للإرهاب تعريفٌ بسيط يحظى بشبه إجماع. إنه استخدام العنف ضد المدنيين لغاية سياسية.
الإرهاب، بهذا المعنى، يستهدف لبنان منذ اشهر. المدنيون المستهدفون متعددو الانتماءاتوالالوان والصفات. وهم مستهدفون في كل مكان، من اقصى الشمال الى اقصى الجنوب.
آخر التفجيرات المدوّية استهدف وزير المال السابق محمد شطح بينما كان متّجهاً الى ‘بيت الوسط’، منزل زعيم ‘حزب المستقبل’ سعد الحريري، الذي لم يتأخر في اتهام ‘قَتَلَة ابيه’، الرئيس رفيق الحريري، باغتيال مستشاره المقرّب والمعروف باعتداله. لرئيس مجلس النواب نبيه بري رأي آخر: الجريمة النكراء لم تستهدف حزب المستقبل بقدر ما استهدفت مستقبل لبنان. ما رشح من التحقيقات رجّح رأي بري. فقد تبيّن ان السيارة المسروقة التي استخدمت في عملية الاغتيال كانت ضبطت بحوزة اشخاص ملاحقين بتهمة العمل مع تنظيم ‘فتح الإسلام’ المتفرّع من ‘القاعدة’.
منذ اشهر جزم وزير الدفاع فايز غصن بأن لـِ’القاعدة’ وجوداً ونشاطاً مؤثرين في لبنان. لكن، حتى بعدما وجّهت تنظيمات ‘قاعدية’ ناشطة في سوريا تهديدات الى تنظيمات لبنانية (حزب الله مثلاً) وشخصيات سياسية (وزير الداخلية مروان شربل) فإن قوى وسياسيين مؤيدين للمعارضة السورية المسلحة رفضوا اخذ هذه التهديدات مأخذَ الجد.
وقعت الواقعة اخيراً، فمن تراه يكون الفاعل؟ ومن المستفيد؟ وما الغاية المرتجاة؟
التحقيق ما زال في مبتدئه، وما سرّبته اوساطه من معلومات لا يكفي لتوجيه اتهام جدي الى اي جهة. مع ذلك، ثمة رأي شائع لدى الجمهور المؤيد لقوى 8 آذار، كما لدى الوسط الشعبي المتوجس من الإرهاب ان تنظيمات سرية تنتمي الى ‘القاعدة’ هي التي تشنّ على لبنان حملة ارهاب واسعة، وان عناصر محلية واخرى عربية تشارك في عمليات العنف الاعمى المتلاحقة. إن نظرةً متأنية الى التهديدات الصادرة عن تنظيمات ‘الإسلام القاعدي’ تشي بحقيقة بازغة، هي احتدام حرب شرسة من المتوسط غرباً الى العراق شرقاً، تقودها اطراف ارهابية تجاوزت الحدود السياسية التي كان ارساها اتفاق سايكس بيكو، وحوّلت العراق وسوريا ولبنان ساحةً واحدة مفتوحة على شتى النشاطات والعمليات الإرهابية.
في العراق، تستهدف تنظيمات ‘الإسلام القاعدي’ حكومـة نوري المالكي بما هي، في رأيها، موئل لنفوذ ايران، وحليف رئيس لها، وحاضنة لقوى شيعية سياسية في وجه اهل السنّة والجماعة.
في سوريا، تستهدف التنظيمات نفسها نظام الرئيس بشار الاسد بما هو، في رأيها، حليف ايران الشيعية وقوى المقاومة اللبنانية (حزب الله) والفلسطينية (حركة الجهاد الإسلامي) التي تحظى ايضا بدعم ايران.
في هذا المنظور السياسي والمذهبي، تلقّت تنظيمات ‘الإسلام القاعدي’، ولاسيما ‘الدولة الإسلامية في العراق والشام داعش’ و’جبهة النصرة’، دعماً مالياً وعسكرياً من دول اقليمية محافظة، كما تلقّت ‘معدات غير فتاكة’ من امريكا. غير ان إفراط هذين التنظيمين في ممارسة العنف الاعمى لأغراض محلية ضيقة ادى الى التفريط بأغراض امريكا الاقليمية الامر الذي حملَ واشنطن، بنصيحة من لندن، على إلغاء عقد ايجار الخدمات المعقود معهما. فقد اوقفت امريكا، على ما يبدو، عملية تسليحهما عبر تركيا، واتخذت بريطانيا قراراً صارماً: اسقاط الجنسية عن مواطنيها المشاركين في مشهدية العنف الاعمى الدائرة في سوريا والعراق.
هذه حال سوريا والعراق مع تنظيمات ‘الإسلام القاعدي’، فما حال لبنان؟
لئن دعت واشنطن مؤخراً قادة دول المنطقة الى وقف تمويـل ‘داعش’ و’النصرة’، فإن دعوتها تلك ما كانت لتعني تنظيمات ‘الإسلام القاعدي’ التي تعمل في لبنان لحسابها الخاص، كون اغراضها لا تتفق بالضرورة مع ما تبتغيه واشنطن ولندن وباريس التي يهمها استقرار لبنان لكونه يخدم حلفاءها المحليين. غير ان هذا الموقف الاطلسي لا تتبناه قوى عربية محافظة معادية لسوريا وايران وحزب الله في لبنان، اذ من الممكن ان تلتزم تنظيمات ‘الإسلام القاعدي’ تنفيذَ عقود ايجار خدمات لمصلحة تلك القوى المحافظة المعنية بأغراض محلية محددة. فماذا تراها تكون؟
من المعلوم ان المشهد اللبناني يتقاسم حركته السياسية تكتلان رئيسان: قوى 8 آذار وقوى 14 آذار. التكتل الاول يحتل في الواقع ثلثي مقاعد حكومة نجيب ميقاتي التي استقالت منذ تسعة اشهر، وقد عجز الرئيس المكلف تمام سلام (المحسوب على قوى 14 آذار) عن تأليف حكومة بديلة منها. التكتل الثاني يرفض مشاركة التكتل الاول في اي حكومة ايّاً كانت حصته فيها قبل ان يبادر احد ابرز اركانه، حزب الله، الى سحب قواته العاملة في سوريا. ويترَدَد ان ‘الفيتو’ الذي تشهره قوى 14 آذار في وجه حزب الله جاء استجابةً للسعودية التي تدعم المعارضة المسلحة ضد نظـام الاسد.
ازدادت الازمة تعقيداً مع اعلان رئيس الجمهورية ميشال سليمان عزمه على اقامة حكومة ‘امر واقع’ من خارج تكتليّ 8 و 14 آذار كي تتولى، بحسب احكام الدستور، صلاحيات رئيس الجمهورية في حال تعذّر انتخاب رئيس جديد قبل انتهاء ولايته في 25 مايو/ ايار 2014. تكتل قوى 8 آذار رفض توجّه سليمان وحذّره من مغبة التسبّب بفتنة لا يُحمد عقباها. السبب؟ لأن الارجح عدم توفر النصاب في مجلس النواب للتصويت بالثقة (او بعدم الثقة)، فلا يجوز تالياً ان تتولى حكومة غير ميثاقية ولم تنل ثقة البرلمان صلاحيات دستورية منوطة برئيس الجمهورية.
في غمرة الازمة، اوحى نائب رئيس مجلس النواب فريد مكاري بعد مقابلته سعد الحريري في السعودية بأن زعيم قوى 14 آذار قد ليّن موقفه واصبح مستعداً لإشراك تكتله بحكومة جامعة مع قوى 8 آذار. غداة هذا التبدل المحتمل في موقف الحريري، اودى الاغتيال المدوّي بأبرز مستشاريه على بعد امتار معدودة من منزله، حيث يجتمع اركان 14 آذار.
لم يتردد بعض اركان 8 آذار، بعد ثبوت علاقة ‘فتح الإسلام’ بالسيارة المسروقة الجانية، في اتهام عناصر ‘قاعدية’ بإسداء خدمة مأجورة لقوى اقليمية ومحلية محافظة لا تريد للبنان حكومة وفاق وطني تضم حزب الله. تلك القوى، في رأي 8 آذار، هي المستفيد من جريمة الاغتيال سنداً لأسباب خمسة:
اولاها، اتهام حزب الله وسوريا وايران بأنها تقف وراء جريمة الاغتيال، وهي تهمة يسهل تسويقها في اوساط لبنان الشعبية المعادية للقوى المذكورة.
ثانيها، ان اتهام حزب الله وسوريا وايران بالجريمة يردع قوى 14 آذار عن المشاركة في اي حكومة يكون لحزب الله حصة فيها.
ثالثها، ان الاتهام المشار اليه يشجّع الرئيس سليمان على اقامة حكومة ‘امر واقع’ لا تضم حزب الله، بل ربما تكون معادية له.
رابعها، ان حكومة ‘الامر الواقع’ تساعد الرئيس سليمان على تمديد ولايته الامر الذي يُسعد خصوم حزب الله.
خامسها، الا ضرر من احتمال فشل التمديد للرئيس سليمان اذ في مقدور حكومة الامر الواقع ‘الملغومة’ ان تتولى صلاحيات رئاسة الجمهورية في حال شغورها على نحوٍ يخدم مصالح قوى 14 آذار.
اسباب ودوافع ومصالح كثيرة يسوّقها كثيرون. لكن الازمة تستمر وتتفاقم وتدفع لبنان الى المجهول.
‘ كاتب لبناني
حدثنا المقال عن حال سوريا والعراق مع تنظيمات ‘الإسلام القاعدي’ لكنه لم يحدثنا عن حال سوريا والعراق مع تنظيمات ‘الإسلام الولي الفقيهي’ وماتتضمنه اللائحة الطويلة لهذه التنظيمات: حزب الله اللبناني (هو على لائحة الارهاب الأمريكية ولو انه قد يفتخر في ذلك), الحرس الثوري الايراني, لواء أبو فضل العباس, عصائب أهل الحق, الحوثيين من اليمن…وغيرهم.