الربيع العربي بخير (ليبيا نموذجا)

ما يحدث في سوريا من حرب بشعة وقتل وتخريب، وفي ليبيا من هيمنة سلاح فلت عقاله من كل رقيب، والانسداد السياسي في تونس ومعه الاضطراب الأمني والسياسي في مصر واليمن، يدفع كله إلى قناعة قوية هي أن الربيع العربي الذي بدأ رومانسيا جميلا ومغريا، آل إلى فشل ذريع، ولسان حال كثيرين يقول: ليته ما كان أصلا.
هذه أحكام قيمية لا يجب إهمالها أو احتقارها. لكن بالمقابل لا يحق التسليم بها، فهي لا تخيف ولا تزعج بالقدر الذي يراد تصويره. هناك أخطر من الأحداث ذاتها، وهو اليأس الذي خلفته في نفوس الناس بالمنطقة العربية من التغيير وقتل الأمل بداخلهم في إمكانية أن ينعموا بغد أفضل. لسوء الحظ أن العرب، وبسبب إرهاصات الربيع العربي في عدد من البلدان، يميلون إلى التفريط في أبسط حق لهم، وهو حق الحلم بالعيش في كرامة والتفكير بحرية. حق الحلم بأن لهم الحق في حياة أفضل قليلا.
لقد تحققت نبوءة طغاة مثل زين العابدين بن علي وحسني مبارك ومعمر القذافي وعلي عبد الله صلاح من أن: إذا تركتكم أنا ستحل بكم فوضى تجعلكم تندمون على أيامي وحكمي.
بمعنى آخر: الوضع الموجود بما فيه من فساد وطواغيت وديكتاتوريين أرحم وأفضل من وضع يغيـّبهم ويستعيض عنهم بالفلتان الأمني وغموض المستقبل.
لكن بتجرد وموضوعية أكثر، هل حقاً فشل الربيع العربي؟ الزمن أبكر من أن يسمح بإعطاء جواب حاسم. لكن منطق الطبيعة والاشياء يقضي بأن هذه الأحداث وما أفرزته من تغيير أقوى من أن تكون عنوان فشل. إنها ستقود المنطقة إلى تغيير لن يكون في كل الأحوال أسوأ مما كانت عليه، حتى لو كان هذا التغيير هو تقسيم المنطقة والبلدان، وهو اسوأ الممكن.
هل يجب تذكير الخائفين من الربيع العربي على الدولة الوطنية الحديثة في المنطقة العربية وحدودها بأن هذه الحدود هي صنيعة الاستعمار واتفاقية سايكس بيكو؟ في المغرب العربي وشمال إفريقيا صنيعة الاستعمار الفرنسي وفي المشرق العربي صنيعة الانتداب البريطاني ودسائس ملوك وأمراء المنطقة آنذاك على بعضهم. لماذا البكاء خوفا على سايكس بيكو الذي مضى عليه قرن من الدهر؟ ماذا جنت المنطقة من هذه الاتفاقية وما شابهها من اتفاقات رعاها الاستعمار غير اللعنة والتقسيم ونذر الحرب والتوترات.. من الخليج إلى المحيط شبح الحرب لم يغادر المنطقة، بمعدل واحدة كل عشر سنوات أو أكثر قليلا، أحيانا على خط وهمي في صحراء قاحلة وأخرى على صخرة جرداء في بحر.
هل تغيير ثورات شعبية لهذه الاتفاقية وما شابهها، سيكون بالضرورة لعنة وخطيئة؟ صحيح أن هذه الأفكار تبدو أقرب إلى الخيانة، لكنها كذلك فقط لكونها تخص منطقة تقدّس كل شيء، مشدودة إلى ماضيها أكثر مما يجب وتخاف المستقبل لأنها لم تـُعدّ نفسها له، أو بالأحرى لأنها لا مستقبل لها.
أمة يخيفها كل جديد وكل طارئ وكل غريب، فترفضه وتعاديه.
ثورات 2011 كان ضرورة تاريخية قبل كل شيء لأن المنطقة لم يكن ممكنا أن تستمر في تخلفها وخمولها ووقوفها على هامش التاريخ والتقدم عقودا أخرى. العقل لا يقبل هذا، ولا بد من تغيير. إنها سـُنة الحياة وضروراتها.
إذا وقفنا عند المثال الليبي، سأقول بلا تردد أن ليبيا مضطربة كما هي اليوم بدون معمر القذافي وعبد الله السنوسي وأبنائهما، أفضل من ليبيا مستقرة بالقذافي وأبنائه.
عملية حسابية قد تبدو لكثيرين عبثية، لكنها تستحق بعض التأمل: معمر القذافي كان سيحكم ليبيا 15 الى 20 سنة أخرى بكل جنونه وطغيانه واحتقاره لما ومَن حوله، ثم يورثها لسيف الإسلام الذي كان سيحكمها خمسين سنة تالية. هذا يعني أن ليبيي اليوم وأبناءهم وأحفاد أبنائهم كانوا سيعيشون تحت طغيان وجنون هذه العائلة الغريبة الأطوار سبعين سنة أخرى. هل هذا عدل؟ ألا يستحق هذا وحده ثورة تسحقهم من الوجود؟
بالمقابل، وبعملية حسابية (عبثية أيضا): الوضع الذي فيه ليبيا الآن سيستمر خمس أو عشر سنوات في أسوأ تقدير، ثم تخرج البلاد من الوضع الاستثنائي إلى الطبيعي. طبعا سيرافق ذلك خسائر بشرية ومادية مأسوف عليها وتدمي القلوب، لكنها الثمن المطلوب دفعه مقابل حياة كريمة للأبناء والأحفاد. إن العجة تحتاج لتكسير البيضات.
حتى خطر تقسيم ليبيا يدعو للسخرية أكثر مما يدعو للخوف. الذين يعلنون قيام دولة تارة في درنة وتارة في برقة وفي غيرها مهرجون يثيرون الضحك. أنت لا تؤسس دولة بدبابتين صدأتين و50 قطعة كلاشنيكوف ومصفاة نفط على وشك أن تخرب. الدولة تحتاج لما هو أكبر وأعمق، وهؤلاء يفتقدون للأرضية السياسية والاقتصادية والروحية لتشكيل دولة قائمة بذاتها، أو حتى إقليم تتوفر فيه مقومات الإقليم.
هي مغامرات مزاجية تجد صدى قويا في وسائل الإعلام العالمية التي تبحث عن عناوين كبرى تغطي على واقع آخر يتمثل في أن الليبيين (وغيرهم) مستمرون في الحياة، يعشقون ويتزوجون ويطلـّقون ويتخرجون من الجامعات ويقيمون المشاريع التجارية وغير ذلك.
هذه العناوين الكبرى، وإن بدت عابرة لحظتها، تستثمرها قوى محلية وإقليمية تريد الاستمرار في استعباد شعوب المنطقة ونهب ثرواتها كما فعل الاستعمار في منتصف القرن الماضي.. قوى محلية عوضت الاستعمار وتحكم هذه الدول بلا انتخابات شفافة وبلا وجه حق لم تقدم لهذه الشعوب غير التخلف والقاع السحيق الذي هي فيه.
العقل السليم يستنتج بسهولة أن لا أحد ـ باستثناء هؤلاء المغامرين إن كانوا فعلا جادين ـ يريد ليبيا مقسمة وضعيفة، لا الحكومة الليبية ولا دول الجوار ولا الجيران البعيدين ولا الدول الغربية بالذت. بالنسبة لهذه الأخيرة، ليبيا منشطرة أو منهارة تعني المزيد من خطر تنظيم القاعدة وتدفق المهاجرين الى أوروبا وتهريب السلاح وفقدان سوق تجارية مهمة. فلماذا يسعى الغرب لوضع هشّ كهذا يضرّه قبل غيره، وأين مصلحته فيه مثلما يدّعي بعضنا؟
وفي كل الأحوال، إن ليبيا، حكومة وشعبا، التي لا تصمد موحدة أمام أهواء هؤلاء المغامرين والمزاجيين، لا تستحق الوجود كدولة. و’جمهورية درنة’ أو ‘سلطنة برقة’ ـ إن وجدتا يوما ـ ستستجديان طرابلس للعودة إلى أحضانها بعد سنة أو سنتين من وجودهما.
بالنسبة للمؤرخين ودارسي التاريخ، وبعد مئات السنوات، ستشكل كل أحداث المنطقة مجتمعة، صفحات وربما فقرات، محدودة في كتاب تاريخ رغم كل المآسي المتكررة التي تمر أمام عيوننا وتنغص يومياتنا.
ما يجري اليوم ليس لأجيال اليوم ولن تجني ثماره مهما كانت حلاوتها أو مرارتها، ومهما كان الثمن مكلفا.. بل لأجيال مقبلة لم تولد بعد تستحق حياة أفضل مما عشنا من خيبات شهدت ولادتنا وستشيَّعنا الى القبور.

‘ كاتب وصحافي جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Uk:

    تحليل ممتاز واقعي ومتوازن ويدل علي بعد نظر من الكاتب المتميز . ليبيا بكل ما يظهر علي السطح من توترات ستتعافي بإذن الله بأسرع مما يتوقع المغرضون وفي زمن قياسي.

  2. يقول أحمد الكومي - فلسطين:

    الله عليك
    بعثت الأمل في نفوسنا

  3. يقول وفاء الجزائرية:

    سيدي كاتب المقال المحترم انا ضد ما يسمى بالثورات العربية و سأظل بمشية الله و بإذنه تعالى ضدها لانها لم توافق شرعنا الحنيف مع امنيتي الشديدة بعودة الامن و الاستقرار و الازدهار العلمي و الاقتصادي لتلك الدول و سائر دول المسلمين. فقد يعود الامن لتلك الدول لكن ماذا عن الارواح التي ازهقت دون ذنب ماذا عن اليتامى و الايامى ماذا عن المعاقين الم يكن لهؤلاء الحق في العيش بسلام وفي امن و طمأنينة .لو عد بنا احال في الجزئر هل سنؤيد ما حدث في العشرية السوداء .كان على اخوتنا كارهي حكوماتهم النصح لهم . و استغفر الله العظيم الذي لا اله الا هو الحي القيوم و اتوب اليه

  4. يقول clausa:

    أقول للأخت الجزائرية انه لم يثبت عبر التاريخ انه تم تغيير و تطوير في المجتمع الانساني و الانتقال من نمط الى نمط اخر إلا بعد التضحية لأن التضحية تعد اغلى ما يمكن للفرد ان يهبه لغيره لكي ينعم هذا الاخير بالكرامة و الحرية…….و لو لم يكن سنة من سنن الكون لما وصل لنا الاسلام لأن من ضحوا عبرمراحل الدعوة الى الله هم اوصلوا لنا بطريقة غير مباشرة ما نحن فيه الان و لو لم يفعلو بدافع الانانية لما تحركت المجتمعات…..أقول إذن ان الربيع العربي او الانتفاضة العربية على الحكم البائد هي شيئ طبيعي و ضروري لكي تستمر النواميس الكونية فينا ما حيينا.
    ستتعافى هذه الدولة و تنهض اذا لم يتواطؤا عليها و تركوها تتعافى ثم انه لا يوجد تغيير بدون دفع ثمن هده سنة الحياة و لكي في الرسل و الانبياء خير دليل…..كان بالامكان لنبينا و رسولنا محمد صلى الله عليه و سلم ان يدعو الله فيهتدوا كلهم قريش و غيرها و لكن يجب التضحية و البدل ليكون الجزاء إذا لما خلقت الجنة و النار.

  5. يقول الصيد دحيم - ليبيا:

    اذهب مع كاتب المقال في مجمل ما جاء به و اختلف معه في الجزئية المتعلقة بعدم رغبة الدول الأوربية في ليبيا مقسمة ، فتقسيم ليبيا وتفتيتها الي أقاليم عدة سوف يخلق واقع جديد يمكن ترجمته كالتالي :
    اقليم برقة ليكون لقمة سائغة لجار يتضور جوعاً و متعطشاً لينابيع النفط في ارض خالية من السكان وغنية .
    اقليم فزان ليكون موطئ قدم جديد وقديم في الوقت ذاته لنعال جنود الفرنسة ومحطة للطاقة تغذي وتشبع نهم البلاد الام والتي ينتابها الخوف من المارد الصيني المتوسع افريقياً وعالمياً .
    اقليم طرابلس المتمدن سكانياً والمكتفي محلياً سواء من جانب الطاقة أو الزراعة والذي سيكون شبيهاً بتونس ومن الممكن التعامل معه و احتوائه أمنيا واقتصادياً و اذا ما استفحلت الأمور فقد يتجه هذا الإقليم لمزيد من التفتيت وإعادة رسم حارطته في ظل تصاعد أصوات بعض من المكونات العرقية ( كالامازيغ ) والمناطقية ( كمصراتة ) مطالبة بالانفصال لأسباب مختلفة .

  6. يقول ELMOSLAH:

    بعد أن أخفقت ثورات الربيع العربي في كل من مصر و اليمن وسوريا, وتعتر السير في ليبيا , لازال الأمل معقودا على تونس في إنجاح التحول الديموقراطي بالرغم مما تلقاه التجربة من عراقيل من لدن قوي الفساد والاستبداد وأفاعي الدولة العميقة . وبالرغم من مكر الغرب ومن يدور في فلكه من دول خليجية , تخشى من إرساء قواعد ديمقراطية حقيقية في تونس تقلب مجتمعاتها المغلقة رأسا على عقب .لاسيما آدا نجح التيار الإسلامي وباقي القوى الوطنية في إرساء قواعد الدولة الديموقراطية الحديثة. حداثة تتماشى مع موروث البلد الثقافي وهويته العربية الإسلامية دون الإفراط قي تغريب جارف يقلع الجذور ويطمس المعالم ودون التقوقع في قلاع سميكة الجدران تمنع نفاد نور التطور والمعرفة والانفتاح على الأخر .
    إن نجاح التجربة التونسية في إرساء دولة الحق والقانون و احترام إرادة الشعب واختياراته عبر انتخابات نزيهة و تباري شفاف يسمح للفرقاء السياسيين بالتناوب على السلطة دون تغول أو استبداد أو احتكار أو إقصاء لأي تيار مادام يعمل ويدافع عن آراءه وقناعته الفكرية والإيديولوجية في ظل قوانين الجمهورية وثوابتها , سيعطينا نموذجا جديدا غير مسبوق في العالم العربي والإسلامي . وسيمكن من تغيير الصورة النمطية للدولة الإسلامية المتناحر أبناءها بين متمكن مستبد ومقصى ثائر . وسيخلق نظام حكم يومن
    بالتعددية والاختلاف والتعايش واحترام الأخر في مجتمع ديمقراطي حر , تصان فيه كرامة المواطن و تحترم أدميته .وتعطي صورة جديدة لإسلام يقطع مع النموذج الوهابي الذي ساهمت دول خليجية في نشره عبر عقود باذلة في دلك الجهد والمال قبل أن تنقلب عليه وتنفض يدها منه, بعد أن فرخ القاعدة و ما يدور في فلكها من إرهاب وقطع للرؤؤس .

    ولعل الحلم ممكنا ولو بدا عصي المنال لما تتميز به تونس , التي أشعل البوعزيزي تورثها , من خصوصيات واعدة تساعد على تخطي الحواجز و
    المطبات . والانطلاق نحو مجتمع ديمقراطي حداتي. ومن هده الخصوصيات عدم تغول المؤسسة العسكرية وابتعادها عن الخوض في ميدان السياسة والتحول الذي عرفته الأجهزة الأمنية بعد الثورة. وتمتع التونسيين بمساحة لا يستهان بها من الحرية ونظم الحداثة ودربة الشعب التونسي على نظام حياة أكثر تطورا وانفتاحا من غيره من البلاد العربية . كل هده المقومات وغيرها تشكل نقط ضوء تنير الطريق وتشجع على المضي قدما للتحقيق ما يصبو إليه الشعب من حرية وعدالة اجتماعية ..
    إن مسؤولية المعارضة الوطنية في تونس مسؤولية جسيمة وحاسمة في إنجاح المسار و الحيلولة دون إجهاض الثورة والتيقظ لما يحاك من مناورات و دسائس لإفشال التجربة من قوى الفساد والاستبداد . إن على كل الأحزاب الوطنية في تونس أن تستحضر التجربة المصرية و أن تضع مصلحة الوطن فوق كل الاعتبارات السياسية الضيقة وان تتعاون في ما بينها في بناء دوله مدنية قوية تعود فيها الكلمة للشعب من خلال صناديق الاقتراع . فحزب ا لنهضة ليس قدرا محتوما ولن يحكم ضدا على إرادة الشعب وإنما بإرادته وتحت مراقبته فان اختاره الشعب بحرية ونزاهة باركت المعارضة فوزه واحترمت خيار الشعب و ساهمت من خلا ل موقعها في المعارضة من تصويب ما اعوج ومساندة ما استقام من سياسات وخيارات تنفع البلاد والعباد. تبني ولا تهدم تعين ولا تعرقل . همها الرقي بالبلاد و ليس أللهت وراء المنصب والامتيازات . لا يهمها الموقع الذي تقف فيه لمد يدها لبناء البلد , في جو من الإخاء السياسي وليس التناحر والتكامل وليس التضاد . وتهيئ نخبها وقياديي ها للوقوف وراء مقود قيادة البلاد كلما رغب الشعب في دلك من خلال اقتراع نزيه وشفاف .
    ويبقي ألأمل في نجاح التجربة في تونس كبيرا رغم كيد الكائدين وحقد الحاقدين وخبث المتآمرين لان تونس بتاريخها الطويل ومؤهلات شعبها الفذ ورصيدها الحضاري الأصيل قادرة على رفع التحدي ومنح ملايين التونسيين المتعطشين للحرية والكرامة الأمل في مستقبل مشرق وحياة أفضل .

  7. يقول معاذ خلف - مصر:

    عندما تجد من يقول أن على الشعوب العربية ان تتفائل بنتائج الخراب العربي بعد رؤية النتائج ما يحدث في سوريا من حرب بشعة وقتل وتخريب، وفي ليبيا من هيمنة سلاح فلت عقاله من كل رقيب، والانسداد السياسي في تونس ومعه الاضطراب الأمني والسياسي في مصر واليمن، فإن هذا يعد استهتار بعقلية المواطن العربي أكثر مما ينبغي .. و يعطيني يقين أكبر انه لن تقوم قائمة لامتنا العربية في وجود مثل هذه الأبواق المنفصلة تماما عن الواقع .

إشترك في قائمتنا البريدية