لندن ـ ‘القدس العربي’: نيلسون مانديلا (1918-2013) او ‘ماديبو’ كما يعرف في جنوب إفريقيا لن يكون بيننا، أصبح في الأبدية، كما قال أوباما، كان النور وكان مشعل الحرية، والرجل الذي ضحى بحياته من أجل حرية شعبه في جنوب إفريقيا، رجل فوق الجميع، هكذا وصفته صحيفة ‘الغارديان’، رجل بنى الدولة الحديثة في جنوب إفريقيا في ملعب الرياضة وليس ساحة المعركة كما قالت صحيفة ‘نيويورك تايمز’.
وفي زحمة النعي والرثاء الذي قيل في مديح الرجل الذي رحل عن عالمنا في ساعة متأخرة من ليلة الخميس عن 95 عاما، يبدو مانديلا الذي كان أول رئيس أسود لجنوب إفريقيا بعد نهاية التمييز العنصري، رجل الإجماع والمبادىء، رجل التسامح الذي عفا عمن ظلموه، وأنشأ دولة بدون إسالة قطرة دم. قائد بالفطرة، ورجل على الرغم من قصوره وضعفه وأخطائه سيظل موقعه في تاريخ بلده والعالم لا يوازيه أحد، في الماضي والحاضر، ولا حتى من قادة الحركات المدنية مثل مارتن لوثر كينغ والمهاتما غاندي.
كان مانديلا في حياته وكفاحه مثال الرجل الوفي لأصدقائه ولم ينس من وقفوا معه أثناء سجنه الطويل في جزيرة روبن أيلاند، صهرته تجربة السجن الطويلة 27 عاماـ وعصرت من داخله كل نزعة للانتقام، وعندما خرج من السجن دعا جميع أبناء جلدته من السود غالبية السكان والأقلية البيضاء لتناسي البغضاء والحقد وبداية حياة جديدة.
فهم الرموز
وفي كل رسائله التي قدمها للجميع كان رجلا عظيما، تعالى على الأحداث وظل فوقها ولم ينزل عن عرشه الذي أقامه لنفسه وبناه من قصص أمه في قريتهم بمنطقة الترانسكاي بجنوب إفريقيا أو ما تعلمه في المدرسة. حمل اسم نيلسون وهذا لم يكن اسمه الحقيقي، فقد كان اسمه يعني ‘من يدفع جذع الشجرة’ او المشاغب، وقد كان له من اسمه نصيب، فهو لم يكن مشاغبا إلا في الدفاع عن حقوق أبناء جنوب إفريقيا السود الذي عانوا من التهميش والفقر والقمع من الأقلية البيضاء وحشروا في مجمعات أو مدن صفيح.
لم يكن نيلسون مانديلا ‘قديسا’ لان الكلمة لها مدلولاتها الدينية وقد يتحول في مماته إلى كذلك لكنه في حياته كان إنسانا، حمل في داخله قلبا يحب البشرية ويدافع عن الكرامة، وقلبا قادرا على الصفح والعفو عمن أساء إليه وكان هذا ديدنه.
تعددت الطرق والرجل واحد
وفي ممات مانديلا يتذكره كل شخص بطريقته، الساسة يرون فيه سياسيا بارعا كان قادرا على فهم الواقع ورمزية تصرفات السياسي وأقواله، وأبناء العامة يرون فيه إنسانا متواضعا يبتسم للجميع ويتسع قلبه لهم، ورجال المقاومة في المعسكرات التي اقيمت للمقاتلين بعد تخلي المجلس الوطني الإفريقي عن خيار العمل السلمي، وذلك بعد مذبحة ‘شاربفيل’ (1960) التي أطلقت فيها الشرطة النار على المتظاهرين وقتلت وجرحت المئات منهم، وبعدها خرج رجال المجلس الوطني للمعسكرات في أنغولا والجزائر.
فرجال المقاومة تذكروا الرجل الصلب القادر على الصمود، وفي السجن عندما اعتقل وحوكم عام 1962 حيث ألقى مرافعة في الجلسة الأخيرة استمرت ثلاث ساعات عبر فيها عن حلمه بجنوب أفريقيا تتسع للجميع وحرة.
ويتذكره رفاق السجن بالصلب الذي كان دائم الكفاح حتى في داخل زنزانته في ‘روبن أيلاند’، ورفض في السبعينات والثمانينات عروضا من الطغمة العنصرية للإفراج عنه مقابل عودته لقريته وتخليه عن العنف، لكنه رفض وظل مصمما على مواقفه الداعية للمساواة واحترام إرادة الغالبية.
وظلت مبدئية مانديلا وثوريته جزءا من شخصيته ولم تكن خيارا، حتى وإن عنت اغضاب الرفاق، كان هذا واضحا عندما رفض التخلي عن الحزب الشيوعي الجنوب أفريقي، وعندما قام بوساطة لفك الحصار عن ليبيا، وعندما استقبل ياسر عرفات الزعيم الفلسطيني، وعندما شجب الغزو الأمريكي للعراق.
أتون السجن
كانت شخصية مانديلا هي عبارة عن مزيج من الحكمة والبراءة والتي انصهرت في أتون الكفاح والمرارة والمعاناة، مات ولده وهو في السجن وابتعد عن عائلته لسنوات طويلة وقاوم كل إغراءات السجان فخرج من المعركة منتصرا وواقفا.
وهذه سمات القائد التي اكتشفتها هيلين سوزمان، الناشطة الجنوب إفريقية البيضاء والمعارضة لسياسة التمييز العنصري، التي زارته في زنزانته عام 1967 وتعرفت على قائد ليس للسجناء فقط كما قال لها رفاقه بل لعموم جنوب إفريقيا، وبدا حضوره من طوله الفارع الذي ورثه من طول والده، وفصاحة ويفرض سلطته بشكل طبيعي على من حوله بدون ديكتاتورية، على الرغم من تعرضه للقمع والتعذيب داخل بلاده، وواجه الكثير من المنافسات والصعوبات داخل المجلس الوطني الإفريقي.
ولكنه كما تقول ‘الغارديان’ في افتتاحيتها وقف ‘الرجل بلا شك فوق الجميع، ليكون رمز كفاح إي أن سي، في الوقت الذي بدا فيه الحزب وكأنه يتداعى تحت الضربات التي وجهتها إليه دولة التمييز العنصري، للمرحلة التي حقق فيها الحزب نجاحه الكبير، عندما وجدت الدولة نفسها في وضع ترجو فيه المجلس الوطني الموافقة على الدخول في مرحلة جديدة يتم فيها تجميد وإلغاء بنية الاضطهاد’.
ولكن هذه القيادة ‘تظل لغزا، حتى لو قمنا بتعريفها من خلال البعد الإخلاقي وليس العملي’ لأن مانديلا لم يكن قادرا طوال سجنه على لعب دور سيطرة على الجانب العملي للحزب أو ان يلعب دورا في عملية اتخاذ القرارات إلا في المرحلة الأخيرة من الكفاح ضد التمييز عندما بدأ بالتفاوض مع أف دبليو دي كلرك.
فشل ونجاح
وترى الصحيفة أن سجل مانديلا قبل سجنه كان عبارة عن فشل شجاع أكثر من كونه انتصارا، حيث كانت محاولاته لشن حرب مع آخرين، قانونية ولا عنف للمطالبة بحقوق السود تعاني من وضع حرج بسبب تعنت السلطات الحاكمة ورفضها الااستجابة له.
وكانت تحاول دفع المجلس الوطني للعمل السري لكي يسهل عليها تجريمه. وانتهى مساره السلمي للتحول مترددا نحو العمل العسكري جيث اعتقل عندما كان عائدا لجنوب إفريقيا من اجل مواصلة الكفاح المسلح.
وترى الصحيفة أن مانديلا كقائد لحركة الحقوق المدنية لم يكن فاعلا، وكان قائدا غير مجرب عندما تسلم قيادة العمل العسكري، وعندما أصبح رئيسا للبلاد بعد إطلاق سراحه لم يلق بالا للكثير من الأمور، وتخلى عن ارائه الراديكالية المتعلقة بالاقتصاد واختار الرجل الخطأ ليكون خليفته – أي تابو أمبيكي.
وفي مقابل مظاهر الضعف التي شابت أفعاله كان مانديلا يؤمن بحكم القانون واحترامه حتى لو تعارض مع مواقفه، او خالفت مواقف المحكمة الدستورية العليا تطلعات وخطط الحزب الوطني الإفريقي الحاكم، ورفض مانديلا أن يدعم حكم الإعدام. وترى الصحيفة أن مانديلا كان من أهم قادة الحرية في القرن العشرين ممن حققوا موقعهم وأكدوه في السجن ‘لان السجن كما يقول جواهر لال نهرو ما هو إلا مرحلة دراسة جامعية عليا للدخول في عالم السياسة’.
ولكن كلام نهرو صحيح في السياق الهندي حيث كان قادة المؤتمر الوطني الهندي فيه يتعاملون مع السجن كفترة راحة للتفكير في خطط لمواجهة الاستعمار الهندي. وما حدث للمعارضة البورمية قريب من تجربة الساسة الهنود. ولعل المقاربة بين تجربة مانديلا كزعيم في السجن والزعيم الكردي عبدالله اوجلان الذي استمر بالسيطرة على حركته من سجنه في الجزيرة المعزولة، بل وتفاوض مع الحكومة التركية.
والفارق الوحيد بين أوجلان ومانديلا هو أن الزعيم الكردي محبوب لحد العبادة من قبل أتباعه، أما مانديلا فمحبوب ومحترم، ومن هنا فالسر في زعامة هذا الأخير نابع من مزجه بين الحكمة والبراءة.
فهم التاريخ
وتنبع حكمة مانديلا من قدرته وفي مرحلة متقدمة لفهم حقيقة وتاريخ جنوب إفريقيا ‘فقد عرف أن الحرية حقيقة ولا يمكن وقفها، ولكن التاريخ وطريقة تحقيقها ليست محددة’.
وعرف مانديلا أن الافريكان، حتى عندما كانوا في عز حضورهم وسلطتهم، خائفون ومثلهم مثل بقية التجمعات في جنوب إفريقيا عرضة لأثر الحداثة وشروطها، وفي يوم من الأيام سينهار معسكرهم.
فمن خلال منظور ما كان يتعرض له شعبه من مأساة فهم وعرف مانديلا مأساة النخبة الحاكمة وأنها ليست محصنة من التداعي.
وأشارت إلى خطبه المتعددة التي ألقاها أثناء محاكمته ووضع فيها أسس التنازل التدريجي التي ستدفع الأفريكان للتنازل والتعايش مع بقية أطياف الجنوب إفريقيين. وقد فعلوا بعد عقود من سجن مانديلا، فالأخير فهم التحرير بصورته الشاملة، فالسود ليسوا هم من يحتاجون الحرية بل الجميع، والمستقبل هو دولة متعددة الجنسيات والأعراق.
في الجانب الاخر من شخصية مانديلا وهو البراءة، ترى الصحيفة أنه نابع من سنواته في السجن، فقد عاد للسياسة بفهم للحياة متجذر في أيديولوجية تغيرت وتشوشت أثناء سنوات السجن.
فقد كان بعيدا عن عنف السود- ضد السود الذي حصل في أحياء الصفيح، خاصة ان تجربته انحصرت في مهمة الحفاظ على معنويات المجموعة القليلة من السجناء الذين كانوا معه.
ومع ذلك فقد ناسبت تجربة السجن وبعده عن حروب السود فيما بينهم المهمة التي كان ميالا لإنجازها وهي تحقيق المصالحة الوطنية، والتي بدأها وهو في السجن حيث كان يتحدث إلى حراسه من الجنود الأفريكان بلغة تتفهم وضعهم الذي وضعتهم السلطة فيه، ومن هنا وبأسلوبه الأبوي والإنساني الذي سلكه في السجن أدى لانهيار أسطورة ‘الولد الأسود’ الذي لن ينجو بدون إرشاد وتعليم من مشرف أبيض. وتقول الصحيفة إن نظافة وخلق مانديلا أعطت قيادة الأفريكان ‘خطة ب’.
لم يعترف نظام الابارتيد بفشله، لكن قادته بينهم وبين أنفسهم توصلوا لهذه الحقيقة. وكان مانديلا بهذه المثابة ضامنا لهم، أي عندما يأتي وقت التنازل والقبول بحكم الغالبية السوداء فهناك شريك قوي ومعتدل ينتظرهم ويمكن أن التعويل عليه ليس عليه فقط بل وعلى تأثيره في المجلس الوطني الإفريقي، الحزب الحاكم في المستقبل. فقد كانت النخبة تعرف ميل مانديلا للمصالحة والسلام على الرغم من تحذيره الدائم من العنف والدم.
بداية النهاية
وفي محاولة منها لمعرفة متى بدأ الأفريكان يعترفون بفشل مشروعهم في جنوب إفريقيا، تشير إلى سبعينات القرن الماضي عندما كان مراسل ‘واشنطن بوست’ جيم هوغلان يزور جنوب إفريقيا حيث كتب (1972) ‘عندما وصلت جنوب إفريقيا، فإن لوثولي، مانديلا وسيسلو كان ينظر إليهم بخفوت، وعلى ما يبدو وكأنهم ينتمون إلى زمن آخر، ماض بعيد ومفقود’، كتب هوغلاند هذا عندما كان النظام العنصري في أوج قوته وكان له أصدقاء كثر، منهم أيزنهاور الذي بدا مترددا في البداية لشجب مذبحة شاربفيل، ومع أن جونسون كان ناقدا لجنوب إفريقيا، وأصبحت العلاقة متينة مع النظام العنصري في ظل نيكسون، ولكن العلاقة الوثيقة لم تدم طويلا، فعمليات النظام في أنغولا أصبحت عبئا عليه وتحولت واشنطن لمكان آخر، وبدت ‘قلعة الورق’ كما قال ستيف بيكو، المناضل الذي مات تحت التعذيب يتداعى.
حلاوة الشخصية
وفي النهاية يظل مانديلا رجلا فوق الجميع، فقد شهد القرن العشرين ولادة قادة كبار ساهموا في عمليات التحرر من الاستعمار، وتحولوا من الأمل الى اليأس، وجلبوا معهم الدم والدمار ولكن مانديلا وفي شخصيته بالذات هناك ‘خصوصية’ لا يستطيع أحد إنكارها، ففيها ‘حلاوة واتساع عقل يعطي مساحة للجميع’. ومع أن ‘السود والملونين في جنوب إفريقيا كانوا محظوظين به وبقيادته إلا ان البيض الأفريكان كانوا أوفر حظا، فهم وإن صانوا حياته ولم يقتلوه إلا انهم لا يستحقونه ولكنه سامحهم’ وهذه ميزة وأهمية مانديلا بين قادة الخلود.
ومن هنا يتميز مانديلا أنه لم يرق ولو قطرة دم في الطريق لبناء الدولة في بلده، صحيح أنه يرحل عن بلد يعاني من الفقر والفوارق الاجتماعية والسياسات الفاسدة وسوء الإدارة لازمة ‘الايدز’ كما حدث في عهد أمبيكي، لكن البلد يحمل إمكانيات القيادة والريادة في القارة.
تظل حياة مانديلا تدور حول الرمزية والمثال، فبتفكيكه لنظام الاضطهاد والتمييز واهتمامه بالمصالحة والحقيقة التي أعطت للضحايا فرصة للتعبير عن مأساتهم والإعتراف بها، لم يحرر مانديلا أبناء جلدته من مصيبتهم بل المضطهد من شروره، ووضع بتصرفه هذا نفسه مثالا ينظر إليه الآخرون ولهذا يتذكره الناس.
عندما لبس مانديلا قميص فريق الرغبي في نهائيات كأس العالم عام 1995- اللعبة التي كانت تمثل للسود قمة الغطرسة والتفوق العرقي، كان يحمل رسالة عفو، إذهبوا فأنتم الطلقاء ورد الملعب كله عليه بالهتاف باسمه، لقد صرخ المضطهِد باسم المضطَهد وهنا يمكن انتصار مانديلا. عليه الرحمة.
عاش منسجما مع قناعاته لآخر نفس، هكذا العظماء، لم يقبل الظلم ولم يستولي عليه حب الثأر في لحظة القدرة، عاش حميدا وسيحترمه شعبه للأبد
::::: ‘مثل حكام العرب الأشاوس ما في مثيل، بحاجة لحراسة قبورهم حتى بعد موتهم ::::::::
رجل محترم يستحق أسمى معاني التقدير