الخطاب الاعلامي في العراق بين حكومة الاحتلال والمقاومة الوطنية
هيفاء زنكنةالخطاب الاعلامي في العراق بين حكومة الاحتلال والمقاومة الوطنيةمن بين المستويات المتعددة لمقاومة الاحتلال في العراق، المساندة للمقاومة المسلحة المعترف بها وفق القوانين الدولية كحق من حقوق الشعوب المحتلة، هو مستوي رصد العمل الاعلامي المصاحب لهيمنة الاحتلال. ففي الوقت الذي يوصف فيه الغزو العسكري بانه جبهة الاحتلال الامامية، فان عمل المنظمات المدنية والمؤسسات الاعلامية المستهدفة فكر الشعب ووعيه وتوجيهه وفق منظور الاحتلال، هو ما يصح تسميته بالجبهة الخلفية أي جبهة المساندة لديمومة الاحتلال. وهي جبهة خطيرة حقا لانها تعمل من خلال الاستحواذ علي اجهزة الاتصال الجمعية ذات التاثير الكبيرعلي الجماهير، بشكل مباشر وغير مباشر، وفق اساليب تمزج، اذا ما كانت ادارة الاجهزة ذكية، ما بين الاكاذيب المضللة والمعلومة المدسوسة وتجاهل الحقائق وما يطمح اليه الناس حقا. وابسط مثال علي ذلك هو كيفية ترويج الديمقراطية الامريكية اعلاميا في العراق. حيث تتجاهل اجهزة الاعلام الحرب العدوانية وما سببته من مجازر وخراب وقصف بالقنابل والصواريخ والنابالم واليورانيوم المنضب، وتتجاهل التناقض الواضح بين ما تدعيه ادارة الاحتلال وما تطبقه مركزة علي حيثيات تتماشي مع برامجها السياسية، مستغلة في الوقت نفسه، تعطش الشعب الي فكرة الديمقراطية عموما وليس الديمقراطية الامريكية حصرا.يكتسب البرنامج الدعائي الاعلامي في فترات الحروب والاحتلال سواء من قبل قوات وادارة الاحتلال او المقاومة، اهمية قصوي. اذ تهدف البرامج الدعائية الي التأثير علي الشعب ومحاولة تغيير مواقفه واتجاهاته الفكرية او تشكيل اتجاهات جديدة لم تكن موجودة او تقوية ما كان موجودا. بواسطة أجهزة الاعلام المختلفة، بدءا بالكلمة المطبوعة حيث تشكل اللغة برموزها المتعددة جوهر عملية الاتصال، والاجهزة السمعية (الراديو)، والمرئية (القنوات المحلية والفضائية)، والملصقات الجدارية (وتتزايد اهميتها في الحملات الانتخابية)، واشرطة التسجيل والاقراص المدمجة، انتهاء بمواقع الانترنت بانواعها.واذا ما نظرنا الي الجبهة الخلفية للاحتلال في العراق لوجدنا ان قوات الاحتلال المدركة لأهمية الخطاب الاعلامي وخطورته قد عملت منذ الايام الاولي للغزو، علي تأسيس جهاز اعلامي خاضع لها، كلية، اطلقت عليه اسم شبكة الاعلام العراقية. ضمت الشبكة راديو وتلفزيون العراقية وجريدة الصباح. ومنحت عقود تأسيسها وادارتها الي شركات امريكية متخصصة بمجال التجسس والمراقبة كما في العقد الموقع مع شركة ساينس ابليكيشن انتيرناشينال كوربيريشن (سايك) لبناء الجهاز الاعلامي في العراق بقيمة 108 ملايين دولار. وبدأ بث اداعة العراقية المنتظم في 10 نيسان (ابريل) والتلفزيون في 13 ايار (مايو) 2003 باشراف وحدة عسكرية امريكية. وتم توقيع العقد الثاني، بقيمة 96 مليون دولار، مع شركة هاريس كوربوريشن، مقرها فلوريدا، المختصة بتكنولوجيا الاتصالات. وجدد العقد مع الشركة في كانون الثاني (يناير) 2005 بقيمة 22 مليون دولار. اضافة الي ذلك، قامت وحدة التوجيه الاعلامي العسكري السايكولوجي في البنتاغون بتوقيع عقد مع شركة لنكولن جروبز للعلاقات العامة، وهي شركة بدأت عملها في العراق المحتل في 2004، لدعم برامج الاستثمار والتجارة، الا انها سرعان ما وسعت نشاطها الي مجال مربح آخر وهو حرب المعلومات والعمليات النفسية الدعائية. فوقعت عقدا مع البنتاغون بقيمة 100 مليون دولار ضمن برنامج اعلامي عسكري اطلق عليه اسم عمليات المعلومات. يهدف البرنامج الي اشاعة روح التفاؤل الايجابية بين العراقيين علي الرغم من كل الخراب المحيط بهم، والاستبشار بمنجزات الاحتلال وخاصة جدولة البرنامج السياسي وكتابة الدستور وحث الناس علي المشاركة في الانتخابات باعتبارها الحل الوحيد لكل المشاكل والاساس في بناء العراق الجديد. وقد قامت شركة لنكولن بالاضافة الي دعمها عددا من الصحف العراقية الناطقة باسم الاحتلال، وتوزيع المنشورات الدعائية والترويعية، بنشر المقالات والتقارير المكتوبة من قبل عسكريين امريكيين، بعد ترجمتها، في صحف عراقية وباسماء صحافيين عراقيين. وتراوحت اسعار المقالات ما بين 30 و2000 دولار للمقالة الواحدة تبعا لاهمية المقالة، موقع الصحيفة او اسم الصحافي. وتهدف المقالات، ايضا، الي تشويه صورة المقاومة وعملياتها المسلحة المستهدفة لقوات الاحتلال، عن طريق وصفها بالارهاب وتحميلها مسؤولية جرائم ارهاب الاحتلال.بالمقابل، كيف تواجه المقاومة الوطنية هذه الحملة الاعلامية الدعائية المنظمة من قبل اجهزة الاحتلال وبميزانيتها الكبيرة؟ تستخدم القوي الوطنية المقاومة للاحتلال، لايصال رسالتها الي جماهير الشعب، وسائل اقل تكلفة من الملايين التي صرفتها او نهبتها ادارة الاحتلال. وبينما فشلت ادارة الاحتلال في اقناع المواطن العراقي بخطابها الاعلامي التزويقي، اثبتت المقاومة الوطنية، علي الرغم من كل الصعوبات والاخطار المستهدفة لوجودها، قدرتها علي التواصل الاعلامي مع الناس، في مختلف انحاء العراق وخارجه، باساليب بسيطة، مثل اشرطة التسجيل الصوتية لنشر الاناشيد الوطنية والاهازيج الحماسية والاغاني والتراتيل والرسائل التحريضية. وتم ترويج الاقراص المدمجة المصورة واشرطة الفيديو لنشر اخبار المقاومة المسلحة وعمليات الهجوم العسكري علي قوات الاحتلال فضلا عن انتهاكات حقوق الانسان. كما تواصل القوي المناهضة للاحتلال المؤمنة بتعدد مستويات المقاومة، اللجوء الي الكلمة المطبوعة، صحافة ومنشورات، للتأكيد علي اهمية الخبر الصادق والمعلومة الموثقة والتحقيق الصحافي والتقارير المتعلقة بهموم الناس وامالهم وطموحاتهم فضلا عن التغطية الثقافية العامة. والي هدا التعدد في المستويات بامكاننا تصنيف رصد الاعلام المضلل خاصة ما له علاقة بالاعلام المرئي.تخبرنا منظمة اليونسكو، التابعة للامم المتحدة، وهي واحدة من المنظمات والمؤسسات الاعلامية العالمية التي ساهمت في صياغة برامج تدريب الصحافيين والاعلاميين في العراق المحتل بان: المرحلة الاولي في اطلاق حقوق الانسان وحرية التعبير في العراق تغطي تطوير سياسة الاعلام الوطني بموجب المادة 19 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان في انتشار المعلومات. وان اليونسكو تعمل علي تدريب الصحافيين من اجل تقديم تغطية اعلامية مستقلة وموثوقة واضعة لبنة اساسية في عملية انشاء قطاع اعلامي مستقل. فما الذي تقدمه قناة العراقية، باعتبارها نموذجا متميزا بحق لاعلام مرحلة الاحتلال، بعد صرف الملايين لانشائها وتدريب صحافييها وفق ميثاق اليونسكو النبيل؟ ولااعني بالسؤال ما الذي قدمته لادارة الاحتلال الانجلو ـ امريكي، ما اعنيه هو ما الذي تقدمه لابناء الشعب العراقي وفق سياسة الاعلام الوطني بموجب المادة 19؟بسبب ضيق المساحة سأكتفي بالاشارة الي ما تقدمه القناة بدون امثلة وان كانت الامثلة متوفرة. انها تقدم برامجا تعكس المحاصصة الطائفية وتكرس التقسيم الطائفي والعرقي. تنقل اخبار ارهاب الاحتلال وعملياته العسكرية ضد المدنيين، بنقل حي أحيانا، باعتبارها انجازات للقضاء علي الارهاب. تقدم افلاما مصاحبة للتغطية الاخبارية عن تنفيذ مشاريع اعمار، شبه وهمية، مما يمنح المشاهد الانطباع بان حركة الاعمار جارية علي قدم وساق. تشويه صورة مقاومي الاحتلال وتقديمهم كارهابيين. تقديم برامج تحقيق مع معتقلين في مراكز الشرطة والامن واجبارهم علي الاعتراف بجرائم لم يرتكبوها لتخويف وترويع المواطنين عموما. لا تمثل الوحدة الوطنية لانها عزلت كردستان من برامجها حتي قبل اعلان سياسيي الاحتلال الانفصال. تستخدم اللغة الانكليزية وتكريس مصطلحاتها في اسماء البرامج ومضمون بعض البرامج. تبث اعلانات الدعاية لتسويق السجائر في الوقت الذي تعتبر فيه هذه الاعلانات ممنوعة دوليا. تبث اعلانات دعائية عن انجازات حكومات الاحتلال، وهي اعلانات كرست لها ميزانية تقدر بملايين الدولارات ويتم بثها في العراقية وفي عدد آخر من القنوات الفضائية العراقية والعربية علي حد سواء، تحت عنوان اعلان مدفوع الثمن . من بين الاعلانات الدعائية الموجهة الي الجمهور العراقي، خاصة، اعلان عن شحة مياه الشرب. فكيف تساهم العراقية في توعية الناس بصدد واحدة من اهم المشاكل التي تواجههم وتحتل المكانة الثالثة بين آفات الاحتلال، بعد قلة الامان وانقطاع الكهرباء؟انها تقدم اعلانا بشكل فاصل تمثيلي. رجل يغسل سيارته مستخدما خرطوم المياه مستعرضا قدرته علي رشها بكميات كبيرة من المياه، ضاحكا بلا مبالاة. هناك، ايضا، شخص جالس علي مقربة منه ويشاركه الضحك. يمر رجل ثالث فينبههما الي اهمية عدم تبذير المياه، فيقرعه حامل خرطوم المياه ويسخر منه ثم يرشه بالمياه بعدوانية واحتقار. ويستدير أخيرا نحو الرجل الجالس مقترحا عليه مشروع تعبئة مياه الحنفية وبيعها الي الناس كمياه صالحة للشرب.ان تحليل مضمون الاعلان الدعائي اعلاه واسلوبه المتبع في التأثير وتناوله من ناحيتي الصدق والثبات بحثا عن الحقيقة، يتطلب الانتباه الي المضمون الظاهر والمضمون الكامن. ظاهريا: لقد تم اختيار الفاصل التمثيلي الفكاهي وبلهجة شعبية لانه الاسلوب الاكثر تقبلا بين الجماهير، ولأن المرسل لا يستطيع التأثير الا اذا قصد معاني معينة يفهمها المتلقي. واذا ما عدنا الي تعريف مفهوم الدعاية لوجدنا انها مجموعة من الرموز التي تؤثر علي الرأي والعقيدة والسلوك في موضوعات تعتبر موضوع خلاف من قبل المجتمع. وموضوع الخلاف في الاعلان هو شحة المياه. وتخبرنا الرسالة الكامنة في الدعاية بان سبب المشكلة هو سلوك العراقيين (اثنان من كل ثلاثة حسب الدعاية) غير المسؤول وغير المبالي. بل ويتم ايضا اتهامهم بانهم من يقومون بالغش وبيع المياه الملوثة، حاجبا تماما مسؤولية الحكومة في توفير الخدمات الاساسية للمواطنين، ومن بينها المياه الصالحة للشرب وحمايتهم من عبث مخالفي القانون والفساد. فيؤدي تكرار الدعاية المرة تلو المرة الي انطباع رسالتها في اذهان المشاهدين وهي رسالة تلقي بالمسؤولية كاملة علي جهات ثانية غير مسؤولة واثارة الكراهية ضدها. هكذا يتم تحويل الانظار من المسؤول الحقيقي اي حكومة الاحتلال العاجزة، بعد ثلاثة اعوام تقريبا من سيطرتها علي العراق وثرواته، من تقديم ابسط الخدمات الاساسية للمواطنين، بل ويتم تصويرها باعتبارها حريصة علي المصلحة العامة من خلال تقديم الاعلانات الدعائية المضللة.ان ما لا تقوله الدعاية الاعلامية لاجهزة الاحتلال هو انها سجينة مصالحها الخاصة وخطابها السياسي والاقتصادي المحدد، وان ما تقدمه اعلاميا لايخدم استقلال الشعب العراقي ووحدته الوطنية، ولن تتمكن، مادامت تعمل في ظل الاحتلال من نشر مبدأي حرية التعبير وحرية الصحافة كحقوق أساسية للإنسان. 9