عاش لبنان مؤخراَ مسلسلا من العنف بدأ بالسيارات المفخخة ثم أخذ ينحدر باتجاه عنف من نوع قديم وبدائي. الطلاب في الجامعة اليسوعية من بيروت انقسموا ظاهراً بين مؤيد ومعارض لرئيس جمهورية أسبق كان انتخب اثناء الاحتلال الاسرائيلي لبيروت عام 1982 لكنه اغتيل قبل أن يتمكن من استلام منصبه. وفي اليوم التالي توزع اللبنانيون أمام شاشات التلفزة لكي يشاهدوا مجموعة عسكرية من رجال الجمارك ببدلاتهم الرسمية شبه العسكرية تلاحق وتضرب مجموعة من الصحافيين الشباب الذين كانوا يمارسون تحقيقاً عن الفساد المستشري في بعض الإدارات الرسمية ولا سيما في إدارة الجمارك.
انحدار العنف الى هذا المستوى فجأة لا يمكن ان يؤشر على نهاية الوضع المتفجر لا في لبنان ولا في سورية الشقيقة الجارة. من هنا حتى نتصور ايضاً أنه جزء متمم للعنف الإقليمي المسافة ليست طويلة وإن تكن القضايا التي أثارت هذه الإشكالات لا علاقة لها مباشرة بالنزال العام.
فأن يختلف طلاب جامعة وينقسموا حول موضوع معين ليس بذاته إشكالا ضخماً. وأن يقوم صحافي شاب بالتحقيق على الطريقة الغربية بقضايا فساد ليس بذاته موضوعاً قد يثير الحرب الأهلية بالضرورة. لكن السياق الذي تحدث فيه هذه التفاصيل غير المهمة يثير لدى المراقب أكثر من سؤال. على أي حال فإن ما يحدث لا يمكن إلا أن يعكس حالة التفكك المتقدمة للبلاد. حالة تخلق من اي حادث اعتيادي احتقانات أهلية منخرطة في تحضيرات جولات عنف لا صلة للحدث الصغير بها مبدئياً.
مما لا شك فيه ان الشباب العربي المتعلم يعاني الأمرّين في بلاد لا دولة عصرية فيها ولا حقــوق ولا مواطنين. من المؤكد ان الشباب العربي، ولا سيما الشباب المتمركز في المدن والعواصم والذي يتصل بالعالم الخارجي بألف وسيلة اتصال في عصرنا الحالي، قد نشأ على أفكار تناقض على الأقل كل ما يراه على أرض واقعه. تناقضٌ يجعله في وضعية الاعتراض الدائم والانتفاض المكبوت.
هذا الشباب تعلم معنى الدولة الحديثة القائمة على مبدأ الحق والقانون وتساوي الناس كمواطنين إزاءها. هذا الشباب لم يعد يطيق أن يهمش بناء على أسس غير أسس المساواة في الحقوق. لم يعد يتحمل العيش في دولة يعشش الفساد فيها بنسب ترتفع كلما ارتفعت درجة المسؤولية. لم يعد يقبل بمسؤولين يعينون بغير مبادىء الكفاءة والنزاهة. لم يعد بمقدورهم تحمل ادارات دولة يعيث فيها موظفوها خراباً وقلة مسؤولية وعدم احترام قانون الوظيفة وحقوق المواطنين. لم يعد يرضى الشباب في بلادنا بدولة لا تتبع أسس المباراة في تعيين موظفيها.
لكن المستغرب في أحوالنا هو شعورنا بأن ما يطالب به شبابنا إما انه يأتي في وقت غير مناسب لهم ولنا وإما أنه في وقته لكن قوى أعظم منهم تسرقه لغايات اخرى غير الغايات التي انتفضوا من أجلها. وهذا ما أكدته حتى الآن نتائج جميع الانتفاضات التي قام بها، أو بالأصح بدأها، الشباب العربي.
وفي الحالين، التوقيت الخاطىء أو الضعف الإجتماعي، فإن مسار الأمور يعود فيقود إلى النتائج نفسها : تهميش وإبعاد الشباب بمطالبهم وطموحاتهم وبرامجهم عن الانتفاضات الشعبية التي تروح تدريجاً إلى الإعلان عن شعارات ورؤى أقل ما يمكن أن يقال فيها أنها مضادة كلياً لأهداف الشباب وتطلعاتهم في بداية التحرك. لكن هذا الواقع لا يمنع أن نرى أن هناك مشكلة فعلية في هذا الصدد. مأزق إجتماعي حقيقي. فهل يطمح الشباب العربي على ما يبدو الى أهداف لا تتناسب مع أهداف العامة من أبناء بلادهم ؟ هنا السؤال الحقيقي الذي علينا ربما الإجابة عنه قبل أن نكمل الطريق.
العودة إلى الموضوع اللبناني وحوادث الأسبوع الحالي ولا سيما حادث ضرب الصحافيين من قبل موظفي الجمارك قد تعيننا على فهم الإشكال الذي يتبدى لنا بوضوح. فالصحافيون هنا هم شباب مناضلون وأصحاب رؤية تشبه التي وصفناها أعلاه. مقتنعون بدولة عصرية، دولة الحق. تحقيقهم عن قضايا الفساد ترجمة لقناعتهم بهذه الدولة أكثر منه تحقيق صحافي عادي. أحدهم صرح في اليوم التالي للإعتداء ما مفاده أن القضية قد ‘انفضحت’ امام الرأي العام الذي ‘عليه ان يتحرك الآن..’ لكنه أضاف طبعا ‘هذا إذا كان الناس غير تابعين لحظائر الطوائف’.
وبما أن الناس في لبنان، وحتى كتابة هذه السطور، لم تنزل الى الساحات والميادين لتستنكر ‘الفضيحة’ بل اقتصر الأمر على بعض الأصدقاء فإن الاستنتاج المنطقي المقبول في هكذا حالة هو أن الناس لم تجد في ما حدث فضيحة تستحق عناء التنكب لربيع لبناني. أو أن ‘الناس تابعين لحظائرهم الطائفية’ على حد قول أحد الصحافيين الشباب المعتدى عليهم. وفي الحالين، وهنا تكون الدائرة قد أكملت دورتها، يكون الشباب اللبناني المتحمس لدولته، وهو حق فعلي، يطرح ثورته في غير وقتها الصحيح ولأن الناس ما زالت في ‘الحظائر الطائفية’.
يظن الشباب أن الجماعات الأهلية لا تلحظ الفساد المستشري في دولتها. أو انها لا تعرف نتائجه المدمرة. أو أنها لا تعرف أن نظام القانون والكفاءة أفضل من الناحية النظرية والعملية للمجتمع. ولذلك يقومون بتوعية الناس عبر فضح الخطأ أمام الأعين وشرح فضائل الدولة العصرية. وهو أمر يحسب لهم بالتأكيد. ما يفوت الشباب المنتفض ربما أن الناس بجماعاتها تعرف تماماً ما يجري داخل دولة الفساد من فساد، ومن دون جهد صحافي كبير، ولسبب بسيط هو انهم يستفيدون منه جميعهم بهذا الشكل أم ذاك. ولأن عدد المستفيدين ما يزال كثيراً نسبياً، على الأغلب، ترى الشباب وحيدين في معركتهم الدونكيشوتية وفي التوقيت الخاطىء.
يفتتح الشباب الإنتفاضة من أجل الدولة الحديثة ثم يروح يتهمش تدريجاً حتى يختفي من المشهد نهائياً. يثور على الدولة لا على من هم وراء الدولة. نسي أنه من الصعب لا بل من المستحيل إقناع من له مصلحة بدولة فاسدة بالثورة عليها.