عالم السياسة علم قذر مظلم. الخفاء هو الذي يقرر كل شيء، من خلال كؤوس الخمر وسيقان النساء.
– المعارضون في معظمهم طلاب سلطة، فإذا استلموها كالوا بكيل من ثاروا عليهم، وغالباً بصورة أسوأ.
– للسفارات الغربية، وخاصة سفارة الولايات المتحدة دور كبير في السياسة الداخلية، ولعبة المناصب، والصفقات.
– من السهل خداع الشعوب، لأن الشعوب تستكين لمن يدغدغ مشاعرها، وسرعان ما تنسى.
– على السياسي أن يبقى متيقظاً فطناً حذراً، حتى لا تقتلعه رياح الغدر والكيد والمؤامرات.
– لكل سياسي مهما فسد أو تجبر، نقاط مضيئة، تقوى وتضعف، ولكنها لا تنطفئ. وضمير ينكزه بين الحين والآخر.
– السياسي مهما علت مناصبه، إنسان ضعيف في حقيقته، يملأ قلبه الخوف والقلق.
– المصالح تتحكم بالسياسي، أما المبادئ فلا، إلا إذا كانت تخدم المصالح.
– التوازنات السياسية في الحكومات، تهدف لخداع الشعب أولاً وأخيراً، وليس من أهدافها خدمة الوطن أو الشعب.
– السياسي يحب الوطن بقدر ما يستطيع أن يحلبه، وإلا فالوطن لا يعنيه.
– ينسى السياسي الشعب بمجرد جلوسه على الكرسي، ويبني بينه وبين الشعب جدراناً وسدوداً لا سبيل إلى اجتيازها أو هدمها.
– التجارة بالمواقف الوطنية بضاعة رائجة عند طرفي المعادلة السياسية، وهي تجارة رابحة في كل الأحوال.
– الصحافة الأجنبية هي المفضلة عند السياسيين، ومهمة الصحافة المحلية أن تلهث وراءها.
– لكل سياسي كبير كلاب تتبعه، وتزين له. وعندما تستشعر نهايته، تقعي جانباً، وتهز أذنابها للقادم الجديد.
نجح زياد محافظة في توريطنا في قراءة الرواية بلغتها الجميلة، وأحداثها المثيرة، وتسلسلها المتقن السلس، ومفاجآتها التي لا تنتهي. وقد مزج بين الأدب والسياسة بشكل رائع مميز، في قالب مدهش متقن، جعلنا نتعرف دهاليز السياسة وتقلباتها وعوالمها الخفية وتوازناتها المتغيرة، وحبالها الراقصة، ودنسها الذي لا ينتهي، وصفقاتها التي تتضخم، ونهاياتها التي لا بد منها. وتعرفنا موقع الشعب من ذلك كله، فهو المخدوع دائماً، المهمش، المستضعف، المظلوم، الضحية، المغفل، سواء من السلطة الحاكمة أو من المعارضين، فكل يستخدم الشعب سلماً للوصول، فإذا وصل، ركله أرضاً ولم يعد له أهمية، وإن تململ فمن السهل إسكاته وخداعه.
مفاجأة الرواية ظهرت في الصفحة الأخيرة، عندما تبين أن الراوي (رئيس الوزراء) هو نفسه منذر الفاتح، الذي كنا نظنه صديقه. فقد نجح زياد محافظة في تمرير هذا الخلط حتى النهاية، حيث كان منذر الفاتح هو الضمير الحي الذي يقرع السياسي ويؤنبه وينصحه ويغلظ عليه القول أحياناً. ولكن أظن أن الحبل قد اهتز من الروائي في بعض المحطات، فحدث فصل بين السياسي ومنذر الفاتح، كشخصيتين مستقلتين.
وبعد، فإن ‘يوم خذلتني الفراشات’ (بيروت: دار الفارابي، ط1، 2011، 350صفحة)، رواية ناضجة دون شك، مدهشة في أحداثها وعوالمها وشخصياتها المتنوعة، تؤكد باع كاتبها الطويل في الأدب السياسي، وعمق تجربته وخبرته، وقدرته الفذة على الغوص في بواطن الشخصيات، والتلاعب بمصائرها بحنكة ودراية. وهي تبشر بمزيد من الروايات من هذا اللون المقروء، وخاصة في هذه الظروف المتغيرة التي تعصف بالعالم العربي. وهي رواية تغري بمزيد من الدراسات والمقالات لسبر جوانبها المختلفة، وتستخرج بعض مكنوناتها الجميلة الثرية.
[email protected]