‘البستاني’ الذي أضاع البوصلة

حجم الخط
2

اعادني التقرير الذي نشره الشاعر نجوان درويش في صحيفة ‘الأخبار’ اللبنانية، (7 تشرين الثاني/نوفمبر 2013) عن مهرجان القدس الدولي للسينما الذي اقيم في تموز/يوليو الماضي الى الأسى الذي صنعه مشاركة المخرجين الايراني محسن مخملباف واللبناني زياد الدويري في المهرجان. واذا كانت مشاركة المخرج اللبناني الشاب خجولة ومتلعثمة وبلا معنى لأنها تمت عبر سكايب، فان مشاركة مخملباف، وهو احد اعمدة الفن السينمائي في ايران، تثير الغضب والحزن، وتطرح علامة سؤال كبرى حول معنى دور الفنان السياسي والاجتماعي.
تعرفت الى اعمال مخملباف من خلال مهرجان سينمائي عن السينما الايرانية نظمه ‘مسرح بيروت’ عندما كنت مديره الفني، في تسعينات القرن المنصرم. يومها، التقى الجمهور اللبناني بسينما مدهشة، سوف تتحول الى واحدة من علامات السينما المعاصرة، وسيصير مخرجوها رواد انتاج حيلة السينما البارعة في مواجهة جميع اشكال القمع. يومها اكتشفنا مع كياروستامي لعبة الطفولة التي تصير استعارة مدهشة للمجتمع، وذهبنا مع مخملباف الى ‘سلام سينما’، حيث يتحول الفن وعاء لالتقاط الرغبات الانسانية العميقة.
لكن شهر العسل بين السينما والنظام الاوثوقراطي في ايران سرعان ما انتهى، وقاد القمع الى صمت بعض السينمائيين وهجرة بعضهم الآخر. لكن في زمن القمع هذا اثبت السينمائيون عن شجاعة قلّ نظيرها، وصمدت اغلبيتهم التي صارت ملجأ اخلاقيا ليس للثقافة الايرانية وحدها بل للثقافة في العالم الاسلامي بأسره.
ماذا اراد مخملباف من زيارته لاسرائيل، وماذا جنى من حفلات التكريم التي انهالت عليه؟
يحق للفنان ان يستعيد البهائيين في فيلمه، ويمشي في حدائق عباس افندي الجميلة في حيفا، لكن الم يخطر في باله وهو يقف على جبل الكرمل ان ينظر باتجاه وادي النسناس الى حيث طرد من تبقى من اهل حيفا بعد سقوط المدينة، او ان يستكشف وادي الصليب المخلّع الأبواب، او ان ينظر الى الميناء حيث تم طرد الأغلبية الساحقة من سكان حيفا عبر رميهم في البحر عام 1948؟
الخلاف ليس على فيلم ‘البستاني’، ولا على اعادة الاعتبار للعقيدة البهائية ولا على النضال من اجل الحريات ومن ضمنها حرية المعتقد الديني، هذه مسلمات يجب ان تكون في صلب اي عمل ديموقراطي، بل على تغطية القمع بسذاجة ليبرالية وصلت الى حد التهريج.
لقد سقط مخملباف في فخ الخلاف على الماضي، وهو فخ اسرائيلي بإمتاز، فخ تشترك في صنعه التيارات الاصولية الاسلامية واليهودية والمسيحية. لذا اعتقد المخرج الايراني او قرر ان يعتقد ان المشكلة يمكن حلها بالتبشير بالتسامح الديني، متناسيا ان الاصوليات ليست دينية فقط، بل قد تمتزج الأصوليتان الدينية والقومية في مركّب فاشي، يقدم اليمين الاسرائيلي نموذجه الواضح اليوم.
يمكن قراءة تصرف مخملمباف بوصفه تعبيرا عن ازمة تضرب النخب الديموقراطية والعلمانية في بلادنا، وهي ازمة عميقة تمس العلاقة بين الثقافة والأخلاق. ففي التخندق الذي تصنعه الاصوليات المتناحرة، يجد المثقف نفسه خارج الفعل الاجتماعي والتاريخي. بل قد يصاب بالحيرة امام السؤال الصعب الذي يطرحه الواقع السياسي المعقد والمتشظي في العالمين العربي والاسلامي. والسؤال هو كيف تكون شاهدا في شروط قمع وحشية تصعب فيها الشهادة فيصير الشاهد مشروع شهيد؟
الجواب لن يكون قطعا بالهرب من اصولية تقمعك الى استبداد يقمع الشعب في بلد آخر، او الى اصولية دينية-قومية تقمع الشعب الفلسطيني وتؤسس لنظام ابارتايد في فلسطين.
في فخ الهرب هذا سقط مخرج ‘سلام سينما’، وجاء الى فلسطين ليعطينا دروسا في لاجدوى مقاطعة اسرائيل! ويدعو الى التسامح الديني، كأن مشكلة الاحتلال الاسرائيلي هي مشكلة صراع ديني يمكن حلها عن طريق مفاوضات الهية!
لا اسعى الى ايجاد مبررات لمخملباف او لاشباهه وخصوصا بعض المثقفين العرب الذين يذهبون الى اسرائيل بحثا عن نجومية اعلامية تخبو لحظة ولادتها، فما قام به هذا المخرج الايراني ليس اقل من حماقة، وما اقترفه بحق نفسه وفنه وقضية الديموقراطية في بلاده يعادل الجريمة.
لكنني اريد ان اعترف انني عندما قرأت نبأ مشاركة المخرج الايراني في مهرجان القدس قام لا وعيي بمحوها من ذاكرتي، كأنني اردت عبر نسيان الحكاية ان لا احطّم ذاكرتي، فمخملباف صار بافلامه الرائعة جزءا من ذاكرتنا ووعينا، وليس سهلا ان نشهد كيف تقوم هذه الذاكرة بتحطيم نفسها بيديها، من دون ان يشعر المخرج بأي تأنيب ضمير، بل تراه يتفاخر في احاديثه الصحافية بفعلته، ويقدم لنا دروسا في الأخلاق!
مأزق الثقافة التي تدّعي انها ليبرالية هي تماهيها المطلق بالغرب. افهم ان يكون التماهي بقيم الثورة الفرنسية التي هي قيم كونية صارت ملكا للبشرية جمعاء، مثلما علمنا رئيف خوري، لكن هناك مسافة شاسعة بين هذه القيم وبين الممارسات الاستعمارية، من سجن ابو غريب في العراق الى سجون الاحتلال الاسرائيلي.
المأزق الذي يواجهه المثقف في عالمنا العربي والاسلامي هو كيف يقاوم القمع والاحتلال والظلم، وسط منحدر اصولي يحاول اخذ المجتمع الى القاع؟
يبدأ الجواب، في رأيي، من عدم نسيان البوصلة الفلسطينية. هنا يبدأ المعنى. البوصلة الفلسطينية هي نقطة البداية، ومعها تأتي قضية مقاومة القمع والاستبداد بأشكالهما المختلفة، من اجل بناء مشروع ديموقراطي ومقاوم. وهذا لا علاقة له بتلخيص مآسينا بالاحتلال الاسرائيلي، فهذه سذاجة سمحت للقمع بأن يتسربل بعباءتي الممانعة والمقاومة.
عملية صعبة ومعقدة، خصوصا بعد انهيار الحركة الوطنية الفلسطينية، لكنها معادلة لا بد منها، كي تستطيع الثقافة ان تكون ضميرا ودفاعا عن الحرية والعدالة.
عندما يتم تناسي هذه البوصلة يصير كل شيء مباحا ويتحول المثقف الى مهرج. وهذا ما حصل لمخملباف حين قرر ان يغمض عينيه عن رؤية الحقيقة ويتحول الى احد انبياء الإعلام الكذبة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ابو سامي د.حايك:

    الله الله على هذا الوعي و توجيه الإنتباه للجذور و الأصول و هي نواة كل عمل سياسي عربي لأنه ينبع من الهويه التي لا يسمح لأحد باختطافها مهما كان و هذا الفخ يقع فيه بعض العرب في الغرب و الذين لا يعرفون الفرق بين أن تكون في جوهر الثقافه متمسكا بالحقيقه الناصعه و السعي الدائم للإقتراب إليها و بين الخليط المسموم الذي يتسلل إلى عقول هؤلاء و يسلبهم هويتهم دون أن يشعرون و كم نحذّر من التطبيع و أساليبه الجهنميه و أن تفحص و تتمحّص بمن تتعامل معه و من يتودد إليك منهم و ليس له مرادا سوى أن تنسى بوصلتك الفلسطينيه و تستبدلها بكماليات برج عاجيه لا علاقه لها بالواقع المرير أو بالتاريخ فتصبح شريدا مرتين و يتيما مرتين فلا يكفيهم أن أخرجوك و آبائك و أجدادك من فلسطين و قتلوهم بل يريدون أن يُخرجوا فلسطين منّك فلا نغمض أعيننا و لو في غفلة الزمن

  2. يقول صالح علي ( تونس ):

    اليوم أنت تكتب يشفافية عالية يا أسناذ .. المعنى يبدأ من فلسطين .. شكرا ..

إشترك في قائمتنا البريدية