لو كانت عبادة ‘النظام’ قصة قصيرة جدا

لا يحتمل هذا المقال سوى أن يكون مكثفا رمزيا، وأشبه بمجموعة قصص قصيرة جداً، كالتي نشرتها مع زوجتي الحبيبة قبل أقل من أسبوع. كما أننا اليوم نعيش في مستطيل أضلاع لأن الحياة لا يمكن أن تضيق إلا في جهتين متوازيتين مع بعضهما.
‘غاشم’ هو الحديث عن المقدس الجديد، أو مقدس ما بعد الثورة الأوروبية على الدين، وما بعد عصور الحداثة التي تمردت على ما كان يعرف بالكهنوت ووصاية الإكليروس، على الرغم من بقاء فاعليتهما أحيانا في لاوعي الجماهير، حتى وهي تتمرد عليهما أو تتوهم ذلك، مع بقاء جزء من وعي الدين في صورة وعي بالوطن أو السياسة، باعتبارهما مكونا أساسيا لدين بديل ‘حداثي’، قد يبدوان أحيانا كمولود ذي تشوه خلقي يجمع صفات النوعين: القديم والجديد.
المقترح أن عصرنا لم يتخلص بعد من حاجته لاستبدال الكهنوت بآخر، بل على الأرجح قد استبدل كهنوتاً مزيفا لفكرة أصيلة خلاقة بألف صنم بألف وجه، لأن الوطن والسياسة أخطبوطان وكل منهما له أذرع كثيرة. الفرق أن عرش الآلهة الجديدة لم يعد يسمى ‘دينا’ بالمفهوم الكلاسيكي، وصار أقرب لكونه ‘نظاما’ سواء كان نظام حكم (متدين أو علماني) أو أسلوب حياة واستهلاك، أو نظام اقتصاد أو منهج تفكير.
كنت وأنا أتصفح ‘سيكولوجية الجماهير’ أمني النفس بأن أحتفظ بحلمي في إمكانية حصول وعي جماهيري لدى ‘الرعية’ أفضل حالا وأكثر أنسنة، من دون حاجة إلى صدام ثوري على ‘الراعي’، لكن مؤلفه غوستاف لوبون أصاب آمالي في مقتل، عندما أشار إلى أن الجماهير لا تعرف غير العنف الحاد شعوراً وأن تعاطفها لا يلبث أن يصير عبادة، وأنها لا تنفر من شيء إلا وسارعت إلى كراهيته حد الحقد. لكن المشجع في خلاصة لوبون أنه أصر على أن الوعي عملية كيميائية تنتج عن تفاعل جديد لمنتج كان قد تفاعل قديما، وبالتالي فهو يصهر القديم ويحمل بعض خصائصه ولا يعزل مادته عن التركيب الجديد الناتج، ما يعني أن وعي الجماهير في نظره سلسلة ممتدة لا يجوز أن تنقطع وتبدأ من نقطة الصفر، لكي تتطور وتتحسن. لكنه جيد سيئ أحياناُ، لأنه يعني أن المعادلة الجديدة قد تصهر وتحمل معها أسوأ خصائص المعادلة التي سبقتها وأقذر رواسبها لا أفضلها وأحسنها، وقد فعلت وورثتنا كهنوتاً جديدا متعدد الاتجاهات.
كنت أيضا أمني النفس وأنا أعيد مشاهدة سلسة أفلام ‘ماتريكس’ التي ناقشت مفهوم الثورة على النظام، ورسمت ملامح ‘السيستم’ الذي استعبدنا وصار يسير مصائرنا ولذاتنا وحاجاتنا، أن تنتهي الملحمة بحل آخر لا يعيدنا لنقطة البداية، وهي الحاجة التي أصر مؤلفه على طرحها خاتمة له: مفهوم ‘الخلاص’ الإعجازي الخارج عن المعقول والممكن. ويبدو أن مكون المعادلة الدينية القديمة للحل فرض نفسه في قصة الفيلم وحلِ عقدتها، وصار لزاماً علينا ألا نؤمن بأي مخرج من النظام سوى
بـ’مخلص’ متفرد فارق ينقذنا من خلال النظام وتحت دائرة قوانينه ورعايته، حتى وهو يخترق النظام من باب خفي، لأن النظام كان أصلاً يعرف بوجود ذلك الباب وصنع مسارا بديلا في حال دخل أي متمرد منه.
لو كان كل من ثار على عبودية النظام الواحد القهار قد برر ثورته بشيء آخر غير طلب الحرية المطلقة والانفلات من استبداد النظام، الذي نتج عن الدين الراعي لهذه العبودية وضيق قيوده كهنة هيكله العتيق طريقاً إلى حلٍ أفضل، لكنت قد تمردت من دون تردد، لكنني خشيت أن أكون كمن يتمرد على أبيه ليصبح موظفاً وضيعا عند أخيه الأكبر. لا شك أن مفهوم المواطنة والولاء والانتماء اليوم اكتسته عبودية أكثر شراسة وتطرفاً، ولا شك أن النظام فرض نفسه بديلاً أقل هيبة وأكثر سادية مما يبدو للبعض أن الدين جالبه. إن ما يبدو أنه كان كفراُ في نظر الدين وتوعدنا الرب بعقوبته الأخروية الآجلة، يبدو في حالة عبودية النظام كالجريمة التي يجب أن نعدم لارتكابها مع النفاذ الدنيوي المستعجل، بل أن التمرد اليوم على أي ‘نظام’ لم يعد يقابله نص متوعد مؤجل كقوله تعالى: ‘فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر’، فالمقصلة والجلاد بانتظار خروج الكافرين بالنظام إلى الساحة لتنفيذ الحكم عاجلاً غير آجل.
فمن شاء أن يستمتع بعبوديته الجديدة، فإنه مطالب بالانسياق لكل تنويم مغناطيسي يحمله النظام، ويبرر كل سوء برمجة تنتج عنها، بأنها ‘قيد التطوير’، أو أنها مجرد محاولة بائسة من الحاقدين عليه لمعاقبته. ومن شاء أن يكون شهيد تمرده، فإنه غالباً سيكون البوعزيزي الذي أحرق نفسه، لا لأنه كان يبحث عن باب خلفي ينفذ منه هرباً إلى الحل، بل لأن النظام صادر عربته ولم يعد أمامه سوى اختيار الموت هرباً من موت أشد بشاعة وأطول ألماً وأشد غموضاً.
أقولها مرارا وتكراراُ: لست أجمل فكرة الانتحار هنا، لكنني بت أتفهم الآن أكثر فأكثر لمَ يختار البعض أن يقتلوا أنفسهم، وربما أوضح في كتاب بهذا الشأن كيف نتفهم اختيار الموت المروع مخرجاُ من عيش أكثر ترويعا ورعباً.
الخلاصة أن النظام الجديد، بدأ منذ زمن في سد كل المخارج، أو حول ما وراءها إلى هاوية سحيقة لا مفر منها، لكننا لا ننفك نأمل في أن يؤدي انعدام الحل إلى استدعاء ‘مخلص’ أسطوري إعجازي يظهر علينا من أرض الداخل.. داخل النظام، وإلا فكما قال القذافي: ‘ارقصوا وغنوا وامرحوا’ تحت ظل عبوديتنا الجديدة.

‘ كاتب واعلامي اماراتي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ابراهيم:

    مقال رائع رغم ان اليأس هو سيد الفكرة، المهم بالامر ان لا يأتي الموت للفرد أو يسعى له وهو مؤمن بالنظام الظالم، فنشوة انتصار النظام في معرفته ان رعاياه قد قبلوا به الها ابديا، أما حكمه لرعاياه تحت القهر فليس بانتصار وانما اكتساب جولات حتى يأتي الله بأمره واسألوا القذافي ومبارك، لا يحتاج الأمر لرجل خارق لتحقيق النصر، فكل مواطن منا فيه رجل خارق يرفض في قرارة نفسه الايمان بالنظام حتى وهو مقهور له يدفع ضرائبه ويصرف عليه من قوته وقوت عياله، وعليه فلا يكون الموت خلاصا لأننا نعيش امتداداتنا بذريتنا ولا يمكن ان يكون الا هروبا، لكل منا رجل خارق في نفسه لا يظهر الا حين يرفض بقرارة نفسه شرعية النظام الظالم، ولن يمسي الموت رحمة الا حين يلملم من النظام بعضاً من رموزه.

إشترك في قائمتنا البريدية