من العسير ان يتم العثور الان في معظم الدول العربية على اي اثر لشخصية معاصرة باستطاعتها الارتقاء الى مصاف المثال او القدوة. ليس في الامر ما يستدعي الكثير من الاستغراب، فنظم الاستبداد لم تتعود على السماح لاكثر من رجل واحد بتقمص دور الزعامة. ما ينتج عن ذلك في الغالب هو ازاحة كل ما يشوش على ذلك الدور او يقف عقبة في طريقه. الوضع مختلف بعض الشيء في البلدان القليلة التي بدأت بشق طريقها الطويل نحو الديمقراطية، اذ انه في غياب حكومات تقليدية ومع ما توفره الحرية من مناخات مفتوحة للتعبير يصبح الوصول الى تلك الشخصية أمرا اكثر يسرا وسهولة . ما بدا لافتا في الايام الاخيرة، وبمجرد الاعلان عن وفاة الزعيم الافريقي نيلسون مانديلا، حصول ما يشبه التطابق والالتقاء الغريب في المواقف العربية تجاه ما حدث، بشكل طرح اكثر من تساؤل عما اذا كان العرب بمستبديهم ومستنيريهم قد عثروا اخيرا على تلك الشخصية الثمينة المغمورة بفعل داء الزعامة الكاذبة او الانشغال بهموم الانتقال الديمقراطي، ونعني بها الشخصية القدوة. هل فعلت العولمة فعلها ودفعتهم مكرهين نحو شيء من النفاق الدبلوماسي بتنكيس الاعلام واعلان الحداد والتباكي على مناضل صلب قضى ما يقرب من الثلاثة عقود في السجون والمعتقلات، واصبحوا الان بفعل تطهر سريع ومغشوش من آثام الماضي والحاضر وجرائمه المريعة ملائكة جددا تدافع عن حق الشعوب في الحرية والكرامة الانسانية؟ التفسيرات قد لا تكون واحدة مثلما ان مبررات ودوافع العرب عديدة ومتنوعة، لكن الخيط الرابط بينها جميعا هو ان شهادات الاعتماد الرسمية لكل شخصية وطنية ترتقي لمرتبة النموذج لا بد ان تأتي من وراء البحار، وان يسندها الغرباء والاجانب حتى تكون لديها القبول الواسع والرواج المطلوب. لا يلتفت الكثيرون للاسف الشديد الى ما يحصل داخل السجون العربية، ولا الى حال من قضوا سنوات طويلة وقاسية داخلها. في الانظمة الشمولية التي تحكم قبضتها على معظم اجزاء المنطقة لا يعترف الحاكمون اصلا بوجود سجناء سياسيين، أما المفقودون الذين لا احد يعلم شيئا عن مصيرهم فاعدادهم تبقى سرا من اسرار الدولة ولغزا مبهما يستعصي على الحل. وحدها الضغوط الخارجية سياسية كانت ام اعلامية هي التي تدفع بمأساتهم الى السطح وتكشف الغطاء عن ابطال حقيقيين وقفوا في وجه آلة قمعية بلا عقل ولا روح، لكن ما تثبته التجارب انها تبقى في الغالب مجرد اوراق ضغط اضافية هدفها انتزاع مزيد من المكاسب والمصالح الاجنبية لا غير. وسط كل ذلك يخفت بمرور الوقت وربما بفعل انتهاء مفعول تلك الاوراق كل حديث عما يفترض فيهم ان يكونوا شخوصا حية ونماذج للاقتداء. في الوضع العكسي اي عند ما ينتقل البعض منهم اي الى سدة الحكم كما حصل في بعض الدول، مثل تونس، لا تتغير معايير المعادلة، اذ سرعان ما تختفي الاشادات الفورية والترحيب الواسع ليتحول الامر من انتقاد مستمر لضعف الاداء ونقص الخبرة الى مساومة مفضوحة وتهديد صريح بخنق اقتصادي ومالي يفشل التجربة ويقوض ايضا صورة المناضلين السابقين ضد الاستبداد. تصنع اسطورة مانديلا في مخابر جلاديه وتروج في مختلف ارجاء العالم، بما فيها عالمنا العربي، ويزيد الحكام المستبدون في النفخ فيها بنفس القدر الذي يستمرون فيه في مشوار البطش والدوس على تلك القيم التي دافع عنها الزعيم الافريقي الراحل، مثل غيره من الاف وملايين المجهولين العرب. اما من يقرأون سيرة الرجل بتجرد ويرفضون مثلما رفض هو نفسه ان يصبح ‘نصف آلهة’ فمصيرهم سياط الحكام ولعنات اعلامهم . يتدافع هؤلاء الحكام صفا كالبنيان المرصوص لتأبين مانديلا والتأسف على فقدانه ولا يرف لهم جفن في المقابل لما يحصل منذ عقود طويلة في بلدانهم من اهوال وفظاعات رهيبة، فيما يستمر الماسكون بخيوط اللعبة في الخارج في التجاهل التام لالاف ‘المانديلات’ الذين جعلهم حظهم العاثر عربا ومسلمين. في بعض الاحيان يكون الحديث عن المأساة اقصر الطرق لاستدامتها، مثلما يبقى الطريق الى المحرقة محفوفا بالكثير من الكلمات الجميلة. هل يعني ذلك اذن ان نلقي باللائمة على مانديلا لعظمته الزائدة التي تحولت سببا اخر في حجب غيره من الابطال، ام نلوم من حاول ان يغطي سوءاته ومصائبه الكثيرة والخطيرة بالصورة الناصعة للرجل؟ لن يحسم في ذلك غير منسيين عربا ما يزال زمن حصولهم على مرتبة المثال او القدوة مؤجلا باستمرار والى تاريخ اخر غير معلوم.